دعوهم يرسمون..!!

تكبير الخط تصغير الخط

د. محمد بن إبراهيم السعيدي:
قبل عشرين عاماً تقريباً ألّف سلمان رشدي كتابه سيّئ الصيت بلغة إنجليزية صعبة مكتوبة لطبقة معينة من المثقفين، ولم تكن تلك الرواية من حيث لغتها أو كاتبها أو ناشرها أو موضوعها مؤهلة لأكثر من أن تكون إنتاجاً أدبياً موجهاً لطبقة عليا من قُرّاء الإنجليزية.
لكن المفاجأة أن تلك الرواية صارت أكثر الكتب مبيعاً وترجمة وتداولاً عبر وسائل الإعلام في أوروبا وخارجها.
ولم يكن ذلك ليكون لولا موجة الاحتجاج العارمة التي تلت نشر هذا الكتاب داخل العالم الإسلامي وخارجه، ونال المؤلِّف من الشهرة والثراء فوق ما كانت تسوّل له نفسه, ولم تفلح الضوضاء التي قام بها المسلمون بصنع شيء بقدر ما أفلحت الأيام التي تكفّلت بأن يُنسى الكتاب ومؤلّفه وأثره.
ليس هذا وحسب، بل إن الأيام أنستنا ـ أيضاًـ ما كان ينبغي أن نستفيده من تجربتنا تلك, وجدّد التاريخ نفسه وعاد الحدث وعدنا كما كنا وكأن التجارب لم تعلمنا شيئاً.
عاد الحدث في هيأة رسوم مسيئة في مجلة مغمورة، ومن رسّام مغمور، وفي بلد من أقل بلدان أوروبا ظهوراً وأثراً في السياسة الأوروبية، فضلاً عن الدولية، وعادت الضوضاء، ثم انتهت فجأة بعد أن أثرى الرسام والصحيفة.
وجاء البابا الجديد وكأنه أراد أن يحقق لنفسه مكانة في قلوب قومه لا يمكن اكتسابها حتى يحدث من حوله ضجيجاً، وليس أقدر على صنع هذا الضجيج له من المسلمين الذين قد جربهم وخبرهم, فقرقع لنا بِشِنانه، وانساق العالم الإسلامي، مساهمين في نشر محاضرته التي ما كان لها أن تنتشر، داعمين له في استحقاق لقب حامي حمى النصرانية والذابّ عن قيم الحضارة الأوروبية.
وكأن الدنمرك قد غاظها أن تنتهي أزمة الرسوم فجأة دون أن تنال ما كانت تطمح إليه من وراء نشرها, وقد بقي للمجلة والرسام مطامع من الشهرة وحقوق النشر لم يصلا إليها بعد, فأُعيدت الكرة، وأعدنا أيضاً ردة الفعل نفسها, و كأن ضوضاءنا أدّت ما أردناه منها, فمنعت بريطانيا كتاب رشدي وعاقبت مؤلفه, ورضخت الدنمرك, واعتذر بابا الفاتيكان.
لماذا لا نعتبر؟
الذي يبدو لي أننا لا نعتبر؛ لأن الجماهير لم تعد تسير وراء مفكريها, بل أصبح المفكرون يتمارون في اتباع الجماهير فيما تذهب إليه إرضاءً لها، وكسباً لمحبتها، بدلاً من أن ينهضوا بواجبهم القيادي للفكر؛ فيقوموا بالحق، ويوجّهوا الجماهير لا أن يتوجّهوا معها!!
ولو نهض المفكرون في هذه الأزمة بواجبهم لما كانت تجاربنا السابقة بعيدة عن أذهانهم، ولم تقع الجماهير فيما وقعت فيه مما انتهى بالأمور إلى أن تساهم الأمة في إشاعة شتم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي عاجزة عن فعل شيء غير الضوضاء.
إن الذي كان ينبغي على مفكري الأمة في هذه الأزمة الأخيرة هو السير بها إلى حيث قادتهم بصيرتهم بالتجارب, ولا أشك أن العاقل يدرك ما يفعله الضجيج من إشاعة مثل هذا الهراء، وجعله محلاً لفضول الناس جميعاً المؤيد والمعارض، وأن ترك السفهاء هو خير وسيلة لإسكاتهم.
