جدال التكفير والدرر السنية

تكبير الخط تصغير الخط

إنكار علاقة التكفير بـ”سلفية الدرر السنية” هو خيانة للأمة والوطن”. بهذه المجابهة القوية، علق د. حاتم العوني عضو مجلس الشورى السعودي السابق والباحث الشرعي على ما يثار من لغط في الساحة الفكرية اليوم حول التكفير الممارس، ومرتكزات “داعش” الشرعية التي اتكؤوا عليها في ذبحهم وقتلهم للمسلمين بعد أن كفروهم. المقالات تتالت من كل حدب وصوب، تربط التكفير بأئمة الدعوة الإصلاحية، وكانت فرصة مواتية لكل أولئك المختلفين مع المدرسة السلفية؛ كي تعلو أصواتهم تشنيعا عليها، بل ذهب د. العوني إلى أبعد من ذلك في تحدّ فاقع، قائلا في تصريحه الشهير بالزميلة “الحياة” إنه مستعد لتقديم كل الوثائق والنقولات التي تؤيد ما ذهب إليه، بعد أن قسّم ممارسي هذه “الخيانة” من العلماء وطلبة العلم إلى جاهل بـ”الدرر السنية”، ومنافق يمارس التقية، مطلقا عليهم وصف “الداعشيون القعدة”، وثالث أخير منتفع من عدم الاعتراف بالخطأ، راميا إياه بأنه يريد زعامة دينية، على حساب خراب الأمة وسفك دماء أبنائها. قبل أسابيع أيضا، كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” تطالب في تغطية لها للأحداث في الساحة السعودية؛ بأن تنفك الدولة عن معاهدة الإمامين، وكتب مجموعة من الليبراليين السعوديين مثل ذلك، وصرحوا بها علانية، ولن ننسى أبدا تلك المقالة القوية التي كتبها الزميل الدكتور حمزة السالم العام الماضي في صحيفة (الجزيرة) بعنوان: “السلفية على فراش الموت”، دعا فيها د. السالم الدولة إلى التخلي عن السلفية، وقال نصا: “لم تَعُد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب اليوم إلا عبئاً على الدولة السعودية، بعد أن كانت مصدراً من مصادر قوّتها وعزّها. فالدعوة قد تخلّفت تخلُّفاً شديداً عن جميع مظاهر التطوُّر الإنساني الهائل الذي حدث في العقود الماضية”، ووصف حالها بقوله: “فقد وصلت إلى مرحلة متأخرة من شدة المرض، فهي أشبه ما تكون في العناية المركزة دون علاج حتى يأتيها أمر ربها”. أشعر بأن ثمة ربطا ممنهجا، بين اتهام أئمة الدعوة بأنهم أساس التكفير، والمطالبات بنقض المعاهدة التاريخية بين الإمامين، وتنحية السلفية عن الدولة. هؤلاء يزيدون الطين بلة، ولا يراعون المرحلة الحساسة التي نمر بها كمجتمع ودولة، فيما الأحداث السياسية تمور حولنا وتفجؤنا صباحا وليلا، وقد رددت على د. السالم وأضرابه حينها بمقالة في هذه الصحيفة بعنوان: “بل السلفية.. قوّة وديمومة للدولة”، وما زلت مؤكدا على هذا الأمر، رغم أن توالي الأحداث، وما يشهره منظرو “داعش” من أقوال لأئمة الدعوة الإصلاحية، متكئين عليها في تكفيرهم لمن يحاربونهم؛ تساعد أصحاب الفريق المهاجم للمدرسة الإصلاحية، وتؤيد وجهة نظرهم بأن أصول التكفير هي في منهجنا السلفي. ربما كان أساس اختلاف أولئك الباحثين والسلفية كما في تعريف العبادة، ومنهج الولاء والبراء، وهم يستلون من “الدرر السنية” كل نقولات التكفير التي قيلت وقتذاك، ليتحدوا بها مناصري المدرسة السلفية وأتباعها، وأعترف هنا بعدم تخصصي؛ لأناقش وأجادل في تلك المسائل الدقيقة التي تحتاج إلى جهابذة الفقهاء