عصرنة الدين وتديين العصر

تكبير الخط تصغير الخط

ربما كان من المعالم الفكرية لبداية القرن الرابع عشر الهجري العشرين للميلاد: ظهور التفكير بعصرنة الدين , أي : تكييف تعاليمه لتكون متوافقة مع مستجدات العصر الثقافية والتقنية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية , وسلك المفكرون على هذا النحو مسالك شتى في التعبير عن رؤاهم , وما زالت دعواتهم على اختلافها موجودة حتى يومنا هذا , لكنها لم تأخذ حيزا من التقدير العلمي والمجتمعي يتناسب مع تاريخها وما تهيأ لها من وسائل الانتشار , وهذا من فضل الله ومنته .
وتأصل هذه الدعوات لنفسها بالاستدلال بسمات وخصائص لهذا الدين لا يناقش في صحتها عالم أو عامي , ككون الإسلام صالح لكل زمان ومكان , وأنه لا يتعارض مع العقل , وأن أحكام هذا الدين معللة بالحكم والمقاصد , لكنهم ينزلون هذه المحاسن الإجمالية للشريعة الإسلامية منزلة النصوص التفصيلية , ويدخلون مع النصوص فيما سماه الدكتور عبد العزيز قاسم : نفق التأويل الذي لا نهاية له .
والذي استجد في أيامنا هذه عن بدايات القرن الماضي : أن مصطلح عصرنة الدين أصبح لكثرة تكراره , وقلة تحريره مصطلحا سائغا سائرا على ألسنة كثير من الدعاة والمفكرين والكتاب , وإن كان ألسواد الغالب منهم يستنكر ما يستبطنه هذا المصطلح من شرور ومفاسد , فيحملهم الغضب لنصوص الشريعة التي تنتهك تحت بطانة هذا المصطلح على مطالبة العلماء والمتخصصين بتحديد ضوابط عصرنة الدين , وهو ما فعله مأجورا إن شاء الله أخونا الدكتور عبد العزيز قاسم في أحد مقالاته القيمة في ملحق الدين والحياة بصحيفة عكاظ .
وقبل البحث عن هذه الضوابط يجب علينا أن نسأل : هل نحن حقا مطالبون بعصرنة الدين ؟ أم أن مهمتنا كعباد لله تعالى , هي تديين العصر أي جعله متوافقا مع الدين ؟ .

قد يقال : وما عسى يكون الفرق إذا كانت النتيجة واحدة وهي أن لا نجد تناقضا بين العصر ومعطياته والدين وتعاليمه ؟
والجواب : أن النتيجة ليست واحدة ولا متقاربة , بل نتيجتان متباينتان أشد ما يكون التباين , فعند عصرنة الدين نجعل العصر أصلا نكيف الدين على وفقه , الأمر الذي يقدح في كمال الدين ومصادر تلقيه , ويجعل معطيات العصر مصدرا من مصادر التشريع .
وحين نقول بتديين العصر فنحن نجعل الدين مقياسا أصيلا لخطئنا وصوابنا , فما وافق الدين فهو الصواب وما خالفه فهو الخطأ , ونحفظ بذلك مصادر تلقي الشريعة من أن تنتهك حرمتها ويعبث بها المتأولون الذين يضيقون ذرعا برد متشابهها على محكماتها , ويأبون إلا أن تكون المتشابهات دليلا لهم على عدم جدوى اتخاذ النصوص الشرعية سندا أصيلا .
لا يقال إن الفقهاء اتخذوا العرف دليلا والعادة محكمة , وقالوا بتغير الفتوى بتغير الأمكنة والأزمان , وكل هذا دليل على جواز عصرنة الدين وأنها لا تنافي بينها وبين تقدير النصوص واحترامها .
لا يقال ذلك : لأن العرف لا يستدل به إلا إذا كان عرفا محكوما عليه بالإباحة بمقتضى البراءة لأصلية أو بنص خاص من الكتاب أو السنة , وحين يحكم بإباحته فلا يستخرج منه على الوقائع حكم من الأحكام الخمسة المعروفة ’ بل يستخرج من العرف تقدير ما حكمت النصوص بإباحته أو استحبابه أو وجوبه أو كراهته أو تحريمه , كما حكم الشرع بلزوم النفقة على الوالد , وجعل تقدير المطلوب إنفاقه موكولا للعرف كما قال تعالى : {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }الطلاق7وأباح لمتولي مال اليتيم أن يأكل منه وترك تقدير مايحل له للعرف كما قال سبحانه : {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً }النساء6 .
