آخر الأخبار
المملكة العربية السعودية ، فلسلفة النشأة ، تنظيراً وتطبيقا.
المملكة العربية السعودية.. فلسلفة النشأة تنظيرًا وتطبيقًا
للتحميل كملف PDF اضغط هنا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
المفهوم الأوسع للعصبية عند ابن خلدون:
إن مما يؤكِّد عليه المنظِّرون لحركة التاريخ ذلك الارتباطَ القويَّ بين الأفكارِ وقيامِ الدول والحضارات ونهوضِ الأمم، وقد أكَّد على ذلك ابنُ خلدون في مقدمته حين ذكر أن الدول تقوم على عصبيَّةٍ؛ والعصبية وإن كانت وفق تعريفِ ابن خلدون لها هي النعرةُ للقرابة، إلا أن حقيقةَ العصبية التي تنشأ عليها الدول أوسعُ من ذلك بكثير، وما العصبية للقرابة إلا واحدة من أسباب نشوء الدول؛ بل قد تكون أضعفَها، وأما المعنى الأوسعُ فهو الاتحاد على فكرة جامعة، أي: فكرة ذات جذب تستطيع أن تُجَنّد لأجلها العددَ الغفير من الخلق الذين يُمكن أن تتأسَّس بهم دولة، يُغالبون الناس ويقدِّمون أنفسهم وأموالهم من أجلها، وإذا بلغت القبليَّة حدَّ أن تتكوَّن عليها فكرة يتحمَّس الناس لها، فيمكن حينئذ أن تتأسَّس الدول عليها، أما التعصُّب المجرَّد للقبيلة فقد يكون هادمًا للدول لا مؤسِّسًا لها؛ فقد كان التعصب للقبيلة في أشدِّ درجاته في العصر الجاهلي في جزيرة العرب، ولم تستطع هذه العصبية أن تُقيم دولةً؛ بل الدولة الوحيدة التي ثَبت تاريخيًّا قيامُها في جزيرة العرب في العصر الجاهليِّ ولدينا أخبارٌ مجملة عنها هي دولة كِندة الشماليَّة، ومعلومٌ أن كِندة قبيلة يَمنية ليس لها وجود في وسط الجريرةِ العربية، وليس لها عصبية، ولم تحكم مناطق نفوذها في نجد وشمال جزيرة العرب بقوَّةٍ عسكرية؛ وإنما كان ذلك بفكرةٍ سيطرت على شيوخ قبائلِ مَعَد، وتتلخَّص في تمكين العدل والأمن عن طريق الوفود إلى ملك اليمن، والالتماس إليه أن يولِّي عليهم ملكًا يعطونه الشاء والبعيرَ في مقابل أن يأخذَ الحقَّ لضعيفهم من قويِّهم. وقد نجحت هذه الفكرة في بناء المملكة، لكنَّ تخلِي ملوك كِندة عنها واعتمادَهم على الاستقواء على القبائل بعلاقاتهم بالدول الكبرى آنذاك -الفارسية والبيزنطية- نابذين أصلَ العقد الذي كان بينهم وبين العرب أدَّى إلى انهيار الدولة، وقد صاحب هذا التغيرَ تَغَيُّرٌ في الحليف الإستراتيجي أيضا، حيث انتقلت دولة كندةَ من حِلفها مع التبابعة إلى التنقل بين البيزنطيِّين والفُرس، ولم ينتفع أخرُ ملوكها -وهو الشاعر امرؤ القيس بن حجر- بمحاولاته الاستنصارَ بالبيزنطيين لاستعادةِ عرشه، كما لم يستفد جدُّه عمرو من تغييره دينِه والانتقال إلى الزرادشتية من أجل إرضاء الفرس.
نريد من هذا المثال الوصولَ إلى خطأ تفسير العصبية التي لا تقوم الدول إلا بها في كلام ابن خلدون بعصبية القبيلة وقصر معناها على ذلك؛ ولو تقدمنا إلى التاريخ الإسلامي لوجدنا الدولة الأموية التي كانت وقتَها أقوى دولةٍ في العالم منذ قيامها حتى سقوطِها لم تقم على عصبية القبيلة، وأيّ عصبية لبني أميَّة وهم فرع من بني عبد مناف من قريش؟! وكان أبناءُ عمِّهم من بني عبد مناف -الذين هم في الشرف القبلي والمكانة الدينية أعلى كعبًا من بني أمية- مناوئين لهم؛ كما لم تكُ قريش راضية عن سلطانهم، وقد حاولوا أن يجعلوا من النزارية عصبيَّةً لهم، فلم يفلحوا في ذلك، وكان أولَ خصومهم نزارٌ أنفسهم، وحاولوا استبدال اليمن بنزار في عهد الوليد بن يزيد ومن جاء بعده فلم يفلحوا؛ وإنما قامت رئاستهم على العصبية للأفكار؛ وكانت الفكرة الأولى التي حقَّقت الاجتماع تحت رايَتِهم مظلوميةَ عثمان رضي الله عنه وكونهم أولياءَه، فقد كانت هي دعوى معاوية رضي الله عنه، ثم دعوى مروان بن الحكم مؤسِّس العهد الأموي المرواني، إلَّا أن مروان ساعده أمر آخر وهو الفراغ السياسي في الشام حيث العدد والعُدَّة والمنعة، إذ لم يكن في الشام إذ ذاك أكفأُ منه للقيام بهذا الأمر؛ وقد عرض الخلافةَ على عبد الله بن الزبير الحصينُ بن نمير السكوني -قائدٌ يزيد- بعدما وصله خبر موت يزيد وهو على حصار مكة، وقال له: ائت معي إلى الشام أملكك رقاب العرب؛ لكن ابن الزبير رضي الله عنه أبى، وقد كان الرأي -والله أعلم- ما نصح به الحصين؛ لأن الشام إذ ذاك مجتمعُ القوّة والعمل بأحاديث السمع والطاعة؛ وأراد مروان بن الحكم أن يبايع لعبد الله بن عمر بن الخطاب في الشام؛ لكنه رضي الله عنه أبى، فتحقق الفراغ السياسي، ولم يبق في الشام من تجتمع عليه الكلمة غير مروان، فاجتمع عليه الناس، ثم على ذريته، وكانت فكرة الفتح والجهاد هي سندهم في استمرار الملك والطاعة لهم، فلما انغلقت الدولة عن الجهاد بدءًا بيزيد الناقص كان ذلك من أعظم أسباب رواج الفكرة المضادَّة وهي الرضا من آل البيت، والتي كانت معقدَ حكم العباسيّين ومصدر قبولهم، إلى أن رأى الخليفة المعتصم تغيير العناصر القوميَّة التي قامت عليها الدولة، وأثبتت حماستها لفكرتها، وكانت تُظهر لها الهيبة وتُكِنُّها، وهم العرب والفرس، والانتقال منهم إلى العنصر التركي الذي كان حديثَ عهد بإسلام، ولم تكن الفكرة التي قامت عليها الدولة تعني لهم شيئًا؛ بل لم يكونوا يعرفون قيمةَ الدول ومكانتها الدينية والحضارية حتى يحفظوا هيبتها، فما كان منهم إلا أن تحوَّلوا سريعًا إلى أقوى معاول الهدم التي بقيت الدولة العباسية بعدها أشبه ما تكون بالزينة التي ليس لها أي أثر جوهري بقيةَ مدَّة حياتها، وجعلت خلفاء بني العباس كاللعب بين يدي غلمان الجيش.
فالعصبية للأفكار هي التي تُقِيم الدول، وهي التي تُقعِدها، وأما العصبية للقبائل والأعراق فقد تُسهم في النشأة، لكنها لا تُساعد على البقاء، إلا إذا تطورت إلى فكرة كما هو الحال في ملوك أوروبا الذين يبقون في خطر الزوال ما داموا معتمدين على عناصرهم القبلية، حتى يقوم البابا بإضفاء القداسة على هذا الحاكم أو الأسرة الحاكمة، فيصبحون عائلة مقدَّسة، بمعنى آخر: ينقلبون من عائلة إلى فكرة، وهي طريقة في استقطاب المحكومين كانت تستخدمها الشعوب القديمة في شرق آسيا وبلاد الرافدين، وحكاها القرآن الكريم عن نمرود العراق وعن فرعون مصر؛ وكثيرون يعتقدون أن ليس هناك بُعدٌ لهذه الظاهرة القديمة أكثر من كونه طغيانًا من الحاكم وجهلًا من المحكومين؛ لكن الأمر أبعدُ من ذلك، فهو تعويضٌ عن فقدان الفكرة السياسية المؤهِّلةِ للبقاء، فيعمدون إلى ملء هذا الفراغ بالتعاون مع الكهنة لتأليه الحاكم، ومع وضاعة هذه الطريقة فهي تبقى مثالًا على إدراك السياسيين منذ أقدم العصور لضرورة العصبية للفكرة في بناء الدُّول.
أملك مثالًا مُهمًّا قد يُعترَض به على هذه النظرية الخَلْدُونية، وهو دولة المماليك، فهم يفتقرون للعصبية القبلية كما يفتقرون للعصبية للفكرة، ومع ذلك فقد كان زمن بقاء دولتهم من أطول الأزمان التي عاشتها الدول في التاريخ الإسلامي (من سنة ٦٤٨هـ حتى سنة ٩٢٢هـ) أي: أقل من الثلاثة قرون بقليل، والحقيقة أن دولة المماليك كانت نمطًا عجيبًا في الحكم ونشوء الدول على مستوى التاريخ السياسي الإنساني؛ لكن ذلك لا يعني أنها كانت قائمةً على غير العصبية، فالتعصب للعنصرين التركي والشركسي -وزعم أهليتهما وحدهما للدفاع عن قلب العالم الإسلامي في مواجهة المد المغولي والمد الصليبي- كانت هي فكرة تكوين الدولة آنذاك، وقد ساعدهم تفرُّدُهم بالتأهل العسكري، وإمساكُهم دون سواهم بزمام الجيش، ومحافظتهم على التراتبية العسكرية فيما بينهم في استمرار الحكم بأيديهم، حتى وقع الصراع بينهم وبين الدولة العثمانية التي تشترك معهم في كلِّ مقوِّمات عصبيَّتهم، وتزيد عليهم بحداثة التجنيد وقربِ العهد بالانتصارات على الصليبيّين والصفويّين اللَّذَين كانا يُشكِّلان الخطر المحدق بقلب الأمَّة الإسلامية.
