آخر الأخبار
قيادة الفكر
د. محمد بن إبراهيم السعيدي:
تحكي لنا كتب التراث العربي: أن قبائل معد لما خشيت على نفسها مفاسد الافتراق وعلمت أن بعضها لن يذعن لبعض رأى حكماؤها الوفادة إلى تبع اليمن ليطلبوا منه تمليك بعض سراته عليهم يعطونه الشاة والبعير ويأخذ لضعيفهم الحق من قويهم .
ولم يكن هذا العمل سوى ثمرة ملموسة لجهد أشق منه وأبعد تأثيرا وهو الجهد الفكري الذي لا يكون في الغالب ملموسا لدى سائر الناس , ويمكن تشبيهه بجهد الأديب في صياغة النص حيث يغيب عن قارئه كل مجهود بذله المبدع قبل إبرازه للقراء .
وما عاناه هؤلاء الحكماء يتمثل في تبصرهم بواقعهم وتخلصهم من وطأة الأهواء الذاتية والمصالح القريبة الخاصة وحملهم هم المجموع مضافا إلى هم النفس والأسرة الصغيرة .
وأعظم من هذا كله تخلصهم من وطأة الجمهور ورغباته التي لا يمكن أن تكون أبعد من مواطئ أقدامهم بحال من الأحوال , وكان الارتقاء على أكتاف الأمة أقرب متناولا لو أنهم ساروا وفق ما يريده غوغاء الناس وسوادهم وظهروا للخلق في صورة المدافعين عن حقوقهم والمنادين بتحقيق منافعهم .
لم يكن سواد العرب وغوغاؤهم في ذلك الوقت ليميلوا مع رأي يدعوا إلى تغيير السائد من الأوضاع ويحول بينهم وبين ما يرون أنه بعض مفاخرهم من الظلم والثأر والكسب والتناحر بل وحتى الحقد والغضب كما تصرح بذلك أشعارهم .
كما أن في هذا الرأي انتقاص لسيادة رؤسائهم التي قامت في أساسها على تلك الأوضاع السائدة .
الخلاصة أن هذا الرأي كان ثورة فكرية لدى أولئك الحكماء.
أقطع بأنهم عانوا الكثير قبل التصريح بها كفكرة بقدر ما عانوا من أجل مشاهدتها واقعا ملموسا .
ولا أجد بين يدي سببا لخضوع قبائل معد وساداتها لهذا الرأي إلا أن الحكماء في ذلك الوقت كانوا عددا قليلا جدا , وقلة عددهم تعود إلى كونهم هم الحكماء حقا , فلم يكن ليتسنم منصب الحكمة في ذلك الوقت إلا من ثبت بالتجربة بصره بالأمور وتبينت للناس مغبة مخالفة رأية فنال بذلك قيادة فكرية تضاهي في التأثير أو تفوق قياداتهم القبلية وإذا رأيت في أمورهم صلاحا فذاك لما لهذه القيادة الفكرية من تمكن كما أن فساد أمورهم يعود لتراجع تأثير قياداتهم الفكرية وقد لخص شاعرهم هذه الفكرة بقوله :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وقلة القيادات الفكرية في مجتمع ما ليس في تقديري عيبا في هذا المجتمع فالقيادة في الفكر كالقيادة في السياسة ينبغي أن تكون قليلة العدد , وكثرة أعداد الموجهين للفكر في أي مجتمع مؤشر للفوضى الفكرية التي تعني دخول من ليس أهلا لهذا الشأن في ما ليس له فيه .
وعصرنا الحاضر ليس عصرا تغيب فيه القيادة الفكرية وحسب بل عصر يُنَظر فيه لتغييبها فما تقديس رأي الجماهير واعتباره المعول عليه في اتخاذ أخطر القرارات في المجتمعات الديمقراطية إلا مثال لهذا التغييب .
وأنكى من ذلك وأشد بلاء أن يصبح معيار تقييم القيادات الفكرية مدى قدرتها على سبر توجه الجماهير والسير وراءها فيه والحقيقة أن الجمهور صار- وا أسفاه – هو قائد الفكر، ودور النخبة مقتصر على التعبير عن تلك الإرادات وربما خداعها بأن يقول المرء ما ليس له قناعة به من أجل إرضائها .
وليس السير وراء الجماهير وقول ما يطلبه المستمعون مهمة صعبة فهو أمر يتقنه الجميع لا سيما في عصر كثرت فيه وسائل التعبير لكن الصعوبة كامنة في أن نجعل الجماهير تقول ما نريد وأصعب منه أن يكون ما نريد ه أنفع للجماهير مما تريده هي لنفسها.
إن الذين تصدرهم الجماهير لأنهم يقولون ما يريد الجمهور لا يمكن بحال أن يعدوا قادة فكر أو موجهين للأمة لأنهم أبواق الغوغاء ولا خير في البوق مهما كانت اليد التي تحمله .
وإذا كان العلماء العاملون قديما قد ذموا طائفة من أهل العلم باعتبارهم علماء سلاطين يهيئون للحاكم ذرائع الظلم والاستبداد فإن العالم أو المفكر الذي ينتشي لإقبال الناس عليه ويعجز عن مخالفتهم فيما توجهوا إليه بل يعجز أن يفكر خارج حدود إدراكهم ولا يستطيع الحديث بغير لسانهم , لا يقل عن عالم السلطان ضررا بالأمة إن لم يكن أشد ضررا منه .
إن ما ذكرته في صدر هذا المقال من صفات افترضتها في حكماء العرب الذين وقفو وراء تأسيس دولة كندة هي الصفات التي نريدها في قادة الفكر في عصرنا الحاضر .
وأنا أعلم أن من هو مؤهل لقيادة الفكر في أيامنا الحاضرة ويخلص لهذا المسعى سوف يلاقي من المشاق ما لا يلاقيه الحكماء في أي عصر سبق عصرنا .
والسبب في ذلك أننا في أيام رأي الشارع .
فبعد أن كان أهل الفضائل يذمون تربية الشارع ولفظ الشارع وابن الشارع , أصبحت النخب الفكرية تتنافس في مجارات رأي الشارع , ولم يعد الشارع كما كان مسئولية النخبة كي تربيه وتصلحه وترفع مستواه الديني والأخلاقي بل أصبحت النخبة مسئولية الشارع كي يوجهها إلى ما يريد أن تقول .
إذا كان المريض يصف للطبيب ما يريد أن يأكل وما يريد أن يشرب ودور الطبيب أن يكتب للمريض ما يمليه عليه فقد ضاع الطبيب والمريض معا.
التعليقات