والشرعيين، بيد أنني على الأقل قرأت بعض تفاصيل تلك المرحلة سياسيا واجتماعيا، وأعرف بأن تلكم المرحلة التي كان عليها أولئك الأئمة وقت إفتائهم، مختلفة بالكامل عن زماننا هذا، فقد كانت مرحلة متفشية فيها الأمية والجهل والتعصب، وفشت فيها مظاهر الشركيات أيضا، وبين يدينا القاعدة الشهيرة في الفقه، بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وليس من المعقول إغفال ظروف تلك المرحلة، لنحاسبهم نحن في مرحلتنا هذه. هنا دعوة قالها بعض الفضلاء، وأكررها هنا في سطوري بأن ينبري بعض العلماء وطلبة العلم ومن تلامذة المدرسة السلفية، لتنقية ذلك التراث الموجود في “الدرر السنية” وبيان أحوال وظروف الفتاوى التي يشهرها هؤلاء الباحثون ليصموا مدرسة “الدرر السنية” السلفية بأنها أساس التكفير؛ قطعا للطريق على من سيتحجج بتلك النقولات، إن كان من صبية ومراهقي “داعش” أو من شانئي وخصوم المدرسة السلفية، وثمة سلف لنا في هذه التنقية التي أطالب؛ ما يتناقله بعض طلبة العلم بأن معالي الدكتور عبدالله آل الشيخ رئيس مجلس الشورى ونجل المفتي الأشهر محمد بن إبراهيم آل الشيخ، قام بتحقيق وترتيب تراث والده يرحمه الله، في خطوة مباركة ستحفظ لنا علم سماحته، وبنفس الوقت، تقطع الطريق على من يستل تلك الفتاوى، ليسقطها على واقع غير ذلك الواقع، وزمن ليس بذلك الزمن الذي أفتى فيه. أقول بهذه الدعوة، ولا أطالب بالتمييع أو التدليس لأجل إرضاء شانئ لن يرضى، أو غرّ متصلب، بقدر ما أود أن نحفظ تراث أولئك الأئمة من تفسيرات تخرج لنا أمثال “داعش”، أو تعطي الفرصة لمبغضي التدين لينالوا من معاهدة الإمامين، ويطالبوا الدولة لتتحرر من المنهج السلفي، ويعلم الله حبي لهذه المدرسة التي نهلنا منها، بل وقامت بلاد التوحيد والحرمين عليها، فالسلفية ليست ردة للعصور القديمة، ولم تكن أبدا ضد انخراطنا في صميم الحداثة، والأخذ بأسباب التطور، والولوج في الحضارة الكونية، بما تتهم به اليوم. لعل أسد السنّة الأمير نايف بن عبدالعزيز -يرحمه الله- سبق إلى توضيح هذه النقطة، فقد قال في ندوة (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) التي نظمتها جامعة الإمام: “حسب ما هو معروف بأن هذه الدولة المباركة قامت على المنهج السلفي السويّ منذ تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود وتعاهده مع الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله، ولا تزال إلى يومنا هذا بفضل الله وهي تعتز بذلك، وتدرك بأن من يقدح في نهجها أو يثير الشبهات والتهم حولها، فهو رجل جاهل يستوجب بيان الحقيقة له. إننا نؤكد لكم على أن الدولة ستظل- بإذن الله- متبعة للمنهج السلفي القويم، ولن تحيد عنه ولن تتنازل، فهو مصدر عزها وتوفيقها ورفعتها، كما أنه مصدر لرقيها وتقدمها، لكونه يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهو منهج ديني شرعي، كما أنه منهج دنيوي يدعو إلى الأخذ بأسباب الرقي والتقدم والدعوة إلى التعايش السلمي مع الآخرين واحترام حقوقهم”. ثمة تآزر يلوح في الأفق.. والعاقل من يصحح ليقطع الطريق.

د.عبدالعزيز قاسم

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.