وعلى ذلك أمثلة كثيرة في سائر أبواب الفقه , أما أن يكون العرف دليلا ابتداء فهذا ما لم يقل به أحد .
وكذلك العادة : لا تحل حراما ولا تحرم حلالا , بل هي موضع لتنزل سائر الأحكام عليها , فإذا حكمنا بموجب النص بإباحتها , جعلناها حكما في فهم تصرفات المتعاقدين ونياتهم , كما لو ادعى أحدهم على زيد ألف ريال , وأقر زيد الألف وادعى أنها هبة بقرينة أن الرجل أعطاها إياه ليلة عرسة ومن عادة الناس أن يعطوا مثل هذا المبلغ إعانة على العرس , فإننا نقبل دعوى زيد الهبة بقرينة العادة , وهذا بخلاف ما لو كان المبلغ المدعى به عشرين ألفا فإن زعم زيد أنها هبة لا يقبل لأنه لا يجري في عوائد الناس هبة مثل هذا المبلغ ليلة العرس .
أما تغير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة , فذلك متعلق بالفتاوى التي مستندها العرف والعادة على النحو الذي قدمت في المثالين السابقين , فإذا حكمنا على الزوج بنفقة زوجته ألف ريال في الشهر في هذه البلاد فإننا نحكم بربع ها المبلغ في بلد آخر , وإذا حكمنا بدفع العوض نقدا في بلد , فقد نحكم بدفع العوض عينا في بلد آخر تبعا للعرف وعوائد الناس .
فيبقى الحظ الأوفر والنصيب الأكمل في استباط الأحكام إلى النصوص المحكمة كتابا وسنة وما ينبثق عنها من أدلة كا الإجماع والقياس .
أما مقاصد الشريعة فقد كثر الحديث حولها في أيامنا هذه وألفت فيها البحوث المطولات , لكن الذي ينتهي إليه الباحث المنصف أن مقاصد الشارع لا يجوز اتخاذها دليلا ابتداء , بمعنى أنه لا يجوز للمفتي أن يحكم بإباحة أمر أو تحريمه وليس له سند إلا ظنه أن إباحة هذا الأمر أو تحريمه تلبي مقاصد الشارع من التشريع .
لأننا مع قولنا بأن أحكام الله تعالى معللة بالحكمة فإننا لا نقطع بالحكمة إلا إذا كانت منصوصة , أما الحكم المستنبطة فهي مضنونة أو موهومة مستندها التدبر المحض , أي أن مصدر القول بها هو العقل ولا يجوز أن يكون العقل مصدرا للأحكام مطلقا .
نعم نستفيد من علم المقاصد في تدبر أحكام الشريعة واستنباط الحكم منها , كما نستفيد منها في الترجيح عند تعارض الأدلة في نفس المجتهد , لكن المقاصد وحدها ليست دليلا حاكما إذ هي ثابتة بالدليل , وما كان محتاجا إلى دليل لا يكون دليلا منفصلا .
أما القواعد الفقهية الكبرى كقاعدة : إذا ضاق الأمر اتسع , والمشقة تجلب التيسير , فهي كلمات جامعة لمعاني عدد غير قليل من النصوص الشرعية , فهي بذلك أدلة باعتبار كونها جامعة لمعاني النصوص الشرعية , ومع ذلك لا يمكن أن يستدل بها في مقابلة نص ذي دلالة خاصة , بل النصوص الخاصة مقدمة عليها , ويمكن استخدامها مع النصوص الخاصة كمعضدات لها لاسيما إذا كانت دلالة النص الخاص غير قطعية , أو في مجال الترجيح عند الاختلاف وتعادل الأدلة .
إن من أكثر ما يتذرع به المطالبون بعصرنة الدين , أي : تكييفه ليتوافق مع مستجدات العصر , هو القول بالمصالح المرسلة , فكل أمر محرم يراد إباحته لا يجد هؤلاء المتعصرنون ما يردون به النصوص أقوى من القول بالمصالح المرسلة, وقد بلغ من ترويجهم هذا المصطلح لإباحة ما حرم الله تعالى أن صار مصطلحا رائجا حتى على ألسنة العامة لكثرة ما يستخدم لموافقة الأهواء في جميع وسائل الإعلام وفي كتابات بعض المتأثرين بهذا التوجه من المشتهرين بالعمل الإسلامي .
