السلفيون المبتدعة: استدراكات على نصيحة إبراهيم العسعس للسلفيين

تكبير الخط تصغير الخط

السلفيون المبتدعة: استدراكات على نصيحة إبراهيم العسعس للسلفيين

ليس صعبا على كل كاتب أن يصف من يرد عليه، بأن ما كتبه غير علمي، ولكن العسير إثبات عدم العلمية في كتابات الآخرين. ولذلك، فإنني لن أصف مقال الأخ الكريم إبراهيم عسعس عن السلفية بالبعد عن المنهجية العلمية، ولكنني سأذكر قاعدة رئيسية من قواعد المنهجية، وأطبقها على مقال الأستاذ الكريم، وعلى القارئ الكريم أن يحكم ببصيرة. فمن المسلمات في المنهج العلمي: البعد عن التعميم، وحين يقع أحد في التعميم، فيلزمه أمران: أحدهما، إثبات الحكم، والآخر إثبات عمومه، وفي مقال أخي الكريم عدد من الأحكام العامة في معرض النقد، كان ينبغي عليه إثباتها ثم إثبات عمومها، لكنه على العكس حاول التخلص من توجيه هذا النقد، باستباقه والرد عليه بفرضية افترضها هو، وله هو وحده أن يصدقها، لكن الفرضيات لا تصلح أبدا لإثبات الأحكام. فمن الأحكام العامة التي أطلقها: قوله: فكيف يكون “السلفيون”، مبتدعة؟ والكل يعلم موقف “السلفيين” من البدع، وتشنيعهم على مرتكبيها. فجزمه بأن السلفيين مبتدعة، مستخدما صيغة الاستفهام وبناء مقاله كله على هذا الحكم الذي اعتبره مسلمة، يحتاج الأخ الكريم فيه إلى مناقشة من وجهين: الأول: لا يوصف من وجدت عنده بدعة أو شيء من البدع، بكونه مبتدعا، سواء أكان سلفيا أم غير سلفي، إذ وصف المبتدع لا يصدق إلا على من كان منهجه الابتداع، فأما من وقع في شئ من البدع، فلا يوصف بكونه مبتدعا، كما لا يوصف من وقع في شئ من المكفرات بكونه كافرا، ما لم ينتحل الكفر، وكذلك لا يوصف بكونه مشركا من وقع في شئ من الشركيات ما لم ينتحل الشرك، وكذلك لا يوصف بكونه عاصيا من وقع في شئ من هذه المعاصي ما لم يكن مستمرئا لها، مديما عليها، ولذلك لا يصح وصفه للسلفيين بكونهم مبتدعة ولو على سبيل الاستفهام التقريري، بل كان حقه أن يقول: لديهم بعض البدع، ثم نحن نرحب بتنبيهنا إلى ما خالفنا السنة فيه. الآخر: أن الكاتب ذكر موقف السلفيين من البدع منقوصا، فذكر أنهم ينكرون البدع ويشنعون على مرتكبيها، وهذا حق، وأعتقد أن أخي الكريم إبراهيم العسعس يوافق السلفيين في ذلك، فهو ينكر البدع ويشنع على مرتكبيها بدلالة غيرته على السنة وكتابته هذا المقال لينبهنا على بعض أخطائنا. فهو وفقه الله معنا في هذا المنهج، ولكنه ترك بيان أمر مهم، وهو أن السلفيين لا يقولون بعصمة أنفسهم من البدع أو غيرها من أنواع المعاصي، كما أنهم يرون أن بعض البدع ككثير من أفعال العباد مما يسوغ الخلاف فيه، وهم يختلفون فيها فيما بينهم، ولا يعزب عنك دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح وخلاف العلماء في المملكة العربية السعودية فيه، فمنهم من يرى استحبابه ومنهم من يراه بدعة، وكذلك صلاة التراويح والقيام أكثر من ثلاث عشرة ركعة، يراه بعضهم بدعة، استنادا إلى خبر عائشة رضي الله عنها في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليل، وآخرون يرونه مستحبا استنادا إلى الأثر عن عمر ولا يشنع بعضهم على بعض، بل جميعهم يرون عدم الانصراف من الصلاة مع الإمام حتى مع مخالفتهم للرأي الذي يعمل به الإمام، وكذلك صلاة التسبيح وصلاة الحاجة وإهداء ثواب