كيف تقوم الدولُ على عصبية تجديد الدين؟ وكيف تفشل؟
يبدو لي أنَّ ما يعرف بنظرية ابن خلدون في العصبية التي قدَّمنا الحديث عنها قد غدت بالسبر التاريخيِّ حقيقةً علمية في تفسير التاريخ؛ لكن مما يحسن أن يُدْرَس اليوم معرفةُ الظروف المساعدة التي تجعل من الفكرة عصبيَّة تنجح في إقامة دولة؛ إذ إن الأفكار موجودة قبل قيام الدول وبعدها وفي أثنائها.
وهذا صحيح، فالأفكار وحدها لا يمكنها أن تُقِيم دُوَلًا إلا إذا تهيَّأت لها القوى الضرورية، وكم من أفكار أُريد لها أن تصنع دُوَلًا إلا أنها فشلت وفشل القائمون عليها، وغالبًا ما ينتج عنها فساد كبير ودمار، حيث تُتَبَنَّى تلك الأفكار كشعارات لإسقاط دول قائمة؛ ومن أقوى هذه الأفكار فكرة إقامة الدين، وهي فكرة واحدة ذات شعارات كثيرة شديدة الجاذبية قوية التأثير، وهي أكثر شعار رُفِع في محاولات إقامة الدول، وفي المقابل أكثر الشعارات فشلًا دونَ النجاح، ولو راجعنا تاريخَ قيام أقوى الدول الإسلامية لوجدنا هذا الشعار غيرَ موجود في كثير منها ومتنحيًا -أو ليس رئيسًا- في كثير منها أيضًا.
فالدولة الأموية والعباسية والطاهرية والإخشيدية ودولة الأغالبة والأدارسة والأمويّين في الأندلس والبويهيّين والغزنويين ودول السلاجقة، والمغول في الهند، والمماليك، وغير هذه من الدول التي نجحت في التَّكَوُّن لم تكن فِكرة إقامة الدين هي عصبيتها التي قامت عليها، وإن كان من هذه الدول من خدم الدين والعلم وعمل عملًا صالحًا، فلسنا هنا في مجال تقييم أداء تلك الدول في إقامة الدين وخدمته؛ ولكننا في وارد السؤال عن عصبية مؤسسي تلك الدول واجتماع الناس عليهم: هل كان على أساس إقامة الدين وإنكار المنكر أم على عصبيات وأفكار أخر؟
وأقول: ربما لا نجد مثالًا لمحاولات ناجحة سوى القليل ومنها: دولة المرابطين، ودولة الموحدين، والدولة السعوديّة. أما المحاولات الفاشلة بهذه الدعوى فكثيرة جدًّا.
فدولة المرابطين (٤٣٣هـ-٥٣٩هـ) قامت على دعوة الشيخ الفقيه العالم عبد الله بن ياسين الجزولي (ت: ٤٥١هـ) لإحياء الدين الذي اندرس في الصحراء الكبرى حتى لم يعد الناس هناك يعرفون منه إلا الشهادتين، وكان من عوامل نجاحه قوة الرجل وصدقه في دعوتِه، ويُسر الإسلام الذي يدعون إلى تجديده وحيَوَيَّته، وتلبيته لحاجات الروح والجسد، وقوة الأمراء الذين اختارهم ابن ياسين للقيادة السياسية والعسكرية، وهم: يحيى بن إبراهيم الجدالي (ت: ٤٤٠هـ)، ويحيى بن عمر اللمتوني (ت: ٤٤٧هـ)، وأبو بكر بن عمر اللمتوني (ت: ٤٥٣هـ)، ويوسف بن تاشفين (ت: ٥٠٠هـ). وهنا أمر مهمٌّ، وهو افتقار منطقة المغرب والصحراء إلى دولة؛ إذ لم يكن في غرب إفريقيا بأسرها من غانا جنوبًا حتى طنجة شمالًا دولة بالمفهوم الحاضر للدولة، وإنما كانت إمارات قبلية، تتحقَّق معها حاجة المنطقة إلى دولة لا تقيم الدين وحسب، بل تصنع الأمن المفقود، وتحقِّق الوحدة، وهذا ما جعل المشروع المرابطي ينجح؛ إذ لم يقم في ظل دولة لا يشعر الناس مع وجودها بحاجة إلى التضحية من أجل المشروع الجديد، وهذه العوامل لم تجتمع في الحركات الكثيرة جدًّا، والتي فشلت في إنشاء دولة تحت شعار إحياء الدين.
أما دولة الموحدين (٥٣٩هـ-٦٦٧هـ) فإنها قامت على دعوة الضالِّ المضلِّ مدَّعي المهدية محمد بن تومرت (ت: ٥٢٤هـ)، وهي التي أسقطت دولة المرابطين وهي في عنفوان قوَتها، ولم يمض على وفاة يوسف بن تاشفين سوى بضعة وثلاثين عاما، ومن عوامل نجاحها -مع كذب ابن تومرت في دعواه وصدق المرابطين- أن المرابطين عملوا حقًّا على إحياء الشعائر الظاهرة من الصلاة والصيام ومظاهر العبادات، وأماتوا العادات المخالفة للدين، وقمعوا المنكرات، وذلك كله في الصحراء التي هي موطنهم الأصل، وفي الحواضر الكبيرة والظاهرة وما إليها؛ لكنَّ انشغالهم بتوحيد الأقطار ومجاهدة الخصوم ورد أهل الفتن أذهلهم عن ثغرات ثلاثٍ مهمَّة دخل منها ابن تومرت، وأشعر من خلال ولوجِه منها بأن سيادةَ فكرته غدَت حاجةً تؤهلها لتأخذ مكان المرابطين.
الثغرة الأولى: عدم عنايتهم في دعوتهم الإصلاحية بالتوحيد وتصحيح العقائد، بل وكَلُوا الناس في ذلك كله إلى سالف إيمانهم، واكتفوا بأن يعيدوهم إلى فعل الشعائر الظاهرة ونوافلها، وينهوهم عن تعدِّي حدود الله الظاهرة أيضا، وقد كانت كثير من قبائل المغرب الأقصى والأوسط مفتَتنَةً بمذهب المعتزلة والخوارج الإباضية والخرافات الجاهلية من بقايا ما خلفته فيهم الدول السابقة، فلم يجد كلّ ذلك العناية المناسبة من المرابطين وعلمائهم، مع أنهم في أنفسهم وجيوشهم التي معهم على مذهب السلف رضي الله عنهم، إلا أنهم لم يكونوا يعتنون بأدلة مذهب السلف في التوحيد والإيمان ورد الشبهات التي يوردها أهل البدع، ولا يعتنون به كمنهج للتربية.
فجاء ابن تومرت يطرح شُبَه المعتزلة والأشاعرة في الأسماء والصفات ومسائل القضاء والقدر أمام العوام؛ ليوهمهم أن ما عليه دولتهم وعلماؤها شرك بالله وتجسيم وتشبيه للخالق بالمخلوق يوجب قتالهم، وهم به مرتدّون، وقتالهم أولى من قتال اليهود والمجوس، ثم يقوم بمناظرة العلماء أمام العامة؛ بل وفي مجلس علي بن يوسف بن تاشفين، فلا يستطيعون رد شبهاته لضعفهم في ذلك، وامتلائه هو بحجج المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة وإيراداتهم.
الثغرة الثانية: ضعف العناية بتعليم الأمة، فلم يكونوا يرسلون دعاتهم إلى القبائل الساكنة في الأحراش أو أعالي الجبال أو أعماق الأودية؛ بل لم يُعرَف لهم حركة مشهودة في إنشاء المدارس حتى في الحواضر التي يفتحونها، والمدرسة الوحيدة التي تُذكر في عهد يوسف بن تاشفين هي مدرسة الصابرين، ولا يعرف مكان بنائها(1)، فكان ابن تومرت يتعمَّد الذهاب إلى تلك المناطق كوادي تينمل، فيستغل جهل تلك القبائل المعروفة بقوتها وبأسها، فيلقي عليهم خرافاته وحيله وادِّعاءه تكليمَ الموتى وعِلم الغيب وإظهار المعجزات، فيتجنَّدون معه بكلِّ ما أوتوا من قوة.
الثغرة الثالثة: ضعف الجانب الاستخباراتي في الدولة، وانشغال أُمرائها وصلحائها بحسد الأسرة الحاكمة على ما آتاهم الله تعالى من الملك؛ مما أخرهم عن ضرب الفتنة بيد من حديد في مهدها، بالتوعية أولًا، والعقوبة والاستباق العسكري ثانيًا، فلم يفطنوا لها إلا وقد أصبحت جيوش الموحدين على مشارف عاصمتهم مراكش، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الدولة السعودية وتجديد الدين:
تحدثنا عن دولتين في معرض التمثيل للدول التي قامت على ما يُطلق عليه وفق مصطلح ابن خلدون: العصبية للدين؛ ونُسَمِّيه نحن هنا “فكرة تجديد الدين وإحيائه”، أُولى هاتين الدولتين كانت مثالًا للصدق في رفع هذا الشعار والنجاح النسبي في المشروع، والأخرى كانت مثالًا للضلال في رفع هذا الشعار، ونجحت في إنشاء الدولة على أنقاض دولة المرابطين، لكنها لم تنجح في الحفاظ على أفكار محمد بن تومرت التي نشأت عليها؛ لما فيها من الخرافة التي لا تتناسب مع دولة حَضرية حديثة، الأمر الذي جعل الأمير يعقوب بن يوسف (ت: ٥٩٥هـ) يصحح كثيرًا من أباطيل المؤسس الفكري للدولة، ويعود بالناس إلى الكتاب والسنة إلى حد كبير.