ومرد الاغترار والاجتراء على المصالح المرسلة هو عدم القراءة في كتب أصول الفقه التي اعتنت بتحرير مسألة الاستدلال بالمصالح المرسلة , لأن من تأمل في هذه الكتب يعلم أن علماء الأمة قالوا بالمصلحة المرسلة لا لتكون وسيلة لضرب النصوص أو إباحة المحرمات وتحريم المباحات , بل هو قول مراد به حفظ النصوص , ويتجلى ذلك من تعريف العلماء للمصلحة المرسلة بأنها ما لم يرد من الشارع إلغاؤه أو اعتباره , هذا من حيث الإجمال أما عند التحرير فإنهم يقولون : إن المصلحة إما أن تكون متحققة أو مظنونة أو موهومة , وكذلك فإن الشارع لا يمكن أن يكون ترك أمرا من الأمور دون اعتبار أو إلغاء , لأن اعتبار الشار ع وإلغاءه إما أن يرد على جنس هذا الأمر أو نوعه أو عينه , ولا يمكن أن يخرج فعل بشري عن أن يتعلق به حكم الشارع بأحد هذه الوجوه , فإذا ثبت إلغاء الشارع لجنس أمر أو نوعه أو , فلا يمكن أن يكون معتبرا إلا إذا نص الشارع على عينه .
وكذلك إذا ثبت اعتبار الشارع لجنس أمر أو نوعه فلا يمكن أن نلغيه إلا بنص على عينه .

وبذلك نعلم أن الاستدلال بالمصالح المرسلة عند من يقول به ليس استدلالا منفصلا عن النص ,بل هو استدلال مقرب للنص ومبين له .
أما على قول من برد الاستدلال بالمصالح المرسلة وهم جمهور العلماء فيرون أن لا حاجة إلى استحداث دليل جديد لاسيما والاستدلال به مبني على فرضية وجود ما لم يرد من الشرع اعتباره أو إلغاؤه .
وبذلك يثبت أن المصلحة المرسلة سواء أقلنا بها أم رددناها ,إنما هي شاهد على رعاية العلماء رحمهم الله للنصوص في جميع الأزمان ولا يمكن استخدامه ذريعة لرد النصوص والعبث بالمحكمات تحت أي ذريعة .
وحين نقول : إن كل ما يرد عل العباد من نوازل لا بد أن نجد في الشرع ما يثبته أو يلغيه , فإننا نقطع الطريق أيضا أمام من يحاول اتخاذ البراءة الأصلية دليلا منفصلا عن النصوص يتيح لهم فرصة الحكم بإباحة ما تزينه لهم الأهواء سعيا وراء عصرنة الدين .
وذلك أن البراءة الأصلية أو الأصل في الأشياء الإباحة : إنما هي مقيدة بالمنافع , ولذلك عبر كثير من محققي أصول الفقه عن هذه القاعدة بقولهم : الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم , فإذا تبينا ذلك عرفنا : أن الحكم بإباحة أمر بناء على عدم دليل يحرمه لا بد أن يسبق بنظر آخر , وهو تأمل هذا المحكوم عليه هل هو من المنافع أم من المضار؟ , فإذا تحقق كونه منفعة محضة حكمنا بإباحته , وإن ثبت كونه مضرة محضة قلنا بتحريمه , فإن تردد بين النفع والضرر حكمنا للغالب منهما .
إذا فالقول بأن الأصل في الأشياء الإباحة قول مقيد بالمنافع , ولا يصح استخدامه مطلقا , إذ من الأشياء ما يكون الأصل فيها التحريم وهي التي تعود بالضرر على النفس والمجتمع .
وحين نريد التعرف على المنافع والمضار لا بد أن تكون نصوص الشرع هاديا لنا في معرفة كنه الأشياء , إذ إن المنفعة والمضرة ليس قياسهما دنيويا محضا فتتجرد العقول لتهتدي إليه , بل هو ديني أولا دنيوي ثانيا , فلا بد للحكم بمنفعة أمر التحقق من كونه لا يعود على دين العبد بالضرر مطلقا , فإن عاد على الدين بالضرر فلا عبرة بما ينتج عنه من منافع دنيوية ولو كثرت .
كما أننا نقطع بأن ما يعود بالنفع على دين العبد ويعود بالضرر على دنياه لا وجود له مطلقا , وإن توهمه العبد فليس حقيقة في نفس الأمر .