قراءة القرءان للميت، وغيرها. ومن الأحكام العامة، ما ذكره أن من بدع السلفيين: اللقاء مع الناس أو مفارقتهم على أساس الفتاوى في الفروع الفقهية التي يسوغ فيها الخلاف، أو على أساس المباحات. وقبل إبداء الملاحظة على المضمون أقدم لأخي الكريم ملاحظة على المصطلح، فما ذكره إنما هو عيب سلوكي وليس بدعة، ولا يخفى أن البدعة كما عرفها أهل العلم: طريقة محدثة في الدين يقصد بها مزيد التعبد لله عز وجل، وهذا التعريف لا ينطبق على الأمر الذي ذكره، فلا أستطيع إقراره على أن الأخلاق الوعرة والسيئة والأفق الضيق، يمكن أن يسمى بدعة، فذكر هذا العيب في سياق بدع السلفيين، خطأ منهجي، وكان بوسع الكاتب حفظه الله أن يضعه ضمن ما يتصوره من أخطاء السلفيين السلوكية، والفرق كبير بين أن تصف فلانا من الناس بالبدعة وبين أن تصفه بعيب سلوكي. ولا أختلف مع أخي الكريم حين ذكر عيوبا شنيعة، أيا كان فاعلها، فجزاه الله خيرا على تنبيهنا إليها، ونحن نقبل دعوته وفقه الله للبعد عن هذا العيب، الذي لا يليق أن يتلبس به طالب العلم، لكن يكفي السلفيون فخرا، أن من أعظم من نبه على هذا العيب السلوكي ونهى الناس عنه، هم شيوخ السلفية الأقدمين، كابن تيمية الذي نقل نصه الأخ الكريم، والمحدثين، كابن باز وابن عثيمين رحمهما الله تعالى. ومع تكراري ترحيبي بهذه النصيحة من أخي إبراهيم، فإنني أبشره وأنا أجزم بأنه يفرح ببشارتي هذه بأن هذا العيب الذي عممه على السلفيين قليل الوجود(لا أنكر وجوده لكنني أزعم قلته) في علمائهم وأهل الفتوى فيهم، ويكاد يكون منحصرا إما في صغار طلبة العلم، الذين لم يستوعبوا بعد معنى الخلاف، أو عدد يسير أيضا ممن لم يرزقوا العقل السديد. وكونه قليل الوجود في علمائهم وأهل الفتوى فيهم، دليله، ذلك الخلاف الكبير بين علماء السلفية أنفسهم في قضايا الفروع على أساس فقهي، ومع ذلك ليس بينهم افتراق على هذا الأساس، فمثلا يوصف الشيخ عبدالله بن منيع والشيخ عبدالله المطلق، بكونهما يميلان إلى التيسير في المسائل المصرفية المعاصرة، ويميل الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، مفتي المملكة إلى منهج، أكثر تشددا في هذه المسائل، ولا نعرف بينهما إلا كل خير، وكذلك كان الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله يريان عدم نفاذ الطلاق البدعي، وكان العلماء يخالفونهما في حياتهما، ومع ذلك ظل الشيخان محل التقدير والإجلال. بل إنني، وأنا أحسب نفسي على شئ من الاطلاع في هذه الجزئية، لا أعرف بلدا عربيا بين علمائه خلاف في الفروع، كما أعرف عن علماء السعودية السلفيين، وسر اختلافهم عدم التزامهم بتقليد مذهب أحمد، ولو التزموه، فمذهبه متعدد الوجوه والروايات، مما يجعل مقلد أحمد من العلماء في حاجة أيضا للاجتهاد بين ما روي عنه، حتى إن اختلاف الفتوى أصبح معروفا لدى العوام، ولم يعودوا يستغربونه كما يستغربه العوام في البلاد الإسلامية الأخرى، ففي نازلة الأسهم التي ابتلي الناس بها أخيرا، تجد الناس يقولون هذه الشركة، يرى فلان من العلماء أنها نقية، ويرى فلان أنها مختلطة ويخالفه فلان، ولم يؤثر ذلك على المجتمع السعودي الذي تغلب عليه السلفية أسوة بعلمائهم الذين رغم اختلافهم فهم ولله الحمد أحبة وإن حصل بينهم ما يحصل بين الأقران في بعض المواقف. وكان الشيخ الألباني رحمه الله يرى أن وجه المرأة ليس بعورة ويخالفه أكثر علماء السلفية بشدة، ومع هذه الشدة في الخلاف، إلا أن الألباني رحمه الله ظل محل الإجلال من جميع السلفيين، علماء وعامة، حتى وفاته رحمه الله وإلى اليوم. وجاءت نازلة قيادة المرأة للسيارة في السعودية، فأفتى الشيخان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله بتحريم ذلك على المرأة في السعودية، مراعيان غلبة جانب المفسدة في هذا الأمر على المصلحة بالنسبة للظروف التي يعلمانها في بلدهما، وخالفهما الشيخ الألباني رحمه الله، مع أنهما أدرى منه بظروف المرأة في المملكة العربية السعودية، وبقي الثلاثة حتى توفاهم الله لم يجرح أحدهم صاحبه بما يسوؤه. ولو كان السلفيون ـ هكذا على التعميم ـ يفارقون على الخلاف في الفروع، لكانوا فيما بينهم أجدر على الافتراق، وأنا لا أعمم في النفي كما عمم أخي إبراهيم في الإثبات، لأنني أعرف من الأشياخ السلفيين من هو كما وصف أخي الكريم، ولكنهم لا يعبرون عن منهج كلي، كما أوحى لنا كلام أخينا في نصيحته. هذه حال السلفيين في الخلاف الفقهي إذا وقع فيما بينهم، أما إذا وقع بينهم وبين مخالفهم، فالوقائع تنبئ عنهم. فإن السلفيين يشرفون على مجمعين من أكبر مجامع الفقه الإسلامي في العالم، في مكة وجدة، ويضم المجمعين نخبا من المفتين من غير السلفيين من أنحاء العالم الإسلامي، ويقع بينهم الخلاف الكبير داخل أروقة المجمع، لكنهم لا يتفارقون على أساس من هذا الخلاف أبدا، والمجمعان يعملان منذ سنوات طويلة ويواكبان مستجدات العالم الإسلامي بجد، وأثبت المجمعان أن المسلمين يمكن أن يتوحدوا على أساس الخلاف في الفتوى، ولو اتصف السلفيون بالمفارقة على أساس الخلاف الفقهي، لكان المجمعان منبرا للافتراق لا للاجتماع، بل لانقضى أمرهما منذ زمن بعيد. بل إن أحد هذين المجمعين قد أسندت رئاسته منذ سنين إلى أحد علماء العالم الإسلامي ممن لم يوصف بسلفيته، وهو الشيخ الحبيب بلخوجة من علماء تونس المالكيين، ولم يقع من السلفيين استئثار بهذا المنصب، مع أنه في بلادهم وتحت رعايتهم. ولو نظرت في حال المجامع الأخرى التي لا تخضع لإشراف سلفي، لوجدت أنه يمارس فيها إقصاء متعمد للسلفيين واحتكار في المناصب، ولا يخفى على أحد الأمر في رابطة علماء المسلمين. تلك بشارتي للأخ الكريم، أما الأمر الذي أعتقد أنه يحزنه كما يحزنني: أن كثيرا من غير السلفيين من العلماء مصابون بالداء الذي ذكره أخي الكريم، ولن أستطرد في الأمثلة وأكتفي بالاقتصار على مثال واحد يغني هنا. هذا المثال هو أنت يا أخي الكريم المحب الناصح، فقد خالفت السلفيين في مسألة، واقتضى منك ذلك إلى أن تصفهم بأنهم مبتدعة ومروجون للجبرية ومقزمون لمفهوم الولاء والبراء ومجزئون لتوحيد الألوهية .. بأسلوب تعميمي ضعيف الاستناد إلى البراهين الواقعية، فما كل هذه المفارقة يا أخي الحبيب؟ فإذا كانت هذه حال أخي إبراهيم مع دعوته الصادقة إن شاء الله للتوحد والائتلاف، فكيف الحال مع سواه؟ إلى الله المشتكى. وقبل أن أنتقل من هذه الملاحظة، أحب أن أوجه كلمتي للأستاذ الكريم وغيره ممن قد يقرأ هذه المقالة: لا تجعلوا أخطاء صغار طلاب العلم وحديثي الالتزام والمتحمسين من الشباب في ممارستهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سببا للنيل من المسلمين بالعموم، لأن هذا يغيض إخوانكم منكم، ولسنا في حاجة لأن يغيض بعضنا بعضا، واجروا في نصيحتكم لهم جري الحكيم الذي يضع الهناء مواضع النقب. ومن تعميمات أخي الحبيب إبراهيم، التي لم يدعمها بمثال واحد أو أي نوع من الإثبات العلمي، قوله والعجيب أنهم في المقابل تركوا ذكر الأصول الحقيقية، مثل بعض أصول التوحيد ومقتضياته، كتوحيد الإلاهية، وما يتعلق بها من وجوب الحكم بما أنزل الله، فلماذا هذا التناقض؟! وهنا أسأل ما هي الأصول الحقيقية التي تركها السلفيون؟ وعلى حد ما أعلم فإن الأصول في الإسلام لا تنقسم إلى حقيقية ووهمية كما هو مفهوم كلام أخي إبراهيم، بل جميع الأصول حقيقية لكن منها ما هو متفق عليه وهو الكتاب والسنة والقياس والإجماع، ومنها ما هي أصول مختلف فيها كالاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وغيرها. فإن أراد أخونا الكريم بالأصول الحقيقية: الكتاب والسنة، فسامحه الله، وأنا من جهتي أحله عن نفسي وأسأل الله أن يغفر له زلته في حق الجميع، وإن أراد بها الأصول المختلف، فهي أصول من الاستدلال قد تركها كثير من العلماء من السلف والخلف كما عمل بها كثير من العلماء من السلف والخلف. أما قوله: بعض أصول التوحيد، فكنت أتمنى منه أن يكون أكثر دقة في عبارته، فيقول: بعض المسائل المتعلقة بالتوحيد، لأن أصل التوحيد هو لا إله إلا الله، ولا يخالف فيها السلفيون ومعاذ الله. أما اتهامه السلفيين بترك توحيد الإلاهية، فلا أجد له في ذلك عذرا سوى الخطأ في التعبير، لأنه إن لم يكن أخطأ في التعبير فهو يكفر السلفيين، وهذا ما أجزم يقينا أنه لا يقول به، وهو أسمى وأرفع من ذلك، لكن عبارته شديدة الإيهام بهذا المعنى الشنيع، وأعيدها للقارئ الكريم ليتأملها ويرى لعلي قد أخطأت الفهم: تركوا ذكر الأصول الحقيقية، مثل بعض أصول التوحيد ومقتضياته، كتوحيد الإلاهية. أما قوله إنهم تركوا وجوب الحكم بما أنزل الله، فلن أفهم هذه العبارة كما يجب أن تفهم، بل سأفهمها كما تملي علي محبتي للأخ إبراهيم، لأن معناها الشرعي تكفير السلفيين حيث لا يقولون بوجوب الحكم بما أنزل الله، ولا شك أن من ينكر معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر، ولذلك آمل من أخي إبراهيم التأني في صياغة أفكاره حتى لا يقع في هذه العبارات المشكلة حقا. ولا بأس هنا أن أنقل فتوى شيخي السلفية المعاصرة في الحكم بغير ما أنزل الله: سؤال وفتوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: كثير من المسلمين يتساهلون في الحكم بغير شريعة الله، والبعض يعتقد أن ذلك التساهل لا يؤثر في تمسكه بالإسلام، والبعض الآخر يستحل الحكم بغير ما أنزل الله ولا يبالي بما يترتب على ذلك، فما هو الحق في ذلك؟ هذا فيه تفصيل: وهو أن يقال من حكم بغير ما أنزل، وهو يعلم أنه يجب عليه الحكم بما أنزل الله، وأنه خالف الشرع ولكن استباح هذا الأمر ورأى أنه لا حرج عليه في ذلك، وأنه يجوز له أن يحكم بغير شريعة الله فهو كافر كفرا أكبر عند جميع العلماء، كالحكم بالقوانين الوضعية التي وضعها الرجال من النصارى أو اليهود أو غيرهم ممن زعم أنه يجوز الحكم بها، أو زعم أنها أفضل من حكم الله، أو زعم أنها تساوي حكم الله، وأن الإنسان مخير إن شاء حكم بالقرآن والسنة وإن شاء حكم بالقوانين الوضعية. من