أما الدولة الثالثة فهي الدولة السعودية، وهي عند الحديث عن عصبية التكوين دولةٌ فريدة لا يُشابهها أو يقاربها دولة مما مر في تاريخ الإسلام؛ وذلك أنها قامت على العصبية لأمرين: العصبية للتوحيد، والعصبية للوحدة، فالتوحيد إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والوحدة جمع المسلمين من أبناء جزيرة العرب على كلمة وراية واحدة، وساعد في نجاح نشأتها عام ١١٥٧هـ أنها وافقت فراغًا سياسيًّا وانهيارًا أمنيًّا وضياعًا عقديًّا ودينيًّا، ورفعت بقوة وصدق شعار التغيير لكل ذلك، وأن تستبدل به وحدةً سياسية، وقوة أمنية، واستقامة ورسوخًا عقديًّا ودينيًّا، الأمر الذي جعل منها حاجةً ملحَّة لجميع أبناء جزيرة العرب؛ لذلك كان نجاحها وتوفيق الله لها أمرًا حتميًّا، أدركه قبل وقوعه السابرون لسنن الله تعالى في كونه؛ ومن شمائل نشأتها أنها لم تكن دعوةً للإصلاح من أجل الحكم؛ بل للحكم من أجل الإصلاح، والإصلاح ليس دنيويًّا عُطلًا من الدين، ولا دينيًّا عُطلًا من الدنيا، وإنما إصلاح على نهج نبويٍّ لا تفترق فيه الدنيا عن الدين، فما كان من إصلاح أمر الدين فهو مما تصلح به الدنيا، وما كان من أمر الدنيا فإنه مما يصلح به الدين؛ لأن الوسيلة عندهم في فهم الدين وفي تطبيقه والوسيلة في تصور الدنيا وحاجاتها والعمل لها كانت محكومة بالاتباع المحض لأنجح فترات الحكم في العالم بأسره، وهي فترة عصر الرسالة والعصر الراشدي.
وحين نتحدث عنها فإننا نتحدث عن ثلاثة قرون ارتبطت فيها الجماعة والدعوة والأمن والرخاء والاستقرار بالأسرة السعودية الحاكمة، كما ارتبط انفراط كل ذلك بانفراطها، والتاريخ يعيد نفسه، والمسببات مرتهنة بأسبابها، فلا يمكن للحديث عن الدولة السعودية وفلسفتها وأسرار نشأتها وعوامل نهضتها إلا أن يكون آل سعود منها بمنزلة الرأس من الجسد، وقد يصحُّ في كثير من الدول المعاصرة أن تتكلَّم عن الوطن بمعزل عن الحديث عن حكَّامِه، إلا أنَّ ذلك لا يصلح هاهنا.
فكما قدَّمنا في بداية الورقة القولَ بأن الأسَر الحاكمة قد تتحول إلى فكرة تكون هي عصبية الدولة، فإن الأمر في مثالنا هذا أصدق ما يكون، فمن يتحدَّث عن فصل الوطن عن آل سعود إنما يتحدَّث عن فصل الوطن بعضه عن بعض.
وشرح ذلك أننا قلنا: إن الدولة السعودية قامت على العصبية لأمرين: التوحيد والوحدة، فأما التوحيد فتمثِّله الدعوة إلى الدّين الخالص، وأما الوحدة فتمثِّلها الأسرة السعودية.
وسوف أنطلق بسرد تاريخيٍّ يتجلَّى من خلاله أنَّ محلَّ هذه الأسرة من الشعب السعودي هو محلُّ العاصمة من الأوطان، فإذا شمخت العاصمة شمخ الوطن، وإذا سقطت سقط، وهكذا هم آل سعود بالنسبة لهذا الوطن، وهم كعمود الخيمة من هذا الشعب، فهو متماسك متَّحد ما داموا متماسكين متَّحدين.
وهذا الأمر كما يلقي بالمسؤولية على أبناء هذه الأسرة ليجعلوا من أنفسهم قدوات في الالتحام واتحاد الكلمة والالتزام الشرعي والأخلاقي، فإنه يلقي بالمسؤولية أيضا على سائر المواطنين كي يكونوا محصَّنين ضدَّ أيِّ شعارات يراد استخدامها كوقود لإحراق بلادنا.
سرد تاريخيٍّ يجلِّي الصورةَ كما تمَّ وصفُها:
آل سعود هم الأسرةُ الوحيدة التي جمع الله بها كلمة أبناء معظم أصقاع جزيرة العرب، وسبب ذلك توَلِّيها مشروعَ الدعوة والدولة، والإحياء الدينيّ والتصحيح العقدي، وهو سرُّ نجاحها في أدوارها الثلاثة، وحين نبحث في رجالات هذه الأسرة الذين تزعموا مشاريع وَحدوية ولم يُكتب لهم النجاح نُدرِك أن سبب فشلهم -أو لنقل: جانبًا مهمًّا من أسباب فشلهم- هو تَرْكُ هذا المشروع، ولنقل: إن أوضح مثال لهؤلاء الأمير خالد بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الذي أرسله محمد علي ليحكم نجدًا بقوة تركية، فلم تغن عنه، وعجز عن السيطرة عليها، وهرب منها أواخر سنة ١٢٥٧هـ.
ولا أعلم مصادر الأمير سيف الإسلام بن سعود في حكايته في رواية “طنين” لأفكار خالد بن سعود وآرائه، فإن كانت نسبتها إليه صحيحة وليست تصورات خاصة بمؤلف القصة فلا شكَّ عندي أنها كانت عاملًا رئيسًا في فشله، لا سيما أمام خصمٍ ضعيفٍ كابن ثنيان، الأمر الذي يؤكِّد أنَّ الانتساب إلى هذه الأسرة كان عاملًا رئيسًا في اجتماع الكلمة في هذه البلاد، مقرونا بالعصبية الفكرية التي كانت أساس سيادتها، وهي الدعوة إلى التوحيد والوحدة، وكون هذه الأسرة قد أضحت رمزًا لها.
واختيار محمد علي لرجل من هذه الأسرة ليكون صنيعةً له في بلاد نجد دليل على إدراك الرجل -أعني الباشا- لهذا الملحظ المهم في تفسير الأحداث، وهو ضرورة تبني هذه الأسرة لأيِّ قوة تُريد أن تحكم نجدًا؛ لكن إشكالية خالد كانت في فقدانه للعنصر الآخر من عناصر عصبية الدولة السعودية وهو التوحيد، فالأتراك الذين يصاحب جيشُهم الأمير خالدًا هم أعداء التوحيد؛ ولذلك لم تنطلِ حيلة الباشا على أهل نجد، وكان ردهم أنهم لا يطيبون بحكم الأتراك(2).
وهناك معلومة تعدُّ عند الكهول من المعلوم بالضرورة الذي لا داعي للوقوف عنده، إلا أننا نجدها اليوم مما يفتقر إليها كثير من شبابنا، كما يفتقر إليها أكثر العرب والمسلمين، وأعني بها: أن بلادنا السعودية كانت قبل تأسيس هذه الدولة المباركة تكاد تكون أكثر بلاد الأرض جوعًا وفقرًا وخوفًا وطردًا للسكان، وبإمكان القارئ الاطلاع على العديد من كتب التاريخ وكتب الرحلات التي تحدثت عن تلك الفترة، فسيجد مثالًا واضحًا لذلك في مناطق نجد، وهي منشأ الدولة السعودية ومحضنها الأول: العارض والقصيم والعالية وسدير والمحمل والحوطة والأفلاج وغيرها، كانت تشمل مئات القرى، كل منها يعتبر كيانا سياسيًّا مستقلًّا أو شبه مستقل، هذا عدا البوادي؛ فلو لم يجمعها الله تعالى تحت راية هذه الأسرة المباركة في الأطوار الثلاثة -وآخرها طور المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله- فماذا كان سيكون واقعها اليوم؟!
بل كان بعض القرى يحكمها أميران وثلاثة وأربعة، يقتتلون على أقلَّ من كيلومتر مربع، ولم تكن البوادي أحسن حالًا؛ بل كانوا كما قال الأول:
وأحيانًا على بكر أخينا إذا ما لم نجِد إلا أخانا
أرض شاسعة تسودها الفرقة والخوف والجوع والنزاع، وحتى المناطق والدويلات التي كانت قبل حكم الملك عبد العزيز تخضع للعثمانيين وفق نظم مختلفة، وهي الأحساء والحجاز وتهامة وعسير، لم تكن تنعم بالأمن أو العناية التعليمية والبنيوية والاجتماعية، بل ولا يمنح شعبها التابعية العثمانية.
ولم تكن العواصم الإسلامية تلتفت إلى نجد قبل الدولة السعودية، فضلًا عن أن تعتني بها أو تسعى لإصلاح حالها؛ بل على العكس من ذلك، فكلما نشأت فيها دولة تسعى للمِّ شعثها بَعثُوا إليها الجيوشَ لإسقاطها وإعادة نجد لسابق حالها من الفوضى والخوف والجوع.
فالدولة العباسية لم تعرف نجدًا إلا حين تمرَّدت بنو نمير وبعض قبائل العرب، فأرسل لهم الخليفةُ الواثق القائدَ التركيَّ بُغا الكبير سنة ٢٣١هـ، وقتل منهم ألفَي رجل، وساق الكثيرين معه أسرى يجلدهم أثناء السير بالسياط، وكان ذلك بدايةَ اندثار تلك القبيلة العربية التي لم يعد لها وجود اليوم.
