آخر الأخبار
حرب المصطلحات : من معاداة السامية إلى الطائفية
من معاداة السامية إلى الطائفية (حرب المصطلحات)
ظل إسقاط الأشخاص قرونا طويلة، يتم عبر التشويه المباشر للمرء المراد إسقاطه، وأدت هذه الوسيلة دورها المطلوب في حق الكثيرين، ممن يقال اليوم إن التاريخ قد ظلمهم.
لكن هذه الوسيلة لم تكن كبيرة الجدوى في عصر فشو القلم وتزاحم وسائل الإعلام، وظل إسقاط الأشخاص مطلبا ضروريا للأقليات الغرابية، التي لا يمكن أن تعيش إلا على أشلاء الرموز الساقطين .
وصل اليهود في وقت مبكر من هذا القرن إلى فكرة، ثبت عمليا أنها أكثر جدوى وأشد مناسبة لمتغيرات العصر الاجتماعية والثقافية والإعلامية في سبيل إسقاط الرموز, ألا وهي تشويه المصطلحات، حتى تبدو كريهة الرائحة، ومن ثم إبقائها جاهزة للإلصاق على الظهور، لأن لمعان الإنسان وبريقه، لا ينفعانه في إبقاء الناس حوله، مادامت رائحته تزكم الأنوف.
هكذا استخدم اليهود مصطلح العداء للسامية، لينفر الناس من كل من رمي بهذه التهمة، رغم أن أكثر النافرين لا يعرفون ما هي السامية، فضلا عن أن يكرهوا أعداءها, لكن المصطلح أصبح كريها لدرجة تمنع من التأمل في معناه.
ثم جاء مصطلح الإرهاب وغير الغرب رائحته, ثم سلطوه على كل صاحب مبدأ لا يخدم توجهاتهم المصلحية, ولا يخفى على أحد، كيف عانى ويعاني من هذا الإلصاق، كثير من المؤسسات والدول والأفراد.
ويعود إلينا في هذه الأيام بعض المتنفذين من الشيعة الصفويين، يحملون هذه التجربة البغيضة، ليستخدموها في إسقاط كل من لا يعجبهم، وذلك بإلصاق ورقة الطائفية على ظهر كل من يقف بقلمه ولسانه في وجه طموحاتهم الشريرة، والتي يظهر أن وصفها بالطائفية فيه شيء من التلميع لصورتها.
كل من لا يعجبهم، فهو طائفي: حارث الضاري طائفي, عدنان الدليمي طائفي, سعد الحريري طائفي, السنيورة طائفي, السعودية ومصر والأردن دول طائفية.
وإذا رجعنا إلى المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة طائفي، وجدنا أن كل إنسان على وجه الأرض، يمكن أن يوصف بأنه طائفي، من جهة توزع البشر إلى طوائف دينية وسلالية وفكرية، كما هي سنة الله في خلقه.
لكن هذا المصطلح لم يعد ينظر إلى أصله اللغوي والاصطلاحي في ظل التشويه المقصود له، وذلك بوضعه في سياقات سيئة جعلت الناس تنفر من كل من يوصف بالطائفية دون الالتفات إلى تاريخه ومنجزاته.
الشيخ حارث الضاري في مؤتمر نصرة العراق باسطنبول، الذي نظمته الحملة العالمية لمقاومة العدوان، حاول أن يكون سياسيا، ويبتعد عن كل ما يعرض ظهره لأكف الملصقين, أما عدنان الدليمي، ففهم اللعبة وألصق بيده هذه الورقة على صدره، مبينا أن الخوف من المرض ليس مبررا للتردد في تشخيصه كما هو.
وتقارير السفارة الأمريكية، تبين أن ميليشات جيش المهدي أعظم خطرا على السلم الشعبي من تنظيم القاعدة، مدعمة تقريرها بالوقائع الدامغة، ولا رد عند مسئول العلاقات الخارجية في جيش المهدي، سوى أن هذه دعوة لإشاعة الطائفية.
بيانات ونداءات صفوية، تنتشر عبر شبكات الإنترنت، تهدد بموسم حج ساخن، تتعامل معها السفارة السعودية في سوريا بإيجابية لحماية الحجيج، ثم لا يجاب عن هذه البيانات المخزية، بل يرد على تصرف السفارة السعودية بأنه طائفي.
إخراج الناس إلى الشوارع في لبنان وتعطيل الحياة اليومية، لا يناقش، ويقال لمن يريد عودة الحياة اليومية إنه طائفي.
نخبة من الدعاة السعوديين يصدرون بيانا يدعون فيه إلى إنقاذ أهل السنة في العراق, فيرد عليه بأنه بيان طائفي، أما كتائب الموت المراد التخلص منها، فهي بريئة بالرغم من كل البينات الشاهدة عليها، والطائفي من يريد الخلاص منها.
من يدعو إلى وحدة العراق بجميع طوائفه، يوصم بأنه طائفي، أما من يدعو إلى تقسيم العراق تحت شعار الفيدرالية، فهو قائد محنك بعيد النظر، يسعى إلى عدم تكرار الظلم على قومه.
قناة فضائية تكشف بعض ما يعانيه أهل العراق من التشريد والذبح، توصف بأنها طائفية, أما القناة التي تبث على مدار الساعة لطميات وأناشيد تحرض على الكراهية والقتل، فهي قناة تبكي مظالم أهل البيت عليهم السلام.
هكذا جعلوا من الطائفية سيفا يرفع في وجه كل كاتب ومفكر، ليحولوا بين العقول وبين المنطق السليم والمراجعة الواعية للأحداث، بالشكل نفسه الذي كان يرفع به سيف العداء للسامية سواء بسواء.
لقد ثبت الآن بالتجربة، أن تشويه المصطلحات وإلصاقها بالأنقياء، أسرع فاعلية وأشد فتكا من تشويه الرجال بصورة مباشرة.
فمادا ينبغي أن نصنع كي نتجنب نتائج هذه الحرب المصطلحية الشرسة، والتي تدار حتى الآن بكفاءة متناهية، لكن من قبل طرف واحد, وكيف نضمن عدم الوقوع في أتونها مرة أخرى؟
لننظر في أول عمل يقوم به قادة هذه الحرب، وهو فرض مفهومهم المشوه للمصطلح على الأوساط الإعلامية، حتى يكون هذا المفهوم أحد المسلمات التي لا تقبل النقاش عند الجميع، ومنهم الضحايا المرتقبين لهذا المفهوم المشوه.
وبهذا ينبغي في المقابل أن يكون أول ما نفعله: عدم الانصياع لأي مفهوم يراد فرضه علينا إعلاميا، ما لم يكن المفهوم مرتبط الدلالة حقيقة بالمعنى اللغوي, وما لم يكن لدينا تعريفا لهذا المصطلح المطروح، متوافق مع ثقافتنا وثوابتنا.
إن انصياع المفكرين والساسة لمفاهيم مفروضة إعلاميا، سيؤدي إلى ضربهم بها وتقييد تحركاتهم الفكرية والسياسية بحبال هذا الفهم المفروض, وليس أقرب دلالة على ذلك من فرار كثير من الكتاب والسياسيين من تسمية الأشياء بأسمائها، في ظل هذا الواقع الأليم في العراق وفي لبنان، واستخدام الكنايات والتقية بكثرة في خطاباتهم, بل والسكوت عن ذكر كثير من الفضائح التي تجري في أرض الواقع، خوفا من وصمهم بالطائفية.
د. محمد بن إبراهيم بن حسن السعيدي
التعليقات