من يريد حل القضية المصرية

تكبير الخط تصغير الخط

د.محمد بن إبراهيم السعيدي:

قالوا لي لماذا لا تكتب رأيك في القضية المصرية؟ فقلت: وهل أشْعَلَ النارَ في مصر إلا كثرة الآراء؟ وكأن مصر أصبحت ميداناً يَخْتَبِرُ فيها كلُ حامل قلم قدراته، فالجميع في داخل مصر وخارجها يريدُ أن يكون على حسابها حكيماً حصيفاً محللاً بارعاً شجاعاً مقداماً بل وقاضِيَاً أيضاً. ومعظم الذين يكتبون هنا وهناك يُرَسِّخُون الاصطفاف مع أحد الفريقين هنا أو هناك، وكأن نهاية الأزمة لا ينبغي أن تكون حتى يقهرَ أحدُ الفريقين صاحبَه. هذا مع أن الكل يزعم رغبته الوصول إلى حل للأزمة، لكن مدى صدقهم يظهر في مقدار استعدادهم للكشف بصراحة تامة عن السبب الأساس لها، وهذه هي الحلقة المفقودة التي لو أخلص الفُرَقَاءُ لاستحضارها لانفض الحشد واتحد الفريقان، لكن شهوةً للعلو كامنةً في النفوس تحْرِفُ الأقلام عن مسارها وتحجب العقول عمَّا يجب أن تغوص إليه.. ومن متابعتي لما يقال وما يُكتب من جميع الأطراف وغير الأطراف من المعنيين بهذا الشأن، أجد أن الاستعداد لهذا العمل الشجاع الصادق ضعيف جداً، بل لا نكاد نجده إلا عند جهات بعيدة أو غائبة أو مغيبة. ودون الكشف عن نواة هذه الخصومة والاعتراف بها ومن ثَمَّ اجتثاثُها فكل هدوءٍ ستشهده مصر على مدى السنوات القادمة لن يكون إلا نوعاً من استراحة المحاربين أو السكون الذي يسبق العاصفة. متابعاً ولستُ طرفاً أجدُ أن أزمة مصر اليوم نتيجة لسلسة طويلة من المظالم تتناتج وتتراكم وتتزاحم، يشارك فيها معظم المصريين على اختلاف توجهاتهم، كما يشارك فيها كل المحيطين بهذه الأزمة خارج مصر من دول ومتعاطفين وسياسيين. لقد لبِسَ الجميع قميص البراجماتية، وأخذ كلٌ منهم يضرب الآخر تحت خاصرته، الكلُ يكذب على الآخر والكل يستغل أخطاء غيره ليشحن بها قذائفه تجاهه. الكل ليس بريئاً من ذلك مع أن الكل لا يقر بشىء من ذلك، لأنه لا أحد يريد حقاً أن يصل إلى أصل الصراع، لأن أحداً لا يريد أن يتهم نفسه، أو قل لا يريد أن يفضح نفسه. ولكلٍ من الفريقين أتباع يصدقُون ما يقوله فريقهم في الآخر دون محاولةٍ للتمييز بين صدقه وكذبه ومطَابقاته ومبالغاته. فالظلم هو سيد الموقف، ولو صدق الجميع في نواياهم لجنحوا إلى العدل في مواقفهم، وهنالك فقط سوف ينجح الحوار وتنجو السفينة من هذا البحر الخضم المتلاطم الذي يوشك أن يخرقها. أما الآن والكل باقٍ على موقفه المتكئ على ركام من التصورات الصائبة والخاطئة والمظالم المتناتجة، فالحل الوحيد هو الطوفان الذي يغرق الجميع. الظلم ليس سجيةً للإنسان لكنه شهوة، والعدل ليس طبيعة لكنه منقبة، والشهوات دائماً تحول بين البشر وبين المناقب، لذلك جاءت الشرائع لتقهر الشهوات وتُربي في الناس حاجتهم إلى العدل الذي تهواه نفوسهم ولا تستطيعه. وفي مصر الآن، كيف يُمكن للجميع أن يقروا بمظالمهم؟ وكيف يُمكن للجميع أن يجِدُوا في أنفسهم الحاجة إلى العدل مع إخوانهم؟ يمكن أن نصل إلى الجواب حين نتأمل حال الشعب مع هذه القوى السياسية المتصارعة. فهي حين عرفت ما يمتلكه الشعب من قوة وقدرة على التغيير اتخذته ألعوبة بيديها، فكل الأحزاب السياسية تستخدم الشعب لتعزيز موقفها ضد الآخر وإثبات كونها هي الأقوى والأعظم تأثيراً، لهذا امتلأت الميادين من المؤيدين والمعارضين. الجميع خرجوا في مصر يبتغون صالحها، وكل منهم اختار حيزاً غير حيز الآخرين، وآلةُ الدعاية والدعاية المضادة تغذي الفريقين بما يضمن للأحزاب ثباتهم في الشمس الحارقة وصبرهم في الليل الطويل وتحمل هجرهم لبيوتهم وأطفالهم وسبل معاشهم. لماذا أيها الشعب تبقى سلاحاً بيد السياسيين؟ وإلى كم تظلُ آلةً يحركها الإعلام والشائعات؟ ومتى ستعرف أن الجميع إنما أعطاك نصف الحقيقة، وهو النصف الذي يضمن ولاءك له وذبَّك عن حياضه؟ ولا أحد من الفرقاء محضك الإخلاص والنصيحة. نعم أيها الشعب: الكلُ يستخدمُك ولا يخدمك. وتأمل معي: لو أن الناس لم يخرجوا لما حدثت الثورة، ولو أن الناس لم يخرجوا لما عُزل الرئيس، ولو أن الناس لم يخرجوا لما استمر الاحتقان حتى هذه الساعة، ولو أن الناس لم يخرجوا لما تسابقت الدول تدعم فصيلاً ضد آخر. حتى لو رضخ الجيش وسقطت الحكومة الانتقالية ورجع الدكتور إلى الحكم، فإن الأزمة ستبقى ما بقي الشعب طائعاً للأحزاب تُخرجه متى شاءت وكيف شاءت، ألم يكن هذا حالهم أثناء حكم الرئيس محمد مرسي؟ ألم تكن المليونيات تخرج تلو بعضها مُنَددة بكل شىء غاضبة من أي شىء؟ بلى كانت كذلك، وإذا لم يعِ الشعبُ أنه إنما يتحرك لصالح أناس لا يسعون لصالحه، فلن تقف دوامةُ مصر عند حال. وإذا ظلت الميادين مليئةً بالطرفين فلن يلتفت السياسيون إلى أنفسهم ولن يجنحوا إلى العدل الذي فيه خلاصهم وخلاص مصر وخلاص الأمة الإسلامية بأسرها. سيصمني أحدهم حين يقرأُ هذا المقال بالظلم أيضاً، ذاك أني لم أحكم لطرف على الآخر، وساويت بين الجميع في التفريع، وكلُ ظلمٍ لا بد أن أحداً قد بدأ به، فمن الذي بدأ ومن الذي عليه العُتبى أولاً؟ وأنا أقول: لماذا يُراد من كل صاحب قلم أن ينصب نفسه قاضياً، ولماذا يتجرأ أصحاب الأقلام على القضاء ولم يختصم إليهم أحد. إن مَحَل الرأيِ وحريتِه حين لا يُتَّخذ رأيُك سلاحاً يُعَمِّق الفجوةَ ويزيد الاصطفاف وينكأُ الجراح ويزيدُ الخصومة. أما حين تُلقي برأيك والميادين مُتَراصَّة والنفوسُ ممتلئة والشياطين حاضرة، فأنت بمثابة الجرس الذي يأذن ببداية الجولة أو الفارس الذي يصيح في أول المعركة: هل من مبارز؟ وختاماً أُنشِد بقول الشاعر: أنا يا مِصرُ عاشقٌ لكِ حتى لم يعدْ لي من البكا دمعتانِ نُوب الحُبِّ جرَّحتني كثيراً وكثيرٌ صبري على الحدثانِ قد تقلَّبتُ بين حلوٍ ومُرِّ فعيونٌ نُجْلٌ وطعنُ سنانِ ودخلتُ النزالَ في الحُبِّ لكنْ ضَاع سيفي مني وضَاع حصاني/div>

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.