وظلَّ هذا شأن الدول المتعاقبة على عواصم الإسلام: البويهيين والسلاجقة، والأيوبيين والمماليك، لا يعرفون لهذا الصقع من الأرض مكانًا، ولا يقيمون لأهله وزنًا، فلا نشر للعلم ولا للأمن، ولا عون على الرزق، ويمكنك النظر فيما قاله ناصر خسرو عن حالها في القرن الخامس، وقس عليه ما قبله وما بعده، قال: “وليس لهذه الناحية حاكم أو سلطان، فإنَّ على كل جهة رئيسًا أو سيِّدًا مستقلًّا، ويعيش الناس على السرقة والقتل، وهم في حرب دائمٍ، بعضهم مع بعض، ومن الطائف إلى هناك خمسة وعشرون فرسخًا. وبعد ذلك مررنا بقلعة تُسمَّى: جزع، وعلى مساحة نصف فرسخ منها أربع قلاع، نزلنا عند أكبرها وتسمَّى: حصن بني نسير، وهناك قليل من النخيل وبيت العربي الذي استأجرنا حمله في الجزع هذه، ولبثنا هناك خمسة عشر يومًا؛ إذ لم يكن معنا خفير يهدينا الطريق، ولكل قوم من عرب هذا المكان أرض محدَّدة ترعى بها ماشيتهم، ولا يستطيع أجنبيّ أن يدخلها، فهم يمسكون كلَّ من يدخل بغير خَفير، ويجرِّدونه مما معه، فيلزم استصحاب خفير من كلِّ جماعة حتى يتيسر المرور من أرضهم، فهو وقاية للمسافر، ويسمُّونه أيضًا: مرشد الطريق قلاوز، وقد اتَّفق أن جاء إلى الجزع رئيس الأعراب الذين كانوا في طريقنا، وهم بنو سواد، واسمه: أبو غانم عبس بن البعير، فاتخذناه خفيرًا، وذهبنا معه، وقابلنا قومه، فظنُّوا أنَّهم لقوا صيدًا؛ إذ إنَّ كل أجنبيٍّ يرونه يسمَّى صيدا، فلما رأوا رئيسهم معنا أُسقِط في أيديهم، ولولا ذلك لأهلكونا. وفي الجملة: لبثنا معهم زمنًا؛ إذ لم يكن معنا خفير يصحَبنا، ثم أخذنا من هناك خفيرين، أجرُ كلٍّ منهما عشرة دنانير؛ ليسيرا بنا بين قوم آخرين، وقد كان من هؤلاء العرب شيوخ في السبعين من عمرهم، قالوا لي: إنهم لم يذوقوا شيئًا غير لبن الإبل طوال حياتهم؛ إذ ليس في هذه الصحراء غير عَلف فاسد تأكله الجمال، وكانوا يظنُّون أنَّ العالم هكذا، وظللت أتحوَّل من قوم إلى قوم، وأجد في كلِّ مكان خطرًا وخوفا، إلا أن الله تبارك وتعالى سلَّمنا منها”(3).
وقد تخيَّرتُ نصَّ ناصر خسرو لأنَّ رحلته إلى نجد كانت بين سنتي ٤٣٧هـ و٤٤٤هـ، وكان ذلك زمن الدولة الأُخيضرية، فإذا كان هذا حال نجد في ظلِّ دولةِ بني الأخيضر فكيف بحالها في زمن ليس فيها دولة؟!
ومما يعلمه أهل العناية بالتاريخ أنه لم تَقع نجد تحت دولة أبدًا بعد بني الأخيضر، وحتى هؤلاء لم يتعدَّ حكمهم فرضَ الإتاوات على الناس باديةً وحاضرة(4).
وجاءت الدولة العثمانية، ولم تكن تعرف نجدًا إلا إذا أحسَّت بوادرَ دولةٍ واتِّحادٍ داخلَها، هناك تُسَلِّط ولاتَها في العراق والحجاز ومصر، وترسل الجيوش لغزوها، أمَّا في أزمنة الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات فكأنَّ نجدًا خارج التاريخ وخارج الجغرافيا.
فمن أشهر الغزوات التي شنَّها عُمَّال العثمانيين تلك التي قام بها في القرن العاشر الهجري حسن بن أبي نمي سنة ٩٨٦هـ، وتوغَّلت داخل نجد في جيش قوامُه خمسون ألفًا، موجهًا من قِبَل ولاة العثمانيين من بني قتادة، لا لتوحيدها ونشر الاستقرار والتحضُّر فيها، بل لإسقاط دولة آلِ شبيب في معكال(5) وتعقُّبِ رئيسِها محمد بن عثمان.
وقد حاصر ابن أبي نميّ معكالًا، وقتل من أهلها وغنم وأسر، ثمّ عاد إلى مكَّة، وكرَّر الغزو مرَّة أخرى بعد عامين، ووصل إلى الخرج والسلمية، وقتل وغنم وأسر ثم عاد.
استمع إلى مؤرخ الحجاز عبد الملك العصامي يصف هذه الغزوة: “ثم غزا معكال، وذلك أنه بعد مدَّةٍ قريبة برز مولانا الشريف حسن إلى غزو معكال بأقصى البلاد الشرقية؛ لأمورٍ فعلوها فيها طعن على الدولة الإسلامية، وحسبك السنة النبوية المبرورة: (الفتنةُ من هاهنا) وأشار إلى الجهة المذكورة، فقام مولانا المشار إليه في ذلك حمايةً لبيئة الإسلام، خصوصًا حجاج بيت الله الحرام، وزُوَّار جَدِّه محمد عليه الصلاة والسلام، فوصل دارهم، وقاتلهم فيها احتقارًا، وعساكر الإسلام -الله تعالى يحميها، ويبلغها بسعده أقصى أمانيها- في جمع كذلك يزيدون على الخمسين ألفًا، وطال مقامه فيهم حتى استأصل أهل الدار، رجالًا وأموالًا وكل من كان إليه إلفًا”(6).
وحسبك هذا النصَّ لتدرك كيف كان النخبة من العلماء من أمثال العصامي ينظرون إلى نجد، فليست عندهم محلًّا إلا لأن يُقتل أهلها بحجَّة واهية، وهي أنَّ الفتنة تأتي من المشرق كما في الحديث النبوي؛ أما تلميحه بأن هذا الجبروت من الشريف الحسن كان من أجل تأمين الحاجّ فقد كذب العصامي وما صدَق، لأنَّ معكالًا ليست على طريق الحاج؛ لكن آل شبيب كوَّنوا إمارة في شرقي نجد وشرقي الجزيرة وجنوب العراق، كان من المعقول أن توحِّد تلك الأقطار وتنهض بها، وهذا ما لا يوافق المصالح العثمانية(7).
وفي عام ١٠١١هـ غزا الأمير أبو طالب بن الحسن أطراف نجد ثم عاد، وفي سنة ١٠١٥هـ غزا الأمير محسن بن حسين نجدًا حتى وصل القصب، وهي قريبة من شقراء حاليًّا، فقتل الأمير محسن معظم أهلها، ولم يبق إلا القليل، ونهبها ثم عاد.
يقول الشيخ عبد الله البسام (ت: ١٣٤٦هـ): “في هذه السنة ظهر الشريف محسن بن حسين بن حسن بن أبي نمي إلى نجد، وقتل أهل بلد القصب من بلاد الوشم ونهبهم، وفعل الأفاعيل العظيمة، ودمر بلد الرقابية من بلد القصب وقتل أهلها”(8).
وفي سنة ١٠٥٧هـ غزا زيد بن محسن نجدًا، ونزل روضة سدير، قال المؤرخ إبراهيم بن عيسى (ت: ١٣٤٣): “وفعل بأهل الروضة من القبح والفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد”(9).
وفي سنة ١١٠٧هـ غزا سعد بن زيد نجدًا حتى نزل أشيقر في رمضان، وأفتى عالم أشيقر أحمد القصير أهلها بالفطر في نهار رمضان؛ ليحصدوا زروعهم قبل أن يتلقَّفها الغزاة، وقام أمير مكَّة بحبسه ومعه الشيخ حسن بن عبد الله أبا حسين، وأعطاه أهل أشيقر ما طلب من الدنيا، فارتحل عنهم(10).
وكانت علاقة دول أطراف الجزيرة بنجد تابعة لتصوُّرات العثمانيين وأوامرهم، وكانت علاقةً عدائيةً ترمي فقط إلى ضمان عدم وجود كيان سياسيّ يجمع بادية نجد وحاضرتها.
واستمر الحال على هذا المنوال؛ فلما كان ضمّ نجد إلى الولايات العثمانية مكلِفًا وليس منه مردود كانت تكتفي بتسليط أمراء مكة كي يقضوا على أيِّ قوة ناشئة هناك، وحين بدأت بوادر نشأة الدولة السعودية جرى الأمر على هذا النحو ولم يتغيَّر.
فقَدَّم السلطان محمود سنة ١١٦٣هـ 25 ألف ليرة ذهبية لأمير مكة مسعود بن سعيد ليقضي عليها في مهدها، مع أن حدود الدولة السعودية آنذاك لا تتجاوز أسوار الدرعية، لكنَّ قيامها على فكرة دينية جعل أمير مكة إذ ذاك والسلطان العثمانيَّ يشعران مبكِّرا بقُدرتها على جمع كلمة عرب الجزيرة، وهو ما لا يريدانه، فاستخدما أولًا سلاح التكفير.
نعم، التكفير الذي يرمون به الدولةَ السعودية كانوا هم روَّادَه، وكانوا يستخدمونه ضدَّ كلِّ من يحاربونه؛ إذ يزعمون أولًا أنَّ سبب حربهم لهذا العدوِّ هو كفره بالله واستحقاقه للجهاد، ولم يكن استخدامهم سلاح التكفير قاصرًا على الدولة السعودية، بل يستخدمونه ضدَّ كلِّ مخالفٍ حتى لو كان من رعاياهم؛ وانظر مثالًا لذلك ما قاله العصامي مسوِّغًا حربَ الشريف الحسن بن أبي نمي قبيلةَ بني مالك: “وهذه السَّرية في حكم السرايا الهاشمية إلى الكفار، من سار فيها فله أجر المجاهد بلا إنكار”(11).
