شرط البشارة

تكبير الخط تصغير الخط

بسم الله الرحمن الرحيم
شرط البشارة

كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ مليئتان بما يدعوا إلى الأمل وترقب الفرج والتفاؤل بكل ما هو قادم ، فالله عز وجل أنزل على رسولهﷺ سورة الشرح وهو والمسلمون رضي الله عنهم في أشد ألأحوال من الضنك مما يحل بهم من أَذًى قريش وتضييقها ، فقال سبحانه مخاطباً رسوله الكريمﷺ(ألم نشرح لك صدرك (١)ووضعنا عنك وزرك(٢) الذي أنقض ظهرك (٣) ورفعنا لك ذكرك(٤)فإن مع العسر يسرا(٥) إن مع العسر يسرا) ويُلاحَظ في هذه الآيات أن الله عز وجل قدَّم تذكير رسوله بالنعم التي تفضل بها عليه ، ثم انتقل منها إلى البشارة باليسر بعد العسر ، ولعل ذلك -والله أعلم- كي نستفيد من دلالة الاقتران بينهما:أن النعمَ المصاحبةَ للشدائدِ داعيةٌ للعبد إلى ترقب الفرج من الله تعالى وعدم اليأس والقنوط من رَوْحِه عز وجل .
وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية :” لن يغلب عسر يُسرين ” وهو يشير بذلك إلى كون العسر جاء مُعَرَّفاً بـأل في الآيتين وهذا يعني أن المُشَار إليه في المرَّتين عسرٌ واحد ولا يعني تكررُ اللفظ هنا تكررَ معناه ، كما جاء اليسر في الآيتين مُنَكَّراً غير مُعَرَّف ، وهذا يعني أن المشار إليه في الآيتين من اليسر متعدد وليس واحداً، والفائدة التي ابتغى ابْنُ عباس تقريرها هي تعدد دواعي اليسر ومصاحبتها لكل ما يصيب العباد من عُسر وأن هذه الدواعي هي الغالبة وإليها المنتهى بإذن الله.
لكن سورة الشرح لا تتوقف ههنا بل تختتم بأمرين عظيمين من الله عز وجل ، الخطاب في سياقهما موجه للنبي محمدﷺ ولكن حكمهما منصرف إلى كُلِّ أمته تبعاً فهي – الأمة- مُكَلَّفةٌ به لاسيما حين تكتنفها المصائب وتتطلب الفرجَ والنصرَ من ربها الذي يقول ( فإذا فرغت فانصب(٦) وإلى ربك فارغب) أي إذا فرغت من صلاتك فاتعب في دعائه ومسألته مستصحباً الرغبة والضراعة ، فإن محافظة الأمة على صلاتها وكثرة ضراعتها إليه وحده هما سبيل النجاة من ابتلائه .
وقد جاءت آيات غير هذه خُوطِبَت الأمة بها أصالة لا تبعا ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين)
وهنا أيضا حديث يدعو للأمل والرجاء وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وحسنه:(مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) وهذا الحديث لا يُعارض الثابت من تفضيل أهل القرون الثلاثة من حيث الجملة على من بعدهم ، لكنه كما يقول أهل العلم يؤكد عدم انقطاع الخيرية عن هذه الأمة، وفي هذا بشارة عظيمة تدعوا إلى استصحاب التفاؤل والرجاء .
وفي ذلك الحين الذي كان فيه المسلمون بمكة يقاسون ما يقاسونه من كفار قريش نزل قوله تعالى في سورة القمر يخبر أن من سُنَنِه الكونية هلاكُ المجرمين وبطلان كيدهم ( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزير(٤٣)أم يقولون نحن جميع منتصر(٤٤)سيهزم الجمع ويولون الدبر) فإذا كان أعداء اليوم يُدْلُون باجتماع كلمتهم وامتلاكهم سُبُل الانتصار المادية كما كان من سبقهم من المجرمين يفعلون ، فإن الله وعد بهزيمة الجمع وانتصار عباده المخلصين،
وهناك حديث عن المصطفى يُسَاق دائماً للدلالة على أحد أسرار ما فيه الأمة الإسلامية من ضعف وذل ، لكنه يتضمن أيضا بشارة تبعث الأمن والأمل ، وذلك هو قولهﷺ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله ، سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم ) والحديث جاء في مساق الإخبار ، وكما أن ما ورد فيه من الذل المتسلط وقع على الأمة باقترافها أسباب وقوعه التي أخبر بها الحديث ، فلا محالة أن انتزاع هذا الذل سوف يتحقق بإذن الله تعالى بتحقيق الأمة لأسبابه ، وهي مراجعتها دينها، فهذا الرجوع إلى الدين واقع لا محالة ، وكثيراً ما يكون تقدير المصائب والبلاءات على الأمة لحكمةٍ لا يعلم حَقِيقَتَها إلا هو لكن التدبر والتأمل فيها قد يوصلك إلى أن إلجاء الناس إلى ربهم هو من جملة تلك الحكم كما قال تعالى : ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (٤٢) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون )الأنعام.
فالأخذ بالبأساء رجاء أن نتضرع الأمم وترجع إلى ربها وتتخلى عما ابتليت به من معصيته ، إنما هو من جملة سُنَنِه الكونية سبحانه وتعالى
وكما قال سبحانه ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم( ٣١) محمد.
ولا ريب أن العمل الدؤوب في الجوانب المادية من سياسية وصناعية وتقنية وزراعية واجتماعية لا يُشاحَّ أحد في مسيس الحاجة إليها في بعث الآمال ومن ثَمَّ تحقيقها ، لكن يجب أن يبقى رجوع الأمة إلى ربها ومراجعتها دينها العامل الأول في أسباب تغلبها على مصاعبها ، ويجب أن لا يُنظر لهذا العامل على أنه واجب دعوي أو جهد مشايخي وحسب ، فإن هذه النظرة في تقديري من الأسباب القوية في تأخر استجابة الأمة لمراد ربها منها ومن ثَمَّ تأخرها في تحقيق آمالها ، بل الواجب أن يُجْعَلَ هذا العامل قالباً لجميع استراتيجيات الإصلاح في جميع البلاد الإسلامية ، فإن جميع مشاريع الإصلاح التي لا تدخل ضمن سياق إعادة الأمة لحقيقتها الدينية سوف يكون الإصلاح الناتج عنها جزئيا لا يلبث أن يؤدي إلى مفاسد أكبر وأضر من التي كانت من قبل هذا إذا لم يفشل قبل أن يتحقق منه أيَّ أثر .
وعلى عكسه كل إصلاح مادي يوضع في سياق إعادة الأمة إلى التزامها الديني ، فإن حظه من الانسجام مع تاريخ الأمة ودينها وآمالها سيجعله بعيداً عن إثارة المتناقضات التي هي غالبا أساس فشل كل مشاريع الإصلاح في العالم ، فإن المُخططين الاستراتيجيين يعلمون بالتجربة أن سرَّ فشل مشاريع الإصلاح المتنوعة هو ظهور تناقض بينها وبين بيآتها ، ومشروع الأمة الذي يجب أن تقدمه للعالم هو مشروع لا ينفصل فيه الهدف الأسمى للأمة وهو استعبادها لربها عن غايتها الأرضية وهي الاستعمار في الأرض كما قال تعالى ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) ففي الآية من اقتران الاستعمار في الأرض بالاستغفار والتوبة ما يفضي التدبر فيه إلى تقرير كون الإصلاح الدنيوي يجب أن يكون ضمن السياق الصحيح لتعبيد الإنسان لله على هذه الأرض .

د.محمد بن إبراهيم السعيدي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.