لا تخونوا الأمة باسم الحرية

تكبير الخط تصغير الخط

د محمد بن إبراهيم السعيدي:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد :

أتحفظ كثيرا على مصطلح الحرية لكن المعنى الذي يطرحه الإسلاميون لهذا المصطلح لا أتحفظ عليه في الجملة , فهي معانٍ جميلة وساحرة وأخَّاذة , كما أنها حقوق واجبة للشعوب شرعاً وطبعاُ لا يمكن الوقوف في وجه المطالبين بها والداعين إليها .

والاستبداد شر محض لا خير فيه والطغاة أيا كانت أسماؤهم وأجناسهم ملعونون أينما ثُقِفوا .

لكن مطالبتنا بالحرية وحقوقنا فيها وكرهنا للطغاة ومَلَلَنا منهم لا ينبغي أن يُنسينا حقنا الأعظم وطلبنا الأكبر , وهو حقنا في الاعتبار والتبصر والنظر إلى الواقع نظرة مجردة لطلب الحق والخير بالأمة لا تعميها مظاهر النقمة عن النظر إلى الأمام ولا تُعشيها كراهية الحال عن التبصر في المآل , ولا يُلهيها الحاضر عن التطلع إلى المستقبل .

الحالة التونسية التي لم تنته بعد والحالة المصرية التي تغلي الآن لا تُلام الشعوب في الانسياق فيها كونها تُشَكِل لهم متنفسا للتعبير عن مشاعر الكبت والظلم ومصادرة الحقوق التي عانوا منها قرونا طويلة , ولا تلام الشعوب فيها لأنهم يرون من خلالها نوراً يرجون أن يكون بشائر صخرة الخلاص والعدل والتقدم والنمو والمسابقة في ميدان الحضارة وقيادة العالم .

لكل ذلك لا تُلام الشعوب فقد عانت من القهر ما لم تعانه أمة من الأمم في عصورنا الحاضرة .

إذا من الملوم ؟

الملوم هم عباقرة العلماء والكتاب والمفكرين أولئك الذين تثق الشعوب في رأيهم وتسير في اتجاه راياتهم وتستجيب لتعبئتهم , حيث إن هذه الشعوب لا تظن فيهم ضعف البصيرة ولا استغلاق الحق عليهم بحال من الأحوال .

لكن المؤسف أن من وصفتهم تعاملوا مع هذه الأزمة معاملة لا تليق بهم فألقوا بفكرهم جانبا , واستجابوا لما في داخلهم من تطلعات إلى الحرية وحقد على من ظلمهم دون أن يصنعوا ما يصنعه المفكر واجبا عليه من الأناة وتقديم البصيرة على البصر , فكانوا في هذا الأمر وسائرُ الناس سواءً لم يتميزوا عنهم بفكر ولا بصر , بل أخذوا يجارون الشعوب في الغليان فيدفعون بهم دفعا نحو المجهول وراء سراب الحرية ولوائح الأمنيات المحضة .

لم نجد منهم من وقف عند الأزمة التونسية وماذا حققت ؟

هل حققت الحرية حقا أم لا تزال , وهل المؤشرات تُشير إلى شئ من الأمل أم تشير إلى أن الأمر سيعود إلى ما كان عليه , لم يتكلم أحد عن ذلك بشئ من العلمية والاستقراء للواقع والمستقبل , كل ما قرأته هو آمال وتطلعات لا تستند إلى شيء من الواقع , اللهم إلا كتابات جميلة في تحليل الواقع التونسي لأبي يعرب المرزوقي وهي للأسف لا تبشرنا بخير .

الواقع في تونس مؤلم جدا , فالحكم بيد الماركسيين السابقين الذين لا يُخفون معاداتهم للدين وأهله ومعاندتهم للحرية والمطالبين بها , بعد أن كانوا قبل الثورة مُقصَين من الأمة مكروهين من الناس , ومستقبل الانتخابات مجهول ولا تلوح فيه للإسلاميين بارقة أمل , فحزب النهضة العائد لا ينوي الدخول في الانتخابات , والسلفيون ضعاف منشغلون بالتصنيف والجرح والتعديل , أما بقية المكونات فلا تلوح بينهم قيادات تبشر بمستقبل يختلف عن الماضي .