بل كانوا يستجيزون سبيَ نساء المسلمين ممن يحكمون بتكفيرهم؛ وهذا أشنع منَ القتل، فهؤلاء ولو سلَّمنا جدلًا بصحَّة الحكم عليهم بالكفر، فكفرهم إما لجهل، وإما لتأويلٍ، فلا تباح به دماؤهم ونساؤهم، وقد أخبر العصاميُّ أن سببَ غزو الشريف الحسن بن أبي نمي قبيلةَ زهران كونهم لا يورِثون النساء، وهذا -كما يقول- كفرٌ؛ ولكن لا ينقضي عجبك من كوْن النساء اللواتي غزا الشريف لتخليصهنَّ من الظلم قام بسبيهنَّ! قال العصامي: “فقاتلهم، وقتل أعظم رجالهم، وحاز نفائس أموالهم، وفاز بأسر نسائهم وأطفالهم”(12). أوليس حرمانُهنَّ من الميراث أحبَّ إليهن من سبيهنَّ واسترقاق أطفالهن وقتل أزواجهن؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا كانوا يُكفِّرون رعاياهم الذين تحت حكمهم مئاتِ السنين، فماذا سيقولون عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية؟!
يحدِّثنا عن ذلك أحمد زيني دحلان في كتابه (فتنة الوهابية)؛ يقول: “وكانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنًّا منهم أنّهم يفسدون عقائد علماء الحرمين، ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين، فلمّا وصلوا إلى الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم وما تمسّكوا به ردّ عليهم علماء الحرمين، وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها، وتحقّق لعلماء الحرمين جهلهم وضلالهم، ووجدوهم ضحكةً ومسخرةً كحمر مستنفِرة فرَّت من قسورةٍ، ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملةً على كثير من المكفِّرات. فبعد أن أقاموا البرهانَ عليهم كتبوا عليهم حجَّة عند قاضى الشرع بمكة، تتضمّن الحكم بكفرهم بتلك العقائد؛ ليشتهر بين الناس أمرُهم، فيعلم بذلك الأول والآخر، وكان ذلك في مدّة إمارة الشريف مسعود بن سعيد، وأمر بحبس أولئك الملحِدَة، فحبسوا، وفرَّ بعضهم إلى الدرعية”(13).
فانظر كيف أرسل القائمون على الدعوة السلفية من يخبر بحقيقة دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة في بداية أمرها، كما صرح بذلك دحلان، وكيف جوبهوا بالعرض على القضاء والحكم بكفرهم وحبسهم، بل انظر إلى غطرسة دحلان وهو يصفهم بـ(الملحدة) ويقول: وجدوهم ضحكة ومسخرة!
وقد تجاوز هؤلاء القولَ بتكفير أتباع الدولة السعودية إلى منعهم من الحجِّ مدَّةَ خمسين عامًا؛ لكونهم كفارًا بزعمهم، يقول زيني دحلان في كتابه (خلاصة الكلام) بعد أن ذكر منع الشريف مسعود حجَّ الوهابيين الذين طلبوا منه الإذن لهم بالحج ولو على جُعلٍ يجعلونه له: “وأقيم بعده أخوه مساعد بن سعيد، فأرسلوا في مدته يستأذنون في الحج، فأبى وامتنع من الإذن لهم… فلما مضت دولة الشريف مساعد وتقلَّد بعده أخوه الشريف أحمد أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه، كما أرسل في المدة السابقة، فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتديَّنون إلا بدين الزنادقة، فأبى أن يقرَّ لهم في حمى البيت الحرام قرار، ولم يأذن لهم في الحج بعدما ثبت عند علماء الأمة أنهم كفار”(14).
ونجد السلطان محمود الأول (ت: ١١٦٨هـ) يرسل خطابا للشريف مسعود (ت: ١١٦٥هـ) يطلب منه القضاء على محمد بن عبد الوهاب، وبعث له عشرين كيسًا من الذهب لأجل ذلك(15). والعجب من هذا السلطان الذي يرسل أكياس الأموال لمقاتلة أهل الدعوة، ولو أنه أرسلها لسدِّ جوع أهل نجد وتعليمهم وإقامة الأمن بينهم لكان خيرًا له عند الله وعند خلقه؛ لكن لأنَّ أهل وسط الجزيرة ليس لديهم خراج تستفيده الدولة منهم؛ وإنما هم مستحقّون، فليس لهم عند سلاطين بني عثمان إلا الإنفاق على قتلهم.
وبالرغم من هذا العداءِ المبكِّر إلا أن الله تعالى قيَّض لأهل نجد هذه الدعوة، وحمل لواءها آل سعود الذين نجَحوا في جمع الكلمة وتصحيح العقيدة وإفاضة الأمن ورغد العيش، حتى كان الانضمام إلى الدولة السعودية أمنية سائر أبناء مناطق الجزيرة. لكن اجتماع الكلمة هذا لم يرض عنه قادة العثمانيين، فحين اشتدَّ عُود السعودية أرسلوا للقضاء عليها أربعَ حملات، واحدة منها بحرية، نظمتها ولاية العراق، وثلاث حملات من أمراء الحجاز، وكلها وقى الله شرها.
ولم تكن الدولة العثمانيةُ تُدافع بتلك الحملاتِ عن نفسها، كلَّا، ولكنها كسالف عهدها تسعى للقضاء على أيِّ مشروعٍ لاجتماع الكلمة في جزيرة العرب.
فالإمام عبد العزيز بن محمد بدأ علاقاتِه بولاة العراق بداية سلميةً، تليق بأهداف الدولة الدعويَّة، فأرسل إلى سليمان باشا والي العراق رسالةً يدعوه فيها إلى العودة بالمسلمين إلى عقيدة السلف الصالح، وأرفق برسالتَه نسخةً من (كتاب التوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد)؛ لكن جواب الوالي على هذه الرسالة السلمية هو الأربع حملات التي أشرتُ إليها(16).
والعجب أن مُناوِئي الدولة السعودية يريدون منها أن تتلقَّى كلَّ تلك الحملات دون أن يكون منها ردٌّ، فإذا ردَّت كانت وهابيةً دمويةً معتديةً، وأمَّا المعتدون فلا تثريب عليهم، ولا على تاريخهم، حتى لو كان ملطخًا بالمهانة والخيانة والغدر، كما حصل في الحملة الرابعة التي كانت بقيادة علي الكيخيا سنة ١٢١٣هـ، وقد حاصرها الأمير سعود في حياة والده الإمام عبد العزيز بن محمد، وكان قادرًا على القضاء عليهم برمَّتهم؛ لكنه أمَّنهم وأوصلهم إلى مأمنهم، ووقَّع مع الكيخيا معاهدة نقضتها الدولة العثمانية حينما اعتدى أهل النجف على التجار السعوديين المحميين بموجب المعاهدة الآنفة الذكر، قتلوهم جميعًا وعددهم ثلاثمائة رجل رحمهم الله، وسلبوا أموالهم.
وطالب الإمام سعود من والي بغداد بدياتهم وعقوبة أهل النجف وكربلاء لجريمتهم ونقضهم العهد، فإن أبى الوالي دفع الديات فعليه أن يأذَن للرعايا السعوديين بالرعي شمالي الفرات، كبديل عن دفع الديات، فأبى الوالي وردَّ ردًّا قبيحًا(17).
فخرج سعود بجيشه للمجرمين، وعاقبهم عقوبةً بليغة، مع التنبيه والتأكيد على أنَّ ما يذكره بعض المؤرخين من أعداد القتلى مبالغٌ فيه، كما أنهم ليسوا جميعًا قتلوا بأيدي الجيش السعودي، فالجيش السعوديّ لم يبق إلا ضحوة من النهار، وخرج من المدينة، ودخلها بعدهم الأعراب الذين أخذوا ما تركه الجيش السعودي، أضف إليه أن شاه إيران أمر الشيعة بأن يعيثوا في الأرض فسادًا نكاية بالولاة العثمانيين(18).
وبعدها توالت حملات أمراء الحجاز بأمر الدولة العثمانية لإسقاط الدولة السعودية: حملة عبد العزيز بن مساعد وحملة غالب بن مساعد سنة ١٢٠٥هـ، وحملة غالب بن مساعد الثانية سنة ١٢١٠هـ، وحملته الثالثة سنة ١٢١٣هـ، وحملته الرابعة سنة ١٢١٦هـ.
وهذه الحملات التي لم يكن لها أدنى سبب سياسيٍّ أو دينيٍّ كانت في ظل منع حكام مكة أهل نجد من الحج منذ عهد الشريف مسعود عام ١١٦٣هـ حتى عهد غالب بن مساعد الذي قررت الدولة السعودية في عهده إنهاء مشكلاتها مع الحجاز بضمِّه إليها.
وبدخول الحجاز تحت راية آل سعود سنة ١٢١٦هـ حصلت أول وحدة لمعظم حواضر شبه جزيرة العرب وبواديها، من الفرات شمالًا، وحتى تخوم عمان جنوبًا، ومن خليج العرب شرقا، حتى البحر الأحمر غربًا، ولم يحصل ذلك من بعد الخلفاء الرشدين وصدرًا من خلافة بني أمية إلا في ذلك التاريخ.
وقد حصل للجزيرة من اجتماع الكلمة وسَعَة الرزق والأمن ما قال عنه ابن بشر: “وهذا الأمرُ في هذه المملكة شيءٌ وضعه الله تعالى في قلوب العباد من البادي والحاضر في كل ما احتوت عليه هذه المملكة، مع الرعب العظيم في قلوب من عادى أهلَها، ولم يوجد هذا الأمن إلا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه”(19).
وكم تحاشى حكامُ الدولة السعودية الأولى الاحتكاك بالعثمانيين، إلا أنهم أبوا إلا رؤية هذه الدولة أثرًا بعد عَين، من حين نشأتها إمارةً صغيرة في الدرعية، وحتى اشتداد عودِها وعظمة مجدها في عهد عبد العزيز بن محمد، ولولا إصرار العثمانيين على إرسال الجيوش تلو الجيوش لإسقاطها لما وجدوا فيها إلا جارًا حميدًا وردئًا محمودا.
