سقوط دولة وقيام أخرى

تكبير الخط تصغير الخط

سقوط دولة وقيام أخرى في عام 1342هـ الموافق 1924م أعلن أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية وإنشاء دولة علمانية في تركيا، وفي الأثناء كانت ولادة دولة إسلامية فتية في جزيرة العرب، جمعت غالب بلاد العرب – إلا قليلا – تحت لوائها، فهذه الولادة لم تكن بأقل أهمية وشأنا من ذلك الإلغاء، لكن لحكمة ربانية أخذ إلغاء الخلافة حيزا من الذكر واشتغل الناس به في كل العالم الإسلامي؛ حيث إنه مثل كارثة كبرى على الجميع. فلأول مرة في التاريخ يعيش المسلمون بلا خليفة ينتسبون إليه ولو بالشرف، وكانت أوربا تعمل قرونا على هذا الهدف، حتى تحقق لها بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، فتكالبت عليها المشكلات من الداخل ومن الخارج، فضعفت فكانت أشبه بالرجل المسن المريض، وهكذا كانت تسمى في أواخر عهدها، فلما تمكن مصطفى كمال أتاتورك من الحكم، مهد ثم سارع إلى إلغاء الخلافة الإسلامية، فاستيقظ العالم الإسلامي وكأن كل بيت فيه، قد فقد أبا عزيزا، فجاء النعي والرثاء على ألسنة الشعراء والأدباء والعلماء، ودخل الغرب في موجة فرح غامرة؛ لنهاية أليمة لعدوهم الأول. لكن في الأثناء – وعلى حين غفلة من الغرب- كانت دولة فتية في طور النشوء والارتقاء، تحمل من الخصائص الإسلامية ما لم تكن تحملها الدولة العثمانية نفسها، سميت بعد حين بـ “المملكة العربية السعودية”؛ قامت على أمور هي من خصائص العهد الأول وصدر الإسلام، قامت على: نصرة التوحيد وقمع الشرك، وإعلاء السنة والخفض من البدعة، وتحكيم الشريعة ونبذ القوانين الوضعية، على منهج أهل السنة والجماعة؛ منهج الصحابة والتابعين ومن تبعهم، وتطبيق الحدود في الجنايات، ومنع المنكرات الأخلاقية، وحجاب النساء ومنع الاختلاط، وأكثر من ذلك: قامت على التحالف الوثيق بين الأمراء والعلماء. تلك الخصائص – أو بعضها – كانت آخذة في الانحسار في العالم الإسلامي كافة، ليس من حين إلغاء الخلافة الإسلامية، بل من قبل ذلك قرونا، فكثير من بلاد الإسلام أخذ فيها الشرك والبدعة مكانا، وبلاد احتلها المستعمر فصار همه إنشاء المحاكم الوضعية والقضاء على المحاكم الشرعية، وخلع الحجاب ونشر التبرج والسفور والاختلاط، حتى عاد الإسلام غريبا في كثير من بلاد الإسلام، مما اضطر القادر للهجرة إلى مكة والمدينة يبتغي صفاء الإسلام ونقاء الإيمان. قامت دولة التوحيد والسنة على الضد من إرادة الغرب ومقاصده، فلم يكن يحبذ قيام بلد بخصائص الإسلام الحقة، وهو للتو قضى من دولة الخلافة الإسلامية، لكنه كان عاجزا لشغله بما هو فيه من الحروب – الحرب العالمية الأولى قبل، والحرب الثانية بعد – عن أن يلتفت إلى تفاصيل كيان ونظام قام حديثا لضبطها كما يشتهي، وربما كان لا يزال غارقا في أفراحه لزوال الخلافة، ولله الأمر من قبل من وبعد. وهو اليوم كاره لبقائها على هذه الصورة الإسلامية الناصعة: تدعو إلى التوحيد وتسنده، ولا تسمح بالشرك في طولها وعرضها، وتقوم بالسنة وتقعد بالبدعة، وتعلن تطبيق الشريعة والحدود، وتلزم النساء