أما الخلاف الفقهي : فهو في مجال عصرنة الدين قضية وحده : إذ نرى كثيرين من دعاة هذه الفكرة يجعلون الخلاف في مسألة ما وحده مبررا للتخير بين الأقوال في حكمها , ويرون أن مناط الاختيار هو مناسبة الحكم المختار لظروف العصر وحاجة الناس إليه, ولا عبرة عندهم بمدى فرب القول المختار لديهم من النص أو بعده عنه , فكون أحد العلماء قال بهذا القول يعد عندهم شافعا لاعتماده إذا كان متناسبا في زعمهم مع حاجات العصر ومتطلباته .
ومن المعلوم عند علماء الأصول : أن العامي لا يجوز له الترجيح بين أقوال المجتهدين وإنما يجب عليه الرجوع إلى من يفتيه في مسألته , كما أنه لا يجوز له التنقل بين الأقوال تشهيا بل لا بد للمقلد من التحري في من يستفتيه فإذا أفتاه فقد لزمته الفتوى .
وكذلك اذا اختلف المجتهدون فليس للعامي أن يرجح بين أقوالهم , وإنما الترجيح مهمة المجتهد المنتصب للفتوى , وإذا اختلفت عليه أقوال الأئمة نظر في أدلتها ورجح من الأقوال ما كانت أدلته أقوى سندا أو دلالة , ولا بأس على المجتهد إن ترجح لديه خلاف قول الجمهور ما دام مستخدما لأدوات الترجيح الصحيحة التي نص عليها الأصوليون في مصنفاتهم وأولها موافقة المنصوص عن الله ورسوله .
وكون قول من الأقوال أنسب للعصر وأيسر على الناس , لا يعد دليلا قائما بذاته تقاوم به النصوص , أو يرجح به بين أقوال أهل العلم , لكنه علامة يعرف بها المجتهد صحة مذهبه إذ إن التيسير على الخلق والرفق بالعباد من خصائص دين الإسلام , لكن لو صح الدليل في حكم لم نتعرف نحن على وجه كونه يسرا ورفقا على الناس فليس هذا مانعا من الامتثال للحكم كما أن عدم معرفتنا بأوجه التيسير في هذا الحكم لا تعني عدم وجودها .
وبالقدر نفسه الذي يبرز فيه خطأ استناد القائلين بعصرنة الدين على بعض القواعد الأصولية , يبرز استشكال إمكانية التوافق بين الدين والعصر , فهل كتب على الدين أن يبقى متحجرا لا يأبه بالمتغيرات حوله ؟ وهل كتب على أهله أن يعيشوا في خيار بين الدين والعصر وفي عقد نفسية ترجع كما يقول بعضهم إلى صلابة القاعدة ومرونة الواقع ؟ .
إن مثل هذا التساؤل يرفعه باستمرار أدعياء العصرنة في وجه دعاة التمسك بالنص ظنا منهم أن الجواب بنعم ,يوقعنا في دائرة التخلف , والجواب بلا , يلزمنا السير في ركب معارضينا , والحقيقة أن جوابنا هو نعم : كتب على الدين أن يبقى كما هو لكن لا متحجرا كما يزعمون , بل صامدا , لا يأبه بالمتغيرات حوله إذا لم يكن هو مركزها أو لم تكن محكوما عليها خصوصا أو عموما بنصوصه الخاصة والعامة التي لا يمكن أن يند عنها شاردة أو واردة في كل مكان وعصر علم ذلك من علمه وجهله من جهله .
واشتمال عمومات النصوص على كل ما يحتاج إليه المسلم في تفاصيل حياته ومجملاتها عبر تعاقب الأزمنة هو مقتضى كمال الدين وتمام النعمة التي أخبر الله بها في قوله تعالى : الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً )المائدة 3 , وحتى هذه الآية لم تسلم من محاولة تأويلها لإيهام أن الكمال على غير ما فهمه السلف الصالح من هذه الآية سعيا وراء تبرير اتباع الأهواء أو الضعف أمام ضغط الواقع بزعم عصرنة الدين , لكننا لن ننفك برغم ما نواجهه من غربة في عصرنا عن اليقين بأن تمحيض الاستعباد لله عز وجل لا يتم دون الإيمان بهيمنة الدين على سائر أمور حياتنا وأن كل مسألة حادثة أو مستقبلة ,لا تخلوا النصوص من حكم لها , وأن عدم العلم بهذا الحكم ليس دليلا على عدم وجوده , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) فكل ما لم يتضح حكمه فهو من المشتبه حتى يتبين , وعدم تبينة إنما هو لقصور أو تقصير في المجتهدين لا لقصور في أحكام الشريعة , ويأتي هذا القصور إما لعدم استيعاب عمومات النصوص التي يندرج هذا الحادث تحتها , أو لعدم فهم هذا المستجد فهما كاملا يبرز دخوله في تلك العمومات .