لماذا لم يُطالب المفكرون المصلحون بانتظار نتيجة التجربة التونسية , أليس التروي في هذه الأمور المصيرية هو مقتضى العقل والفكر والدين , أم أن عدم التروي والاستجابة للانفعال المباشر مطلب في ذاته لأمثال هؤلاء كي يستغلوا انفعال الشعوب لدفعهم إلى تكرار التجربة بسرعة دون التبصر في عواقبها .

ثم لم يسأل أحدهم نفسه كيف خرجت هذه الحشود وكيف تنظمت , هل كان ذلك كله بطريقة تلقائية- أيُعقل هذا ؟ أنها جاءت من تلقاء الشعب المتظاهر وحده , أم أن هناك قيادات خفية تدفع الناس وتؤطرهم وتنظمهم دون أن تظهر أسماؤهم على الساحة الإعلامية , ثم لماذا لم تظهر أسماؤهم ولماذا لا يعلنون عن أنفسهم .

ولماذا وقف الإعلام العربي والإعلام العالمي موقفا متضامنا مع الشعب التونسي والشعب المصري في حين خذل الشعب الإيراني , مع أن ثورة الشعب الإيراني كانت تتمتع بقيادات مرموقة ومعروفة معالمها وحدودها , في حين أن ثورة الشعبين العربيين مجهولة القيادة ليس لها هدف سوى إسقاط الرئيس طمعا في الحرية .

بل لماذا لم تقم لهذه الثورات الشعبية قيادات عملية تقدم البديل للرئيس وتقود توجه الأمة .

ولماذا أغلقت قناة الجزيرة وهي في زعمهم منبر الحرية الخط في وجه مواطن تساءل مُحِقاً عن سر خذلان الجزيرة للشعب الإيراني خذلانا تاما وكأنه لا قضية له مع الانتفاضة فيه كانت عامة من البلوش السنة , والأحواز العرب والأحرار الفارسيون , واتعملت ضدهم كل وسائل القمع المتحة التي وصلت إلى اغتصاب النساء في السجون , كل ذلك ولم ينطق أحد في حين تحمست كل وسائل الإعلام بشكل سافر ضد القيادتين الدكتاتوريتين في تونس ومصر ؟

ولم يتساءل أحد من هؤلاء المفكرين عن الشعب السوري المقموع ولماذا هو صامت حتى اليوم , مع أن ما هو فيه من شر يفوق بكثير ما كان فيه شعب تونس وما عليه شعب مصر , من حَرَّك مصر وسكَّن سوريا ؟

ولماذا تأثرت القيادات المستبدة بما حصل لتونس ومصر فأقال ملك الأردن حكومته ووعد رئيس اليمن بعدم الترشح ولم تقل سوريا شيئا ولم تتأثر لأي حدث ولم يتحدث عنها أحد .

لماذا لم يكتب أحد من هؤلاء المفكرين الذين يدفعون باتجاه الثورة دفعا في تحذير الشعب المصري من أن يقطف ثمرة ثورته من لا يرتضيه , ولماذا لم يتحدث أحد عن وجوب إجراءٍ احترازي يمنع من تكرار ما حدث في تونس قريبا , وما حدث في ثورة 1952في مصر قديما وما حدث في الجزائر عام 1962 من قطف الأعداء لثمار الثورات التي سقتها الشعوب بدمائها .

لم يتحدث أحد عن سر دعم إسرائيل لموقف الشعب وتقديمها الاستعداد لاستضافة مبارك وهو تصرف لا يخفى على هؤلاء المفكرين أن له أبلغ الأثر في إضعاف معنويات مبارك والداعمين له , هل إسرائيل حقا مع خيار الشعب ؟ أم أنها مطمئنة لحال البديل الذي تعرفه إسرائيل ولا يعرفه الشعب حتى ساعتنا هذه , لماذا لا يناقش هؤلاء المفكرون هذا الأمر ولو على هيئة كونه احتمالا مردوداً.