اعتقد هذا كفر بإجماع العلماء كما تقدم. أما من حكم بغير ما أنزل الله لهوى أو لحظ عاجل وهو يعلم أنه عاص لله ولرسوله، وأنه فعل منكرا عظيما، وأن الواجب عليه الحكم بشرع الله فإنه لا يكفر بذلك الكفر الأكبر لكنه قد أتى منكرا عظيما ومعصية كبيرة وكفرا أصغر كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أهل العلم، وقد ارتكب بذلك كفرا دون كفر وظلما دون ظلم، وفسقا دون فسق، وليس هو الكفر الأكبر، وهذا قول أهل السنة والجماعة،وقد قال الله سبحانه:وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه، وقال تعالى:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَاأَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ،وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَاأَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ،وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَاأَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وقال عزوجل: فَلاوَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وقال عز وجل: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ< فحكم الله هو أحسن الأحكام، وهو الواجب الإتباع وبه صلاح الأمة وسعادتها في العاجل والآجل وصلاح العالم كله ولكن أكثر الخلق في غفلة عن هذا. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهذه فتوى الشيخ محمد بن عثيمين: أما فيما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله، فهو كما في الكتاب العزيز ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كفر وظلم وفسق على حسب الأسباب التي بني عليها هذا الحكم: 1- فإذا كان الرجل يحكم بغير ما انزل الله تبعا لهواه، مع علمه بأن الحق فيما قضى الله به فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم. 2- وأما إذا كان يشرع حكما عاما تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة وقد لبس عليه فيه فلا يكفر أيضا لأن كثيرا من الحكام عندهم جهل في علم الشريعة ويتصل بهم من لا يعرف الحكم الشرعي وهم يرونه عالما كبيرا فيحصل بذلك المخالف، 3- وإذا كان يعلم الشرع، ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستورا يمشي الناس عليه، يعتقد أنه ظالما في ذلك، وأن الحق فيما جاء به الكتاب والسنة، فإننا لا نستطيع أن نكفر هذا. وأعود إلى تعميمات أخي الأستاذ إبراهيم في حكمه على السلفية، إذ يقول: – تجزيء مفهوم توحيد الالاهية، بل تجزيء مفهوم التوحيد كله، وعرضهم له بما يُشعر بحصره في الأسماء والصفات، وتناول ما يتعلق منه بشرك القبور، وتحكيم المذاهب الفقهية. وتقزيم مفهوم الولاء والبراء، إلا في حدود البراءة من المتصوفة في “نيجيريا”، أو من شركيات ابن عربي (ت 636)، وجاهليات أبي جهل، أما غير ذلك فليس هنا وقته. وهذا الحكم على السلفية لو صح لفسد به كلام الكاتب الذي سطره قبل ذلك بأسطر، وهو قوله: ولكن من الحق أن نقول: إنَ “السلفيين” ـ على ما فيهم من بدع ومخالفات ـ يتوخون المنهج السليم، في أصل دعوتهم، ويحاولون التقرب إلى منهج أهل السنة، وفقه السلف قدر استطاعتهم. فهم ـ بذلك ـ فيما وافقوا فيه أهل السنة من أهل السنَة، وفيما ابتدعوا فيه وخالفوا ليسوا من أهل السنَة، وذلك أن السلفية لو صح