وحين أيقن العثمانيون أنهم أضعفُ مِن أن يسقِطوا الدولة السعودية كلَّفوا بذلك واليهم على مصر، وموَّلوا حملاته بأموال عظيمة، لو جعلوها في حرب أعدائهم من النمسا وروسيا ولو جددوا بها أسطول الجزائر الحربي الذي فني في خدمة العثمانيين لعجزت فرنسا عن احتلالها سنة ١٢٤٦هـ.
نعم، كانت الدولة العثمانية محاطةً بالأعداء، وكانت أحوجَ ما تكون إلى علاقات ممتازة مع الدولة السعودية، لكن هذا الإصرار المزمِن لدى العثمانيين منذ القرن العاشر على أن لا يروا في جزيرة العرب دولةً تجمع شملها وتؤمِّن خائفها وتشبع جائعها جعلها تستمرُّ في هذه الإستراتيجية الخاطئة التي كانت وبالا عليها.
أرسل محمد علي حملة بقيادة ابنه أحمد طوسون سنة ١٢٢٦هـ، ولم تكد هذه الحملة تدخل برَّ الحجاز حتى هزمت في أول معركة، وقد عزا الجبرتي سبب هزيمتهم -رغم كمال عددهم وعدتهم- إلى أن أكثرَ عساكرهم غير مسلمين، وإلى فساد المسلمين منهم في الدين والأخلاق، قال رحمه الله ناقلا عن أحد شهود المعركة: “أين لنا النصرُ وأكثرُ عساكرنا على غير ملَّة، وفيهم من لا يتديَّن بدين ولا ينتحل مذهبا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان، ولا تقام فيه فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين؟!”(20).
ثم يكمل الجبرتي واصفا الجيش السعودي: “والقوم إذا دخل الوقت أذَّن المؤذن، وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد، بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذَّن المؤذن، وصلَّوا صلاة الخوفِ، فتتقدَّم طائفة للحرب، وتتأخَّر أخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجَّبون من ذلك؛ لأنهم لم يسمعوا به فضلًا عن رؤيته”(21).
وفي عام ١٢٢٨هـ جاء محمد علي بنفسه لمساندة ابنه طوسون، وبقي في الحجاز حتى ١٢٣٠هـ، واستطاع استخلاص الحجاز وتهامة وعسير وما بينهما من الدولة السعودية، ولما رجع اصطلح ابنه طوسون بعد هزيمته في الرس مع الإمام عبد الله بعد حوادث ومعارك.
وكان مقتضى الصلح أن لا تتعرض الدولة العثمانية للدولة السعودية، وأن يجري الأمان بينهما.
وذهب بالصلح عالمان نجديَّان -سماهما ابن بشر، ولقيهما الجبرتي بمصر- إلى محمد علي باشا، فأقرَّ الصلح، وكان فيه خير للدولة العثمانية وللسعودية، لكن تبين أن إقرار الصلح إما أنه كان خدعة، أو أن الباشا استشار فيه السلطان فلم يقبل، وهذا هو الملائم لإستراتيجية العثمانيين مع جزيرة العرب(22).
نقض محمد علي الصلح مرسلًا ابنه إبراهيم سنة ١٢٣١هـ، ولم تكن الخطة الاستيلاء على نجد وضمّها لمصر أو للدولة العثمانية؛ فيكون لأهلها من الحقوق في أنفسهم وأرضهم ما للأتراك والمصريين، لكن الخطة إسقاط الدولة بعموديها السياسي آل سعود والعلمي آل الشيخ، ثم العودة وترك نجد في كبد أهلها، وهو ما حصل.
ومضى إبراهيم باشا في طريقه للدرعية، يمر ببلدات نجد، يحاصر ويدمِّر ويقتل، ويحرق النخيل والزروع، فلم يصل الدرعية إلا بعد عامين ونصف تقريبًا -عام ١٢٣٣هـ- من الأذى والإفساد في الأرض وفي الدين، وحاصر الدرعية، ونازل أهلها عدة أشهر، وقد أفاض الرحالة سادلر في وصف الخراب الذي أوقعه الباشا بنجد.
ثم صالحه الإمام عبد الله بن سعود على أن يرسله للسلطان، ويؤمن أهل الدرعية على أعراضهم وأنفسهم وأموالهم، فتم الصلح، ورُحِّل من بقي حيًّا من آل سعود وآل الشيخ إلى مصر، وكان تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود خرج من الدرعية حين تم الصلح، واختفى في بعض بلدات نجد، وظلَّ الباشا أشهرًا مقيمًا في نخل بعض أمراء آل سعود، يقتل الأمراء والعلماء بطريقة وحشية، فيجعلهم في فوهات المدافع، أو يضعهم على أقباس البارود، ويفجر بهم، وقد ذكر ابن بشر أسماء من قتلوا بهذه الطريقة.
وأقام الباشا احتفالًا بالنصر، حضره نائب الملك البريطاني في حكم الهند -مدير شركة الهند الشرقية-، كما رحَّبت فرنسا -وهي الدولة الثانية آنذاك في العالم- بسقوط الدولة السعودية، وكان كثير من جنود الباشا ومهندسيه من النصارى الأوربيين.
وجاء الأمر إلى الباشا من أبيه بنقض العهد وهدم الدرعية وتشريد أهلها، وتم هدمها على رؤوس بعض أهلها، وهدم زروعها، وأرسل جنوده إلى قرى نجد كي يهدموا أسوارها وقصورها، وحين هم بالرحيل أمرهم بقتل رؤساء القرى وأعيانهم؛ حتى يترك الناس فوضى لا سراة لهم.
ولما رحل الباشا حصر خليفتُه حسين بك من بقي من أهل الدرعية في بيت في ثرمدا، ثم أعلن الأمان لجميع المختفين؛ ليعطيهم أوراقًا يؤمِّنهم بها ليعيشوا في أي بلد شاءوا، فلما اجتمعوا من كلِّ مكان أوطأهم الخيل وأحرقهم وقتلهم جميعًا(23).
وبقي إبراهيم في نجد تسعة أشهر، وعاد في أواخر عام ١٢٣٤هـ، ولم يبن جدارًا أو يزرع فسيلة أو يمهد طريقًا، جاء إلى دولة آمنة مزدهرة وخربها، ثم عاد أدراجه، فلم يكن الغرض من هذا الغزو الإعمار، وإنما الخراب والدمار، وترك الجزيرة كما كانت قبل الدولة السعودية.
يقول ابن بشر عن نجد بعد سقوط الدولة السعودية: “وصار الرجل في بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وتطاير شرر الفتن في الأوطان، وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد، وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد”(24).
ويقول باسيلييف في كتابه (تاريخ السعودية): “وبُعِثَت الخلافاتُ القبلية والمحلية بتغاضٍ سافر أو مستتر من جانب الأسياد الجدد، وبدأت النزاعات وأخذ البعض يغزو البعض الآخر، وتعرضت طرق القوافل للخطر، وحتى في المدن لم يكن السكان يتجرؤون على الخروج إلى الشارع بدون سلاح.
ونشأ انطباع: وكأن سياسة المصريين تتلخَّص في إغراق وسط الجزيرة في حالة الفوضى والركود والخراب، وإلغاء احتمال انبعاثه.
وكانت الحاميات المصرية الصغيرة لا تلعب دور العامل الإيجابي للمركزية وإحلال النظام، بل غدت مجرد أداة للنهب والدمار.
كانت الدولة السعودية تحت الأنقاض، وقد قُهِرت عساكرها، ودُمِّرَت إدارتُها، وبدا وكأن قوى التشتُّت والتجزئة التي انطلقت من عقالها بعد دحر الوهابيين قد مزَّقت التوحيد السابق شذر مذر. ولكنه بقيت داخل مجتمع أوساط الجزيرة القوى التي تمكنت قبل نصف قرن ونيف من رصِّ صفوفه وتأسيس إمارة الدرعية”(25).
ولم تكن مهمة حسين بك بعد إبراهيم باشا سوى قمع أيّ محاولة لجمع كلمة الناس وإعادة الأمن والدين إلى ما كانا عليه، وهكذا فعل مع مشاري بن سعود وعمر بن عبد العزيز حين شرعا في إعادة بناء الدرعية وإعادة الدولة، ومات مشاري في السجن، وأُرسل عمه عمر بن عبد العزيز وأبناؤه إلى مصر.
وتفرقت عساكر حسين في الحواضر، ليس لهم همّ إلا ما قال ابن بشر: “فأخذوا من الناس أولا ما عندهم من الدراهم، ثم أخذوا ما عندهم من الذهب والفضة، وما فوق النساء من الحلي، ثم أخذوا الطعام والسلاح والمواشي والأواني، وحبسوا النساء والرجال والأطفال…” (26) إلى آخر ما ذكر من فظائع العساكر العثمانية.
وقد كانت العقيدة القتالية للمسلمين من الجيش العثماني -أي: الهدف من الحرب الذي يُعَبَّأ بها الجنود- هي تكفير الوهابيين، هذا بالرغم من أن كثيرًا من الجنود كانوا نصارى إيطاليين وبنادقة ويونان، وقد كُشِف عن القتلى من الجيش العثماني في وادي الصفراء فوُجِدُوا غير مختونين؛ حكى الجبرتي عودة حملة طوسون لمصر: “وصلت عساكر إلى السويس، وحضروا إلى مصر، وعلى رؤوسهم شلنجات فضة؛ إعلاما وإشارة بأنهم مجاهدون وعائدون من غزو الكفار، وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين، وطردوا المخالفين لديانتهم، حتى إن طوسون وحسن باشا كتبا في إمضائهما على المراسلات بعد اسمهما لفظة: الغازي”(27).