ولماذا وقفت أمريكا فقط مع خيار الشعب المصري والتونسي ولم تقف مع خيار الشعب العراقي , أم أنها وقفت مع خيارها هي في مستقبل مرسوم من قبلها تصنعه شعوب المنطقة دون أن تتكلف رصاصة واحدة .

هَمُّ الجميع : الحديث عن المشايخ السلفيين المتخلفين والذين يخونون الأمة باسم الدين ويحذرون من عواقب الأمور , وكأن المشايخ السلفيين هم الخطر المحدق بالثورة وكأن كلمتهم هي المسموعة , يتشاطر هؤلاء المفكرون على المشايخ السلفيين وهم أعلم الناس بأن الشعوب الهائجة لن تسمع لهم – أعني السلفيين -ولن تتأثر بكلامهم , وإنما هم يتكلمون بما يدينون الله به معذرة إلى ربهم , وحتى لا يقول الناس حين تتكرر مأساة الصومال في عالمنا العربي لماذا لم تأمرونا ولم تنهونا .

هَمُّ الجميع الحديث عن المشايخ السلفيين وكأن المشايخ السلفيين أبرأوا ذمتهم فعلا وتحدثوا حقا بما يدينون الله به , وهؤلاء المفكرون يعلمون جيدا : أن أكثر المشايخ آثروا الصمت لعلمهم أنه لا رأي لمن لا يطاع .

لو أن هذه المقالات التي تعب أصحابها في كتابتها مذمة للمشايخ السلفيين وشماتة بهم في موقف لا سمع لهم فيه ولا طاعة , لو أن هذه الجهود بُذِلت في الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الجديد والذي دعت إليه أمريكا قبل عشر سنوات ولم يأتنا أي تقرير يُفيد أن إدارة أوباما تراجعت عنه , لو أن هؤلاء المفكرين كتبوا في احتمال – مجرد احتمال – أن يكون ما يجري قد – مجرد قد – يصب في مصلحة هذا المشروع يوما ما .

حتى الاحتمالات المجردة لما يخالف فكرهم بخلوا علينا بها , لماذا بخلوا ؟

بخلوا بها لأن هذه الاحتمالات لها وقعها في أذن الشارع منهم هم وليس من غيرهم في هذه الظروف العصيبة وهم لا يريدون أن يُكدر هذه الثورة شيء ولو كان شيئا لا يمكن أن يوقفها .

بخلوا علينا بالحديث عن مشروع برنارد لويس في تفتيت الشرق الأوسط , ذلك المشروع الذي أرى أن ما يجري في مصر وجرى في تونس لن يصب إلا في صالحه , لم يتحدث أحد منهم عن أن هذا المشروع في طريقه للنجاح النهائي في السودان وأن السودان ليست مرحلته النهائية .

الكل ينتظر فقط رحيل مبارك , والحديث ضعيف متناقض عن مرحلة ما يعد مبارك .

فقط الحديث عن إثبات أن المظاهرات أمر مشروع لا يخالف الدين , ولا أحد يتحدث عن شروط مشروعية المظاهرات .

خداع الناس باسم الحرية أعظم من خداعهم باسم الدين , لأن الذين يتحدثون باسم الدين ينقلون نصوصا شرعية صحيحة صريحة قد تخالفهم في تفسيرها أو موضع تطبيقها لكنك لا تخالفهم في صدقها وصدق قائلها صلى الله عليه وسلم .

أما المخادعون باسم الحرية فإنهم يكتمون كثيرا من الحقائق ولا يناقشونها ولو على أنها تقدم احتمالا مجردا عن المعطيات , مع أن تقديم الاحتمالات ومناقشتها في هذا الوقت العصيب هو مقتضى الأمانة العلمية ومطلب الموثوقية , فلماذا لا يطرح هؤلاء كل ما لديهم ويناقشوه نقاشا علنيا .

لماذا لا نسمع إلا الحديث عن الحرية والحرية فقط , ولا أحد يتحدث عن كيف نحي هذه الحرية حين نأخذها .

والله أحكم وأعلم وهو المستعان وعليه التكلان .

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.