هذا من جهة مستجدات العصر , أما المحرمات التي أثبتت النصوص حرمتها , أو الواجبات التي أثبتت النصوص أيضا وجوبها , فلا يمكن أن تنقلب أحكامها إلى غير ما هي عليه بدافع من ضغط الواقع ومبرر من عرف أو عادة أو نحوها , ما لم يحل دون الحكم بحرمتها أو وجوبها استثناء أثبته النص وتحقق وجوده .
ونعود إلى توافق الدين والعصر , هل هو مطلب يقتضيه الدين والطبع ؟ لا نحتاج في جواب ذلك إلى تأمل كبير فالدين والطبع يقتضيان هذا التوافق , أما الدين فلأنه منهج حياة , وأما الطبع فلأن الإنسان خلق لعبادة الله ولعمارة الأرض ولا يمكن أن تكون حكمتا الخلق متعارضتين في نفس واحدة .
وقولنا بلزوم التوافق وكونه ثابت شرعا , يجعلنا ملزمين بتحقيقه وفق رؤية شرعية , ومن تأمل تدابير الشرع وجدها تدعوا إلى الموائمة بين الدين والعصر وفق رؤية تضع الدين مركز انطلاقها والمؤثر الإيجابي في جميع نواحيها دون أن تتيح له التأثر سلبا أو إيجابا بما يجد حوله , أما سلبا فأمر واضح , وأما إيجابا فلأن الدين لا يقبل زيادة مهما قيل عن حسنها , بل يرتب على كل أمر يراد زيادته فيه نقصا في تقدير صاحبه ويجعلها ردا عليه )من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )(من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )(كل بدعة ضلالة ).
هذه الصلابة في التعامل مع العصر كفلت الحفظ لهذا الدين بالرغم من عصور شديدة الظلمة مرت على تاريخ وجوده على الأرض .
فمن التدابير التي يمكن العمل وفقها لتديين العصر:
1- امتثال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَدَأَ االإسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) فغربة الدين في عصر يبتعد فيه الناس عن تعاليمه ,قضاء من الله يتطلب من المسلم أن يعيش هذه الغربة بجميع تفاصيلها , لأن الشعور بالاغتراب الفكري والعملي يملأ النفس بعزة المغترب الذي يفرح بجنسه ولا تثنيه قلته عن إظهار انتمائه والاعتداد بأصالته رافعا مظلته داعيا إلى مشاركته ظلالها حتى يكثر من حوله وتنقطع غربته وتتحول هذه المظلة إلى سماء بعيدة الآفاق , وحديث الغربة هذا صحيح مشهور في كتب الحديث بعدة طرق تدل كلها على أن الدين لا ينبغي أن يكون هو الطرف المستجيب في ظروف الاغتراب بل هو المحور الذي يفرض نفسه على الملأ بثباته وقدرته على استيعاب محيطه مؤثرا لا متأثرا , كما فرض الله على الغرباء حلا وحيدا لكشف هذه الغربة عنهم وهي الدعوة إليها بكامل معانيها , ونهى نهيا شديدا عن محاولة كشفها بتقديم أية تنازلات لتحقيق مكاسب موهومة : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }يوسف108125 {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }البقرة.