معنى هذا النص أن محمد علي كان يُسَيِّر جنوده موهمًا إياهم أنهم يقاتلون الكفار، وللأسف فإنَّ من علماء الأزهر من كان يفتي بذلك، وقد اصطحب إبراهيم باشا معه في حملته عالمين أزهريين، وقد نص الشيخ أحمد الصاوي (ت: ١٢٤١هـ) في حاشيته على تفسير الجلالين على تكفيرهم(28). وقد قام بعض الناشرين المتأخرين بحذف كلام الصاوي الساقط في طبعات متأخرة، بعضهم غيرةً للحق، وبعضهم ابتغاء تسويق المطبوع في السعودية، ولكن كل ذلك لا يلغي واقع أن الدولة العثمانية وعلماءها كلهم كانوا ينتهجون منهج التكفير واستباحة الدماء في حق الدولة السعودية.
ثم قيَّض الله الإمام تركي بن عبد الله بن محمد -حفيد المؤسس الأول- ليعيد الدولة التي قطعها غزو الترك، ويرجع بنجد إلى ما كان في دولتهم الأولى من الأمن والخير والجماعة والدين.
وكان مبتدأ أمره عام ١٢٣٨هـ، وتم الأمر له على نجد والأحساء في وقت يسير، واستقام الأمن والخير، حتى قتله ابن أخته طامعًا في الحكم عام ١٢٤٩هـ رحمه الله.
وتولى ابنه فيصل الأمر، واستمر معه الخير في نجد وما والاها من الأحساء وشمال الجزيرة وعسير وخليج عمان، وكلما أحس من بعض القرى أو البوادي فتنةً خرج إليهم وأعادهم لصوابهم، ولم يتعرض لما تحت يد الدولة العثمانية، إلا أن واليها على مصر محمد على باشا عام ١٢٥٢هـ لم يعجبه ما وصل إليه الاستقرار والأمن، فأراد أن يعيدَ نجدًا إلى ما تركها عليه قبل سنوات، فأرسل أحد قُوَّادِه بجيش، يصطحبون الأمير خالد بن سعود وكان أسيرًا عندهم؛ ليقين محمد علي أن عرب الجزيرة لن يستقيموا إلا لرجل من هذا البيت من آل سعود، وحين تحقَّق الإمام فيصل من هذا الأمر رأى الخروج بماله وأهله ومن أراد معه إلى الأحساء حقنًا للدماء، وليرى ما يؤول إليه الحال.
ونزل خالد بن سعود الرياض، وأرسل إلى البوادي والحواضر لبيعته، فجاءه جواب أهل بلدة الحوطة وما والاها بأن الأمر إن كان لك بايعناك على السمع والطاعة، أما إن كان لمن معك من عسكر الترك فلا سمع ولا طاعةَ، هناك غضب إسماعيل آغا، وأقسم على قتل أهل الحوطة، وأمر بتجهيز الجيوش، فظهر أنه هو الحاكم الفعلي(29).
وخرج الجيش التركي ومن تبعهم بقيادة إسماعيل آغا ومعه خالد؛ عازمين على استئصال أهل الحوطة والحلوة وما والاهما أوائل سنة١٢٥٣هـ، إلا أن الله شاء غير ذلك، فانتصر أهل تلك الناحية نصرًا قال ابن بشر: إنه لم يكن مثله منذ قرون، “وعلى الباغي تدور الدوائر”.
وأرسل محمد علي خورشيد باشا ليقوي بأس خالد بن سعود، وحدثت فتن ووقائع شنيعة جراء وجود جند الترك في الجزيرة، في نهايتها اصطلح الترك مع الإمام فيصل على أن يؤمنوا أهل القرى والنواحي، مقابل أن يرحل هو وأخوه جلوي إلى مصر، فتم ذلك سنة ١٢٥٤هـ، ولو أراد الإمام فيصل الامتناع بأهل نجد لكان له فيهم منعة، ولكنه قدم أخف المفسدتين وهي أن يرحل ويحفظ على أهل نجد دماءهم وأموالهم، لكن العسكر لم يستطيعوا تأمين البلاد، فعادت نجد بذهاب فيصل إلى الافتراق رغم سيطرة خالد بن سعود على بعض الأقاليم؛ لكنه سرعان ما تلاشت سلطته برحيل قوات محمد علي التي جاءتها الأوامر بالعودة لمصر.
وحاول ملء الفراغ عبد الله بن ثنيان آل مقرن، لكن سلطته تلاشت بسرعة مع عودة الإمام فيصل بن تركي من مصر عام ١٢٥٩هـ.
والخلاصة أنَّ نجدًا عاشت منذ دخول إسماعيل آغا وخالد بن سعود عام ١٢٥٢هـ وحتى استقرار الحكم مرة أخرى بيد الإمام فيصل بن تركي عام ١٢٦٠هـ، عاشت فترة فقر ناتج عن اشتدادِ الضرائب، مضافًا إليها حروب أهلية سياسية، وفوضى داخلية زادت من تفاقم المصائب على الرعية، وهكذا هو شأن الفتن وانحلال الجماعة، واستمرَّ ذلك حتى نعمت في فترة حكم فيصل الثانية باستقرار وخير دام أكثر من ٢٠ سنة، حتى وفاته سنة ١٢٨٢هـ، تخللتها حروب لردع بعض الخارجين، ومشكلات إدارية واقتصادية يجد القارئ تفاصيلها في كتب التاريخ ككتاب (تاريخ الدولة السعودية الثانية) لعبد الفتاح أبو علية، لكن الجو العام كان جوَّ استقرار ونهضة وأمن.
بعد وفاةِ الإمام فيصل عادت نجد وكل مناطق الحكم السعودي إلى حالة من الفوضى والحروب الأهلية بين أبناء الإمام للاستحواذ على الحكم، وبين القبائل وبعضها، وبين القبائل والحواضر، وبين الحواضر وبعضها، وكان الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات هو سيد البلاد -لا غير- مدة أربعين سنة.
وكانت هناك عوامل عدة لعودة هذه الفوضى، أولها: عودة التآمر العثماني لإسقاط الدولة، وضعف الشعور بعصبية الدولة التي قامت عليها -والتي تتلخص في التوحيد والوحدة- بعد وفاة الإمام فيصل رحمه الله، فقد كان الإمام فيصل يفيض بهذه الروح المحركة والجامعة، وكان بفيضها على كل من حوله من جنود وأمراء ورجالات العرب جميعًا؛ لكن لم تجد هذه الروح من يحملها بعد وفاته حتى من أبنائه، الأمر الذي أدى إلى ما حدث من الانقسام والاحتراب وزوال الدولة.
نعم، أسهم استقرار الأمور للأمير محمد العبد الله الرشيد (١٢٨٩هـ-١٣١٥هـ) في إشاعة نوع من الاستقرار في المناطق التي كانت تحت السلطة السعودية ما عدا الأحساء وساحل الخليج، إلا أنه استقرار منحصر في الحواضر، حيث ترك الأمير محمد البوادي يحارب بعضها بعضا، لكن الخوف في النهاية هو سيد الموقف.
ويمكن إرجاع الفتنة بعد وفاة الإمام فيصل إلى الطموح إلى الحكم بين أبنائه، مع ضعف القصد إلى جمع الكلمة وإقامة الدين؛ ولذلك كان المخلصون يتخلون عنهم بمجرد أن يظهر على أحدهم تغليب مصلحته الشخصية بالاستئثار بالحكم على المقاصد الشرعية التي بسببها اجتمع الناس على أبيهم.
وأبناء فيصل -رحمهم الله جميعًا- بإغفالهم الأسباب التي جمعت قلوب الناس على أبيهم عرضوا أنفسهم وأسرتهم والجزيرة كلها للشتات والفوضى وطمع القريب والبعيد بهم، وناقضوا عقيدة السمع والطاعة بأنفسهم، فلم ير الناس لهم سمعا ولا طاعة.
وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
منذ وفاة الإمام فيصل سنة ١٢٨٢هـ ولما يزيد عن أربعين سنة تليها كانت الفوضى والحرب الأهلية والتنازع هي سيدة الموقف، ربما نقول: إن مرحلة الاستتباب في نجد بدأت بعد انتصار عبد العزيز بن عبد الرحمن في المعارك الثلاث التي حسمت مسألة السيادة، وهي معركتا البكيرية والشنانة عام ١٣٢٢هـ وروضة مهنا عام ١٣٢٤هـ.
أنهت هذه المعارك التدخل العثماني في وسط الجزيرة، ذلك التدخل الذي لم ينتج عنه بناء مدرسة أو تعبيد طريق أو أي عمل من شأنه أن يرتقي بالبلاد أو أهلها، فلم تكن الحامية العثمانية تأتي من المدينة المنورة إلا لتعزيز الخلاف وحماية الفوضى وحسب؛ بل كان التدخل العثماني أحد أسباب الشقاق بين أبناء الإمام فيصل والشقاق بين أقوى أسرتين حاكمتين في نجد: آل سعود وآل رشيد، وبعد خلاف أبناء فيصل قرر العثمانيون ضم الأحساء فعليًّا وليس اسميا للدولة العثمانية، ولم يضمّوا باقي الجزيرة لأن الأحساء تقدِّم لهم خراجا ماديًّا، بينما وسط الجزيرة يستهلك الخراج، واكتفوا بالتبعية الاسمية لآل رشيد لهم، لكن تبعية آل رشيد للعثمانيين لم يستفد منها أهل نجد إنشاء مدارس أو طرق أو إعانات زراعية، أو حتى توزيع صدقات أو زكوات من خراج بلاد المسلمين.