كونهم جزئوا توحيد الألوهية وحصروه في الأسماء والصفات والقبور، وحصروا البراءة في البراءة من متصوفة نيجيريا، لو كانوا كذلك لم يكونوا من أهل السنة أصلا، لأن من هذه صفته فليس من أهل السنة سواء ولو وافق أهل السنة في بعض الأمور، فإذا كان أخونا إبراهيم سامحه الله مدركا لحقيقة تهمته هذه فهو ينفي انتساب السلفيين إلى أهل السنة أصلا، وليس هناك داع لأن يجاملهم ويقول إنهم يتوخون إتباع المنهج السليم. ولم يأت لنا الكاتب الكريم بمثال على هذه الدعاوى الخطيرة، وبما أنه ليست مدعومة بأمثلة فإنما هي انطباعات شخصية، ونحن نتقبل منه هذه الانطباعات، لأنها جاءت من قلب ناصح مريد لنا الخير، لكن من حقنا عليه أن يسمح لنا بالقول: إن نصيحته جاءت في غير محلها، ومن حقه علينا أن نخبره بموضع خطئه. فالتوحيد لا يتجزأ مفهومه عند السلفية، إذ التوحيد في اصطلاحهمً: هو اعتقاد أن الله واحد في ذاته وواحد في ربوبيته، وواحد في أسمائه وصفاته واحد في ألوهيته وعبادته وحده لا شريك له. ولهذا لا يمكن أن يقولوا بتجزئ مفهوم التوحيد، إذ مفهومه وحدانية الله تعالى، وهي لا تتجزأ أبدا، فمن قال إنه واحد في ذاته ليس واحدا في ربوبيته أو إلاهيته، فقد أشرك، وكذلك من قال إنه ليس واحدا في أسمائه وصفاته. أما ما تواضع عليه السلفيون من عهد ابن تيمية رحمه الله حتى الآن من تقسيم التوحد إلى ثلاثة أقسام، فليس هذا في حقيقته تقسيما لذات التوحيد والعياذ بالله، بل تقسيم لعلم التوحيد، إذ إن العلماء وجدوا أنفسهم في حاجة لتقسيم هذا العلم إلى هذه الأقسام لأغراض منهجية، منها تمييز مسائله وضبطها، وتمييز المخالفين في كل مسألة من هذه المسائل، إلى غير ذلك من الفوائد التي يجنيها الباحث من حسن التقسيم والترتيب. أما تغليب السلفيين للكلام في الأسماء والصفات عن سائر أنواع التوحيد، فهذا قد يكون صحيحا في وقت دون وقت، حيث إن الحديث عن أي قسم تبعا لحاجة إليه، فالباحث يجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، كان أكثر بحثهم في توحيد الأسماء والصفات، لكونهم ابتلوا في عصرهم بطوائف تخالف في مسائل الأسماء والصفات، أكثر من مخالفتها في الإلاهية والربوبية، أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكان أكثر كلامه في توحيد الألوهية، حيث كان في الجزيرة العربية ولا يعرف أهلها شيئا عن الجهمية والمعتزلة، ولكنهم ابتلوا بمخالفات تتعلق بتوحيد الألوهية، فكثر كلامه فيه وألف كتابه التوحيد ورسائله الأخرى فيه. فإذا حصل وانشغل بعض علماء السلفية بقسم من مسائل التوحيد، فليس ذلك لكونهم لا يقولون بسواها بل لكون حاجتهم إلى الإنكار كانت إليها، ولن ترغم عالما وجد مجتمعا ضل في الأسماء والصفات أن يتكلم في الألوهية وحاجة المجتمع إليها أقل، والعكس أيضا صحيح. ثم إننا نرى الكاتب وفقه الله يتناقض تناقضا عجيبا، فبينما نجده ينكر على السلفيين في صدر مقاله كونهم يفارقون الناس على المسائل الفقهية، نجده الآن ينكر على السلفيين انشغالهم بإنكار تحكيم المذاهب الفقهية، أي أن السلفيين هم من ينكر مفارقة الناس على الخلاف الفقهي، وهذا إن شاء الله هو الحق الذي نسأل الله أن يعيننا عليه، والحمد لله أن الله أنطق أخانا الكاتب به وهو جزاه الله خيرا حري بالحق وأهل له. أما كثرة تناول السلفيين لما