بالحجاب، ولديها جهاز للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد طبعت من كتاب الله تعالى ما يزيد على ربع مليار نسخة، وتطبع كتب الإسلام وتنشره في العالم كله، وترسل الدعاة للدعوة إلى الله على بصيرة، هذه وغيرها أمور تقلق الغرب وأعداء الإسلام، وكل مناهم ما قاله تعالى: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً}. لهذا انعقدت قلوبهم على المكر والإضرار والإفساد، ولقد انتشرت خططهم ومقاصدهم في تقسيم البلاد وإدخالها في فوضى، كما قسمت بلاد، وأخرى قريبا ربما، وما الأحداث التي تدور على الأطراف اليوم شمالا (= العراق) وجنوبا (=اليمن) إلا محاولات لتنفيذ خطط آثمة، بأيد أبناء المسلمين، وبعضهم من بني جلدتنا، يحرضهم فيها ويرشدهم إما رافضي يعبد مخلوقا، أو مجوسي صفوي يعبد نارا، ومن ورائهم صهيوني همه هم إبليس: أن يضل سائر الناس: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين}، كلهم يظهرون التقوى والإيمان والصلاح، وإنما يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، فلا يفطن لهم الغر من الشباب، فيحسبهم ناصحين صادقين، فيتبعهم على عمى وجهل. إن من أوجب الواجبات اليوم حماية دولة التوحيد والسنة، فإنها الحصن الأخير للسنة – والرافضة يعلمون ذلك، وهم حانقون، وودوا لو زالت من الوجود – وفيها من الخصائص والمزايا ما يصعب ويعسر تكررها في أخرى، بحسب الموازين الحالية، إلا أن يشاء الله. فالغرب الصهيوني ما أن يسمع ببلد وليد، أو مقاطعة في دولة وسط أفريقيا أو آسيا، يعلن تطبيق الشريعة، أو شيئا من أحكام الإسلام: حتى يسعى بخيله ورجله ليبطل كل ذلك، ويرجع بالناس إلى الجاهلية والتخلف بالشرك والعري والفساد، وقد فتح سمعه وبصره وكل حواسه على حركة كل ذرة على وجه الأرض، بقدر ما يستطيع، ليمنع إسلاما كالإسلام الذي نعيشه في هذه الدولة المباركة، وهو في حسرة شديدة أن قامت دولة فيها كل ما يكره، وقاطع العزم والنية والعهد على نفسه: أن يخنق كل بلد فكر أو قدر أن ينعتق من العلمانية الليبرالية، ليرجع إلى أصوله وتاريخه. ففي ظل هذه النوايا الخبيثة: إن أرجى هدف يرجوه، هو تغير شامل في بنية هذه البلاد؛ لتعود كسائر البلاد حولها، علمانية ليبرالية، لا تحكم شرعا، ولا تحفظ سنة، ولا تقيم توحيدا. إن له أملا في إسقاط الدول الكبرى في المنطقة وتقسيمها، كما يفعل اليوم في العراق وسوريا واليمن، وهو يسعى في ذلك حثيثا، وقد اتخذ لهذه المهمة الخطيرة، التي إن لم نتكاتف على إبطالها، لربما بلغ مقاصده خذله الله، وسائل منها: تجييش طائفة من أبناء الأمة وبني جلدتها. * * * والذين جيشهم أربعة أصناف، هم: الشيعة، وغلاة التكفير، والليبراليون، وأهل التنوير. فأما الشيعة، فقد صدقهم الناس حينا: أنهم وطنيون، فالوطن أولاً قبل المذهب والمراجع. لكن الأحداث الأخيرة دلت يقينا: أنهم قوم طوع للمراجع ولو خارج البلاد، والمذهب عندهم مقدم على البلاد والوطن، ودعواهم الوطنية ما هي إلا تقية ظاهرة. فهؤلاء قد عاثوا في العراق فسادا، حتى قلبوها جحيما مفتتا؛ ليتم لهم حكمها، ويؤخروا السنة