وبهزيمتهم في موقعة الشنانة زالت أكبر عقبة أمام مشروع عبد العزيز: توحيد الجزيرة، وبعدها أنشأ العثمانيون والإمام عبد العزيز علاقات ممتازة بين الإمام والسلطان عبد الحميد، وكان الرجلان عظيمين بكل ما تعنيه الكلمة، ظهر أثر هذه العلاقة في الحرب العالمية الأولى؛ حيث حمل عبد العزيز شعار الدولة السعودية الأولى وشعار جدِّه فيصل بن تركي: نصرة الإسلام وتوحيد الناس على كلمة التوحيد وشريعة الله وإخلاص العقيدة لله ونبذ الخرافة والبدعة؛ لذلك حقق بين البادية والحاضرة نجاحات سريعة جدًّا، فكانت مدة تكوينه لهذه الدولة بحدودها المعروفة اليوم أربعةً وعشرين عاما فقط، فقد كان دخوله الرياض عام ١٣١٩هـ، واستتمامه ضم الحجاز والجنوب عام ١٣٤٤هـ، ولا يشك متابعٌ للتاريخ أنها مدة في تأسيس الدول تعدُّ قصيرة جدًّا، وقد ساعده -رحمه الله تعالى- على ذلك عوامل كثيرة، منها ما يتعلق بشخصيته رحمه الله، ومنها ما يتعلَّق بما تحدثنا عنه في ابتداء هذا المقال من تسخيره رحمه الله للعصبية التي قامت عليها الدولة السعودية الأولى، وهي عصبية التوحيد والوحدة؛ لتكون عصبية تجتمع عليها الأمة من جديد، وتتكون عليها الدولة للمرة الثالثة.
ومن فضائل هذه الدولة السعودية الثالثة: أنها المجد والنصر الإسلامي الأول بعد ثلاثة قرون، لم يعرف فيها المسلمون سوى الانكسارات، اللهم إلا ما حقَّقه الله للمسلمين على يد الدولة السعودية في طوريها السابقين، أما ما عدا ذلك فلم يكن ثَمَّ إلا الانكسارات حتى أقام الله هذه الدولة المباركة.
فقد تمَّ احتلال فرنسا للجزائر عام ١٢٤٦هـ، وتوالت بعده انكسارات المسلمين تحت الاستعمار، حتى كانت جميع بلاد المسلمين خاضعة خضوعًا تامًّا للكفار، وكان أول نصر إسلامي منذ ذلك التاريخ هو تأسيس عبد العزيز هذه الدولة في الجزيرة العربية، من الخليج إلى البحر، ومن تخوم اليمن إلى تخوم الشام.
لقد كان الغرب يؤسِّس دول الشرق، وكان الشعب السعودي يؤسِّس مع قائده دولته بنفسه، فلا يوجد دولة إسلامية معاصرة إلا والغرب هو الذي صنَع خريطتها ونظامَ الحكم فيها، ما عدا المملكة العربية السعودية، فهي صناعة خالصة لأبناء الدولة، لا يُشاركهم في ذلك شرق ولا غرب.
وأيّ عربي أو مسلم لا يعتبر نشأة الدولة السعودية فخرًا ونصرًا للأمة بأسرها فهو إما مأتيٌّ من قِبَل جهله، أو من قِبَل مرض في دخيلته؛ فإن النصر السعودي لم يكن جغرافيًّا وحسب؛ بل كان نصرًا دينيًّا مؤزَّرًا؛ فلأول مرة في التاريخ تنشأ دولة مسطور على علمها شهادة التوحيد، وأول دولة حديثة تعلن أن دستورها القرآن، وأول دولة منذ عهد الراشدين تتبنى الإسلام بفهم السلف الصالح عقيدة وفقها، وأول دولة تدعو إلى تنقية الإسلام من الخرافة والبدعة، وأول دولة في التاريخ بعد دولة الرسالة والخلافة الراشدة يُعز الله فيها إنسان جزيرة العرب، ويُمَكِّن له سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا ووطنيًّا.
وأوليات هذه الدولة كثيرة وأعظمها: الجماعة التي تحقَّق بها ائتلاف القبائل المتعادية منذ مئات السنين وتحضُّرُها وتعلمها.
إن اجتماع الكلمة مِنحة وهبنا الله إياها في هذا العصر بعد فرقة دامت أجيالًا متطاولة، وحقُّها منَّا حكَّامًا وشعبًا حفظُها باستدامة أسبابها.
وقد علمتنا التجارب أن نعم الله إذا فارقت قومًا لا تكاد تعود، وأن الانصياع لدعاوى الفرقة لا يورث إلا شرًّا، وبين يدينا تجارب الأمم من حولنا؛ أكثر عليهم دُعاة الضلالة بالأماني، وسعوا بينهم في تفريق الكلمة، فلمَّا طاوعوهم أعقبتهم النكبات التي لا تزال تفتك بهم وببلادهم فكانت تلك الشعوب ودعاة الفتنة والفرقة كما قص الله تعالى من خبر الشيطان والكفار: ﴿كَمَثَلِ الَّذينَ مِن قَبلِهِم قَريبًا ذاقوا وَبالَ أَمرِهِم وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ كَمَثَلِ الشَّيطانِ إِذ قالَ لِلإِنسانِ اكفُر فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنّي بَريءٌ مِنكَ إِنّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ العالَمينَ﴾ [الحشر: ١٥، ١٦].
وليست دولتنا ببدع من الدول، فإنه يجري فيها القوة والضعف، والصحة والمرض، والصلاح والفساد، ومع هذا فالضعف بالجماعة تمكن تقويته، والفساد بالجماعة يُمكن إصلاحه، والمرض بالجماعة يُمكن برؤه، أما الفرقة فلا يزيد فيها كل شيء إلا سوءا؛ لا يجبر كسرها، ولا يبرأ سقمها، ولا يصلح فسادها.
فإذا كنا نسعى للإصلاح فإنَّ أول أولويات الإصلاح حفظُ الجماعة، ودرء ما يُخِلُّ بها؛ لذلك جاءت الأوامر النبوية بلزوم الجماعة، فإن لم يكن ثم جماعة فيلزم العبد بيته كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنَّا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَن»، قلت: وما دخنُه؟ قال: «قومٌ يهدون بغير هَدْيي، تعرف منهم وتنكر»، قلتُ: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله، صفْهم لنا؟ فقال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلتُ: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»(30).
إن من أعظم وأهمِّ وألزم ما يتحدَّث عنه داعية أو مثقف أو صاحب رأي هو الدعوة للزوم الجماعة، وقول وفعل كل ما فيه تأكيد عليها؛ من إشاعة للمحبة، وتأليف للقلوب، وستر للعورات، وتكذيب للشائعات، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يغلُّ عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل, ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم»(31)، ويخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه: «لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه»(32).
فنحن اليوم في بلادنا السعودية في نُهزة منحنا الله إياها لحكمةٍ منه، فإن عرفنا فضلها وتمسَّكنا بأسباب وجودِها وعالجنا خللها بما يقتضيه الشرعُ من الامتثال والحكمة والرفق أبقاها الله ما شاء، وإن لم نفعل أخذها منا أخذ عزيز مقتدر.
وقد تكلَّمتُ سابقًا وتكلَّم كثيرون عن الأسباب الشرعية لإضفاء النعم ونزعها؛ من نشر التوحيد وإقامة الشريعة وبسط العدل والالتزام بالدين، وهي أسباب تستجلب إنعام الله وتوفيقه وتأييده ونصره، والقيام بعكسها يؤدِّي إلى عكس ذلك مثلًا بمثل وسواء بسواء.
والسرد التاريخي المتقدِّم يؤكِّد أنَّ الأسباب المادية -والتي لم يغفلها الشرع؛ بل أمر بسلوكها ونهى عن التفريط فيها- أعظمها هو لزوم الجماعة، كما قال عز وجل: ﴿وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا وَكُنتُم عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣].
فالآية أصدقُ ما تصدُق عليه في العصر الحديث على حالنا في هذه الدولة، فلولا توفيق الله للملك عبد العزيز بما يحمل من إرث آبائه التاريخيّ والعقدي لكان هذا الوطن أوطانا كثيرة، ولكُنَّا اليومَ فيما لا يقلّ عن ثلاثين دولة، جمعها رحمه الله، فأصبحت وطنا ينعم فيه كل طرف بما تفيضه عليها الأطراف الأخرى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. محمد بن إبراهيم السعيدي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
() عصر المرابطين والموحدين، حسن علي حسن (ص: ٤٠١).
(2) عنوان المجد (٢/ ١٥٥)، حوادث سنة ١٢٥٣هـ.
(3) سفر نامة (ص: ١٥٤).
(4) انظر كتاب: الإمارة الأخيضرية، لأيمن النفجان.
(5) تقع داخل مدينة الرياض حاليًّا.
(6) سمط النجوم (٤/ ٣٧٧).
(7) يراجع: كتاب إمارة آل شبيب، لعبد اللطيف الناصر.
(8) تحفة المشتاق (ص: ١٢٩).
(9) تاريخ ابن عيسى من خزانة التواريخ (٢/ ٤١).
(10) تحفة المشتاق (ص: ١٩٠).
(1) سمط النجوم (٤/ ٣٧٧).
(12) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(13) فتنة الوهابية (ص: ١١).
(14) خلاصة الكلام (ص: ٢٣٤).
(15) تاريخ عزي (ص: ٢٠٧).
(16) الدولة السعودية الأولى والدولة العثمانية، للدكتور محمد سليمان الخضيري (ص: ٢٣٠).
(17) المرجع السابق (ص: ٢٤٤).
(18) المرجع السابق (ص: ٢٥٨).
(19) خزانة التواريخ النجدية (6/ 47).
(20) عجائب الآثار (3/ 341).
(21) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(22) عنوان المجد (١/ ٣٨٠)، تاريخ الجبرتي (٤/ ٢٤٤).
(23) تاريخ العربية السعودية، أليكسي فاسيلييف (ص: ٢١٢).
(24) عنوان المجد (1/ 212).
(25) تاريخ العربية السعودية، أليكسي فاسيلييف (ص: ٢١٢).
(26) عنوان المجد (1/ 404).
(27) عجائب الآثار (3/ 477).
(28) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين (٣/ ٢٥٥) -المطبعة الأزهرية ١٣٤٥هـ-.
(29) عنوان المجد (٢/ ١٤٧).
(30) رواه البخاري (7084).
(31) رواه ابن حبان (680) من حديث زيد بن ثابت، وصححه ابن عبد البر في التمهيد (21/275).
(32) رواه البخاري (7068).
التعليقات