ولنفرض أنهم لم يسكتوا: هل نخشى نحن مما يقولون؟
الجواب في تقديري: نعم نحن نخشى ما يقولون, نخشى أن يصدق الناس تلك الأكاذيب على نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك النبي الذي كنا نحن أول من أساء إلى دعوته حين لم نبلغها للناس كما ينبغي, ولم ننشر سيرته العطرة كما نحب أن يعرفها العالم بجميع لغاتهم ولو بالقدر الذي نشر به الأوروبيون مسرحية فولتير أو خزعبلات سلمان رشدي عن النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي نشرت بجميع لغات أوروبا، فيما لم تقم دار نشر إسلامية بتبني نشر السيرة بجميع تلك اللغات.
نعم: نحن نخشى ما يقولون؛ لأننا لم نحقق تكذيب تلك الخرافات في أنفسنا, فمن يقرأ تلك الأساطير، وينظر إلى المسلمين على أنهم أتباع ذلك الرجل، وممثلو دعوته لا يجد إلاّ قرائن يصدق بها ما يُقال، لاسيما وهو ينظر إلى المسلمين في عالمهم وفي أوروبا نظرة عامة يُؤخذ بها محسنهم بذنب مسيئهم.
ولنتصور حال تلك الرسوم لو نشرت ومكتبات أوروبا مليئة بترجمات متنوعة لسيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعريفات مختصرة بمواقف الإسلام من مشكلات العصر بتلك اللغات نفسها, والجالية المسلمة هناك تحمل في عمومها همّ الدعوة إلى الله تعالى، وتمثّل الإسلام فيما دعا إليه من أخلاق ومحبة.
لو كانت تلك هي الحال لكان القارئ أول من يكذّب تلك الرسوم؛ إذ لن يصدق أن المسلمين الذين يراهم أنموذجاً في محبتهم وتعاونهم وصدقهم يمكن أن يكون قدوتهم رجلاً بالبشاعة التي تحكيها الصور, ولكان لهذا الدنمركي أن يتناول من أقرب مكتبة كتاباً يحكي حياة هذه القدوة بلغته المحلية وبأسلوب يرتفع بهذه السيرة عن كل أهواء شخصية.
للأسف كل ذلك لم يحدث فأصبحنا نخشى من كل كلمة تُكتب عن دين الإسلام أو نبيه ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ.
وقد كان الوقت معنا, فعشرون عاماً مرّت منذ التجربة الأولى، ولم يُسمع إلاّ بمشاركات فرديّة في التعريف برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعطها المسلمون من الدعم والدعاية معشار ما أعطوا سلمان رشدي والرسام المأفون من الدعاية والتمكين للثراء.
فلندعْهم يرسمون ونشتغل نحن بتهذيب أخلاقنا كي نصبح بها الردّ العملي على كل كذبة تُختلق لتشويه صورة الإسلام, ولنعملْ على نشر سيرته العظيمة ودعوته الرائدة ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما عمل الأوروبيون على نشر الإلياذة والأوديسة بجميع لغات العالم المكتوبة وبأساليب مختلفة من مطول ومختصر، وبما يتناسب مع مختلف الأذواق والأعمار.
أوليس ذلك هو مدلول قوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)؟ [الحجر:92-99].
بلى هو مدلوله!! فإنّا مأمورون أسوة برسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نصدع بالدعوة إلى الحق، وننشرها بكل وسيلة متاحة، ونتحاشى المستهزئين الذين يعمدون إلى إشغالنا عن واجبنا الأساس، وثنينا عنه؛ فقد تكفل رب العالمين بالكفاية منهم, ولنستعنْ على ما ينالنا من الضيق بالعمل الصالح وعبادة الله كما أمر؛ فإنها أعظم الوسائل لاستجلاب نصر الله تعالى والرد على كل مفترٍ.
ليس فيما أدعو إليه سلبية في التعامل مع هذه القضية -كما يصف البعض رأيي هذا حين طرحته سابقا في مقالتي ( لا تطالبوا البابا بالاعتذار)- بل هو الإيجابية المبتغاة التي تحتفظ بغضبتها متوقّدة كبخار القطار لتنقلها إلى أبعد من رؤيا العين، ولا تنفجر فجأة كقنينة الزيت التي تؤذي حاملها وتقف به في أول الطريق.
هو الإيجابية التي تراعي ظروف الحال والمآل، ولا تذهب بتقدير الذات أكثر مما أثبتت التجارب، وتراعي أيضاً النص ومقاصد الشريعة في الموازنة بين المصالح والمفاسد.
وهو الإيجابية التي تجعل الكلمة في الرضا والغضب بيد قادة الرأي والفكر، ولا تترك الناس فوضى لا سراة لهم، كما لا تتيح الفرصة لسيادة المتعالمين ليقولوا ما يريده الناس لا ما ينبغي أن يسمعه الناس.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.