يتعلق بشرك القبور، فهذا حق ولله الحمد، لا ينكرونه ولا ينبغي أن ينكر عليهم، لأن شرك القبور من أعظم ما يعصى به الله في هذه الأرض، فهو من أبرز ذرائع الشرك الأكبر الذي جاءت الرسل بالتحذير منه وهي جريمة في حق التوحيد، لا نستغني في إنكارها والسعي لتخليص دين المسلمين منها عن كل جهد،،لكن الكاتب وفقه الله تناقض أيضا في إنكاره علينا حتى لم نعرف ماذا يريد، وذلك أنه قال في نفس السطر : إن السلفيين يشعرون بانحصار التوحيد في الأسماء والصفات ويجتزئون توحيد الألوهية، ثم يقول في نفس السطر إن السلفيين ينشغلون بإنكار شرك القبور، وشرك القبور هو من مسائل توحيد الألوهية وليس من مسائل توحيد الأسماء والصفات، وأكرر هنا : أي المعنيين يريد وأي الأمرين يرى الكاتب أنه شغل السلفيين؟ الواقع أن كلا الأمرين هو شغل السلفيين والحمد لله تعالى. أما ما اتهمنا به من تقزيم الولاء والبراء، فلو كان ما ذكره صحيحا، فليس هو بتقزيم، بل هو مصادرة لهذا المفهوم ومعاندة له، وحيدة به عن معناه الحقيقي، وهذا كله ولله الحمد مما نبشر الكاتب وفقه الله أننا لا نقول به، وكيف نقزم مفهوم الولاء والبراء والله تعالى يقول:{قَدْكَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءمِنكُمْ وَمِمَّاتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍرَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}ويقول تعالى:{لَاتَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْكَانُوا آبَاءهُمْ أَوْأَبْنَاءهُمْ أَوْإِخْوَانَهُمْ أَوْعَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فلا يمكن لهذا المفهوم أن يحاد عنه أو يقزم. وكيف يكون السلفية قزموا هذا المفهوم، وهم الذين أخرجوا هذا المفهوم مستقلا، إذ لا يخفى على الكاتب أن أحدا من العلماء الأوائل لم يكتب في الولاء والبراء مستقلا، بل إن إفراد هذا المفهوم بمصطلح مستقل لم يكن معروفا، وأن أول من أبرز هذا المصطلح وأفرده بالبحث هم السلفيون، وللمعاصرين من السلفيين عدد من الكتب ترد على ما ذهب إليه الكاتب الكريم ومنها: الولاء والبراء للدكتور محمد سعيد القحطاني، ومناط التكفير بموالاة الكفار للدكتور عبد الله بن محمد القرني، والولاء والبراء بين الغلو والجفاء للدكتور حاتم بن عارف العوني، فليرجع لها الجميع ليعرفوا مفهوم المعاصرين من السلفية للولاء والبراء، ليظهر أن من فضائل السلفيين إبراز هذا المفهوم كبحث مستقل عن بطون كتب العقيدة. أما البراءة من المتصوفة في نيجيريا ـ وقد قال الكاتب ذلك من باب السخرية ـ ففيه أمران: الأول: أن عناية السلفيين بالمتصوفة بنيجيريا أو ما هو أبعد منها، ليس موضعا للسخرية، لأن أهل نيجيريا كأهل الأردن لا بد أن تكون عنايتنا بهم على حد سواء، والعناية بتصحيح عقائد النيجيريين ومن هم أبعد منهم، هو من محامد السلفية ولله الحمد وحده، الآخر: أن السلفيين لا يبرؤون من أحد من المسلمين أبدا حتى لو كانوا من أشداء أهل البدع، وأولئك هم قاتلوا مع المتصوفة الأفغان والبوسنويين والشيشان، ضد أعداء الدين من الكافرين، ولكنهم يبرؤون من أفعالهم وبدعهم، وهذا من فضل الله عليهم وفرق بين البراءة من المسلم والبراءة من بدعته . أما البراءة من شركيات ابن عربي وجاهلية أبي جهل، فهذه منقبة ولله الحمد، وذكرها يدل