وتأمل في هذه الآية, فوالله لكأنما أنزلت في عصرنا هذا {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }المائدة48120
إن هذه الآيات تؤكد لنا أن الشعور بعزة المغترب هو أول منطلقات تديين العصر, ولا يمكن دونها إلا أن يذوب الدين في الكثرة الكاثرة من الأهواء والمعتقدات تحت ستور من دعوات العولمة والعصرنة والاندماج الثقافي والتعايش الفكري , بحيث لا يستطيع من لم يملأ جوانحه بهذا الشعور إلا أن يسرب في أحد هذه المسارب وتضيع هويته بين ذلك الركام حتى لا يتمكن هو من أن يجد نفسه , هذا الضياع الذي تعبر عنه الآية التالية بالفتنة عما أنزل الله : (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }المائدة49

2-ويقتضي الشعور بالغربة إعطاء النص حقه من التقدير والعمل واتخاذ ما أدى إليه النص حدا لا يجوز الاقتراب منه فضلا عن تجاوزه {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }النساء13 { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }البقرة229187وكما لا ينبغي أن يحمل النص دلالة لا يحتملها ليحل به ما حرم الله أو يحرم به ما أحل الله , كذلك إذا ثبتت دلالته فلا يعدل عن حكمه إلا بنص آخر ناسخ لحكمه أو مخصص لعمومه أو مقيد لمطلقه , وفي غير هذه الأحوال لا يعدل عن دلالة النص أبدا , وقد تكرر من بعض الكتاب من دعاة العصرنة الاستشهاد على تعطيل النصوص بقصة عمر رضي الله عنه حين أوقف حد السرقة عام الرمادة , والحق أن عمر رضي الله عنه لم يعطل النص وإنما قيد مطلقه بنص آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهُ مَدْفَعًا)

3-تربية المجتمع المسلم على الاستعباد لله عز وجل وترسيخ هذا المعنى بحيث لا يغيب عن ذهن أحد أنه عبد لله اضطرارا , وأن غايته في الحياة أن يكون عبدا لله اختيارا , والعبودية لله تقتضي الرضا بأحكامه سبحانه , وانتفاء الحرج عن نفس العبد إن جرت الأحكام على غير ما تهوى نفسه والاستسلام الخاضع لها{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }النساء65, كما تقتضي العبودية أن يسخر الإنسان عقله في تدبر آيات الله واستجلاء أحكامها وحكمها , فإذا ظهر الحكم كان العقل أول منقاد إليه وأن لا يسخر العقل في الاعتراض على هذه الأحكام وضرب محكم النصوص بمتشابهها {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }آل عمران7
إن ثمار التربة على الإيمان بالاستعباد لله تعالى كفيلة وحدها بأن تجعل حاجات الناس ومطاليبهم جارية وفق ما يريده الله ويبيحه دينه وهذا ما نريده بتديين العصر

4-وفي ظروف الغربة وبديلا عما يقترح من تنازلات وإدهان ينبغي أن ينظر الفقهاء في الفضاء الواسع من المباحات ويجردوها حتى تكون واضحة وضوح الواجبات والمحرمات ويعلموا الأمة ملامح المحرمات وصفات الواجبات حتى تكون عند العبد ملكة يعرف بها ما أباح الله في ظل ظروف قد لا يجد فيها عالما أو فقيها على منوال ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وابصة الأسدي رضي الله عنه فيما يرويه أحمد عنه قال : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَفْتُونَهُ فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّاهُمْ قَالُوا إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ دَعُونِي فَأَدْنُوَ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ قَالَ دَعُوا وَابِصَةَ ادْنُ يَا وَابِصَةُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَوْ تَسْأَلُنِي قُلْتُ لَا بَلْ أَخْبِرْنِي فَقَالَ جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ نَعَمْ فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ .
وقصة وابصة هذه من القصص التي استخدمها دعاة العصرنة في إباحة بعض ما حرم الله على اعتبار أن المعيار الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اطمئنان النفس ونفورها , والصواب في فهم الحديث أن هذا المعيار إنما يلجأ إليه العبد عند تعذر النصوص أو تعذر من يفتي بموجبها مع حضور ملكة ممتثلة لله عز ولو خالف أمره الهوى, عارفة بمقاصد الشرع وغاياته مدربة على فهم نصوصه , لا أن تكون الملكة مقدمة على النص أو مفسرة له .
وبديلا عن التنازلات والإدهان أيضا لابد من النظر في تقدير الضرورات التي تباح فيها المحضورات , فالمعصرانيون توسعوا فيها حتى ألحقوا بها كثيرا من الأمور التحسينية , وهذا مالا يقبل فقها ودينا , ومن الفقهاء من بقي في تقدير الضرورات على ما قعده الإمام الشاطبي حين عرف الضرورة بكونها إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين , والذي يتناسب وتديين العصر أن يدرس الفقهاء الحاجات التي التي يضر بالناس دوام فواتها ويبنوا فقههم على إعطائها بعض أحكام الضرورات من حيث الحفظ من جانب الوجود والعدم .

5- ولا يتنافى مع تديين العصر أن يجتهد الفقهاء في إعادة تحرير المسائل التي سبق أسلافهم في تحريرها , ولا يكتفوا بما سبقوا إليه من أحكام فهذا لباب الفكر السلفي المؤمن بحاكمية النص ووجوب الاجتهاد على من لديهم آلته وفق الضوابط العلمية المعروفة عند أهل هذا الفن .

ولعل الله تعالى ييسر كتابة مقال عن إعادة تحرر المسائل الفقهية والحمد لله أولا وآخرا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.