عن مواقع القيادة، وهكذا اليوم يفعل إخوانهم الحوثيون في اليمن، وهم على أبواب صنعاء، وأرادوها كذلك في البحرين، ويريدوها في كل مكان هم فيه، إنما يحركهم قول مرجع يقبع خارج البلاد، ومستعدون للتحالف مع الغرب؛ لإسقاط حكم السنة في أي بلد ليقوم حكمهم، فعلوها في مواطن عديدة؛ لذا فإنهم خنجر في ظهر الأمة، إن لم تتنبه وتحتاط لذلك. وأما غلاة التكفير، فإن هؤلاء اليوم هم البلية التي ابتليت بها الأمة، الذين عطلوا وأفسدوا الجهاد الحق، واستعاضوا بدلا منه بجهاد المسلمين، فقتلوا المسلمين ممن لم يكن على رأيهم حيث قدروا، فتراهم يتتبعون أهل السنة بالقتل دون غيرهم، بدعوى أن حكامهم وعلماءهم وأعوانهم كفار، وكل من لم يتبرأ منهم، فهو كافر، وهم لا يتعرضون لرافضي نكل بالمسلمين فقتلهم، كما هو الحال اليوم في اليمن، حيث يقتل الحوثيون السنة في عمران، وهؤلاء الغلاة موجودون هناك، لكن لاهم إلا الهجوم على الحدود وقتل الجنود، تاركين العدو الحقيقي الذي عاث في دماء السنة. فهؤلاء يمارسون دورا خطيرا، وهم آلة صماء في يد العدو المجوسي الصفوي والنصيري ومن ورائه الصهيوني، وكم عطلوا أهدافا محوريا للسنة؛ قد يأجهضوا جهاد المحتل في العراق، واليوم يجهضون ثورة السنة في سوريا ضد النصيرية، فكفى الله المسلمين بأسهم. أما الليبراليون، فخطرهم في كونهم يعملون على هدم الأساس الذي قامت عليه البلاد، وهو: الدين، والتوحيد، والسنة، والشريعة، والفضيلة. بنشر وتوطيد ما هو ضد ذلك، ومعلوم عند أهل الحكمة والدراية: أن بقاء الدولة مرتهن ببقائها على مبادئها التي قامت عليها. وأخيرا الصنف الرابع الذي يتخذه الغرب ذريعة لإضرار بالدولة وهو: أهل التنوير، أو الثوار، الذين يخططون لإثارة الرأي العام، تمهيدا لثورة الأمة، كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن، ويكفي في بيان خطر هذا التحرك الثوري، ما نراه في هذه الدول من القلاقل والفتن وانعدام الأمن، وهم في الاضطراب والاختلال إلى ما شاء الله، ولن يهدأ حالهم، حتى يكون لهم رئيس مستبد يدخلهم في الطاعة قسرا، هذه هي سنة الحكم، ثم بعده إذا حملهم على الديمقراطية استقام أمرهم، أو يحصلوها عليها من طرق سلمية، أما مغالبته فلا تعود إلا بالاضطراب. إن من المكتسبات الكبيرة لقيام هذه الدولة المباركة: جمع أشتات الناس والقبائل والعشائر تحت لواء واحد، واتحادهم على دين وملة واحدة. وأي اختلال في الكيان بتغير أو سقوط، فذلك يعني نهاية هذا الاتحاد، ونشوء كيانات أخرى صغيرة في شكل دول لا تملك مقومات الدولة القادرة، وهذا ما يريده الغرب، وخريطة برنارد لويس شاهدة على ذلك. وإذا تحدث الناس عن السلبيات والأخطاء، فهي موجودة، لكن ليس من العقل، أن تهدم بيتك على رؤوس أولادك؛ لأن فيه عيوبا! هذا مجاف للحكمة، وهو إلى الحماقة أقرب وبها أشبه، فلتمض في إصلاح العيوب بالأدوات الصالحة لذلك، واجتنب العجلة وأفعال المراهقين، واتعظ بمن حولك، ولا تطلب كمالا من حاكم – أو غيره – أنت عاجز عنه في نفسك.

أ د لطف الله خوجة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.