قالت غزة

تكبير الخط تصغير الخط

قالت غزة:

ليست غزة في حاجةِ أن أكتب عنها ، بل أنا محتاج أن أكتب عن غزة ، هي تكتب بلغات شتى تفهمها كل قلوب العالم ، تَسْطُرُ قصتَها فوق الأرض بأقلامٍ من أوردة وشرايين وحبرِ نجيع ، فالحبرُ الداكنُ من أشلاءِ الأطفالِ وأعضاءِ الجرحى حين تَدَفَّق يكتبُ أسفاراً، هل بقي فؤادٌ في العالم لم يقرأ ما كتبت غزة؟
أو بقي فؤادٌ في العالم لم يسمع ما قالت غزة؟
ما كتبت غزَّةُ أوفى مِن كل تقارير الأخبار و أبلغُ من كل الأشعار ، وما قالت غزةُ تسمعه حتى الأشجار وحتى الإحجار ، لكنَّ قلوباً أقسى من كل الأحجار وأبْلَدُ من كلِّ الأشجار لم تسمعْ ما قالت غزة ، أو تقرأْ ما كتبت غزة .
قالت غزة : فليخرجْ كلُ غريب، فأنا لا أبتلع دماء الأغراب لأني لا أشْرَبُ نجَسَا ، وأنا لا أحوي أجداث الأغراب لأني لا أحمِلُ خَبَثَا ، وقريباً جِدُّ قريبٍ ستروني أُطْعِمُ كلَّ غُرَابٍ في العالم من لحم الأغراب ، وسألفظ ما أُودِعَ قَسْراً في جسدي من جِيَفِ الغُرَبَاء لتأكله الغربان ، لن يبقى أحدٌ منهم في سهلي أو في جَبَلِي حياً أو ميتاً.
قالت غزة: لا أحتاج إلى مدحٍ وثناء أو أشعار رثاء ، إنِّي لا أحتاجُ عزاء الجبناء ، إنِّي أحتاجُ وأحتاجُ وأحتاج إلى صبر الأبناء ، لا تنظر يا ولدي نحو الشرق ولا نحو الغرب ولا في شتى الأنحاء ، لا تتحدث يا ولدي مع أيٍ من رهط السُّفَرَاء ولا من سموا أنفسهم بالخبراء أو الحُكَماء ، حسبك أن تنظر في الأرض قليلاً ، وكثيراً صعِّد بصرك في الأجواء، يا ولدي فالنصر القادم نصر سماء .

قالت غزة : قالوا عنَّي بمقاييس العقل البارد جدُ ضعيفة ، حقاً قالوا ، فأنا وركاءٌ ونحيفة ، لكنِّي في الليل الحالك أبدو جدَّ مُخِيفة ، كم قابلني في الظلماء رِجَالٌ بل أشباه رجال ، زعموا يَرِدُون الأهوالَ فَوَلَّوا عني كالأطفال .
قد أبْدُوا شوكة عُلَّيق ، تُخطِؤها العينُ ولكن لا تُخْطِؤ وخز الباغين ، أو أبدو حَسَكَ دنيسٍ(١) تنغرس بأقصى الحلق على مائدة الدنسين.
أو أَبْدُوا دَبَُوْسَاً أو أبدُوا إبرة لكني لن أبدو خيطاً أو حبل رماد .
قالت غزة : فليعلم كلُ قويٍ ما غضبُ الضعفاء.
غضبُ الضعفاءِ إذا غضبوا يحتكر الأجواء ، غضبُ الضعفاءِ إذا غضبوا تهتز الأنحاء ،
غضبُ الضعفاء يُمزِّقُ أوهام القوةْ ويهتك شرنقة البؤساء .
قد يبدو الضعفاء كأشجار الجميز وأشجار البلوط أو أكثرَ صبراً، لكن لا تفهم صبري ذُلَّا، لا تحسب صبري عجزا ، إياك وأن تتوهم صبري قلةَ حيلة ، إني أصبر أصبر أصبر حتى لا ألمسُ للصبر مَحَلَّا، فأُحَرِّكُ بركاني ، وتسيلُ النارُ كسيل الماء من أربع أركاني ، قد أُحَرِقُ نفسي ، لكني حين انْفَجَرَ الغضبُ الراكدُ لم أُبصر نفسي ، أبصرتُ عدوِّي ، فمددت إليه لسان النار كي أصهر فأسه وأمرغ بأسه ، لن يعرف أُنْسَاً بعد اليوم فنيراني تأكلُ أُنْسَه .
قالت غزة : قالوا عني: ماذا عنكِ ؟ كلُّ بقاع الأرض تخلت عنكِ وكأنكِ في فلك آخر لا يدري أحدٌ من أنتِ ، قلت : كفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً وكفى بالله شهيداً وكفى بالله حسيبا وكفى بالله وكيلا وكفى بالله خبيرا.

محمد بن إبراهيم السعيدي
الأربعاء١٨/ ٩/ ١٤٣٥
(١)الدنيس نوع من أسماك غزة كثير الحسك.

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.