على تناقض الكاتب وفقه الله، وذلك أنه اتهمنا قبل ذلك بسطر بتقزيم مفهوم الولاء والبراء، ومن يبرأ من جاهلية أبي جهل يبرأ من كل ما سار على نهجها من جاهلية حديثة. لكن ما ذكره الكاتب متماش مع الخلل المنهجي الذي أشرت إليه في أول المقال، حيث لا يثبت الأحكام العامة ولا يمثل لها. أما آخر ما دلنا عليه الأخ الكريم من عيوبنا، فهو ما أسماه الجبرية الاجتماعية. وخلاصتها: النأي عن الإصلاح السياسي انتظارا للتغيير الإلاهي المحتوم، وقد استند في نسبة هذا الرأي إلى السلفية على كتاب محمد شفره: هي السلفية، وأنا لم أقرأ كتاب محمد شقره، ولا أعتقد أن كاتبا مثل محمد شقره يمكن أن يمثل تيارا إسلاميا كبيرا ممتدا من الهند حتى المغرب العربي، وكون السلفيين لم يردوا على كتابه ليس دليلا على تبنيهم لمنهجه، كما يتصور الأخ إبراهيم عسعس، لاسيما إذا كان ما أورده في كتابه مما يسوغ الخلاف فيه. وليعلم الكاتب وفقه الله أن السلفيين في السياسة ليس لهم منهج متفق، وذلك لأن السلف رضي الله عنهم لم يكن لهم أيضا في السياسة منهج متفق، فقد اختلف السلف بين علي ومعاوية كما اختلفوا في الخروج على يزيد بن معاوية مع الحسين رضي الله عنه ومع عبد الله بن حنظلة من بعده، كما اختلفوا في صحة خروج ابن الأشعث على الحجاج، مما يؤكد أن الرؤية السياسية ليست أمرا محسوما لدى السلف، ولذلك اختلف السلفيون فيها . والذي يستقر عليه أكثر السلفيين اليوم، هو ما استقر عليه التابعون من بعد فتنة عبدالرحمن بن الأشعث من التزام طاعة ولي الأمر، امتثالا لأمر الله تعالى في الطاعة لمطلق أولياء الأمر ما أقاموا الصلاة كما تصرح به الأحاديث الصحيحة في صحيح مسلم وغيره، أما إذا لم يقيموا الشرع، فيعود الحكم بالخروج عليهم إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد. هذا خلاصة ما أعرفه من منهج أكثرهم، وأنا أعلم أن هناك من المنتسبين إلى السلفية من بالغ في قضية طاعة ولي الأمر حتى صار يبرر مخالفات الحاكم الشرعية، بل و أصبح أداة في يد بعض الاستخبارات العربية علم أم لم يعلم، كما أن بعضهم بالغ في الخروج على الحكام حتى أصبح أداة في يد الاستخبارات العالمية علم أم لم يعلم. أما العمل السياسي السلمي في البلاد التي تحكم بأنظمة برلمانية، فكثير من السلفيين يؤيدون مثل هذه الممارسة كوسيلة للإصلاح، ومن أمثلة ذلك تلك المشاركة الناجحة للسلفيين في مجلس الأمة الكويتي. وتنوع الطرح السياسي لدى السلفيين دليل على ثراء منهجهم ورحابته بالاختلاف، ولا عبرة ببعض المنتسبين للمنهج السلفي الذين يرمون كل من خالفهم في أي جزئية من جزئيات العمل السياسي، بكونه ليس سلفيا، فهؤلاء مردود عليهم بضيق أفقهم وعدم معرفتهم بعمل السلف الذي ينتسبون إليه. وفي الختام: أقول إنني أعلم أن مقال الكاتب منصب على توجه معين منتسب للسلفية، قليل الأتباع ولله الحمد، لكن لعل أصحاب هذا التوجه هم من خالطهم الكاتب في بلده، وهم يصورون أنفسهم على أنهم هم السلفيون وحدهم ويصفون حتى إخوانهم من السلفيين بالابتداع لمجرد مخالفتهم إياهم في بعض النوازل العصرية.لكن منهج التعميم وعدم ضرب الامثلة حرمنا كثيرا من الاستفادة من نصيحة أخينا الأستاذ الكريم وفقه الله

د.محمد بن إبراهيم السعيدي


 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.