من جهيمان إلى تفجير المدينة

تكبير الخط تصغير الخط

صُعِقَ العالمُ الإسلامي بالتفجير الإجرامي على بُعْدِ أمتارٍ من أشرفِ بُقعةٍ على وجه البسيطة .. ثَرَى سيِّدِ الخَلْقِ و رياضِ أكثر من عشرةِ آلافِ صحابيٍ هُمْ خير البشريةِ بعد الأنبياء.
.
.
لا يجوز إعتبارالحادث حادثاً إرهاباً فقط .. بل هو ( حادثٌ نوعيٌّ ) بكل معاني الكلمة .. لا يقلُّ شناعةً عن حادث إحتلال الحرم المكي قبل 37 عاماً من جهيمان وعُصبتِه .
.
.
يحقُّ لنا و قد عاصرنا تلك الأيام الدامية أن نستذكر دموع الْمَلِكِ الصَّالِحِ خالد بن عبد العزيز عندما بكى خاشعاً متذلِّلاً لخالقه ” كيف يحدث هذا في عهدي ” .. لم تكن كلماتِ إعتراضٍ .. بل توجُّعاتِ مُشْفقٍ من أمانتِه تائبٍ إلى ربِّه أن يكون قصَّر في شئ .
.
.
.
رحم الله نفسه الزكيّةَ و نفوسَ إخوتِه ، مَنْ مات منهم و من مازال بحمد الله .. فما قصَّروا في أماناتهم للحرمين .. و ما إزداد كلٌّ منهم و من أبنائهم الوُلاةِ إلَّا تَذَلُّلاً و خشيةً لمقاميْ بيتِ الله و مَثْوَى نبيِّه .
.
.
و لا نخال ، بل نوقِنُ ، أن الملك الصالح سلمانَ بن عبد العزيز يعتصر ألَماً و تَوَجُّعاً منذ لحظةِ سماعه نبأَ الإنفجار قربَ المسجد النبويّ .
.
.
لقد صدع بأمانةِ المسؤوليةِ 60 عاماً مُعتَزاً بعقيدته .. ذائداً عن حرَمَيْها .. مُشْفقاً على مواطنيه .. جندياً أبيّاً لوطنه .. مستشعِراً طوال حياته مكامنَ الأخطار الحقيقيّة بلا إلتباسٍ و لا سطحيّةٍ و لا ضَبابيّة .
.
.
و في هذه اللحظة التاريخيّة من عمر بلادنا الغالية ، تجدر مصارحةُ أنفسنا مُستشعرين أحوالَنا مُشَخِّصين واقعنا .. فالوقت وقتُ تَآزُرٍ و تصحيحٍ .. و لا بد من الوقفات التالية :
.
.
١ – لا يجوز شرعاً و لا عرفاً و لا أمْناً أن يمرَّ حادثُ التفجير قربَ المسجد النبويِّ مرور بقيّةِ الحوادث الإرهابية .. و لا أقصد المراجعة الأمنيّة .. فالأمنُ السعوديُّ في سنامِ الحزم و الحسم و المراقبة و خدمة القاصي و الداني 24 ساعةً ..بل المقصود المراجعات الوطنية الأخرى التالية .
.
.
٢ – هذا الحادث ( حادثٌ نوعيٌّ ) بكل المعاني .. و لا أجد أشنع منه يمكن أن يمر ببلادنا مكاناً ( جوار القبر النبويّ ) و لا زماناً ( ساعة الإفطار في رمضان ) .
.
.
٣ – مادام ( حادثاً نوعياً ) فينبغي دراسةُ مسبباته و ظروفه و أبعاده و أهدافه ( العلنية ) و ( السرية ) للتعامل معها بالحزم الذي إستعادتْ بلادنا زمامَه .
.
.
٤ – آنَ لذوي الإدراك فينا أن يعوا أن المسألة ليست ( المناهج ) و لا ( حلقات تحفيظ القرآن ) كما خدعنا سفهاؤنا و صدقها بسطاؤنا 10 سنوات .. فأضاعوا بوصلتنا .. آنَ لهم أن يُدركوا أن هدف الأعداء إنتزاع الحرمين منا .. من سعوديَّتِنا .. هكذا بوضوح لا مُواربةَ فيه .. فهل نستيقظ و نحتاط .؟.
.
.
لقد برع أعداءُ بلادنا طوال الحقبة الماضية في ( إضعافِ ) أحوالِنا بطرقٍ شَتَّى ، ظاهرةٍ و خفيَّةٍ ، أنتَجَتْ ( تَقْزيمَ قوَّتِنا القِيَمِيَّةِ الدينيةِ باجتهاداتٍ إنفتاحيةٍ ليبراليةٍ ) .. أي أضاعوا ( الوسطيّة ) .. بل هم لم يستهدفوها أصلاً .. إتخذوا ( التطرّف الديني ) ذريعةً لبذرِ ( تطرفٍ ليبراليٍ ) مُصادمٍ للمجتمع و مُناوئٍ لتعاليمِ الخالقِ الرشيدةِ و سنَّةِ نبيِّه السمحاء .. و أمثلةُ ذلك كثيرة .
.
.
و هدفُهم البعيد ليس فقط ( مناقضة ) القيم الدينية و الإجتماعية السعودية التي لم تكن يوماً محلَّ إستنكار المسلمين .. بل الهدف أن يأتي يومٌ يُقالُ فيه ، بعد تَهَيئةِ الظروف الدولية من قوى عظمى و إقليمية و أممٍ متحدةٍ ، ( إن الحرميْن يستوجبان التدويل ) ليُسْلَخا من الجسدِ الأمِّ الذي يُبْعَدُ تدريجياً عن قِيَمِ الحرميْن بذرائع متعددة .
.
.
ثم سيُضيفون بُعدُ ( الحماية الأمنيّة ) لتبرير ضلالِ التدويل .
.
.
أي يكون هناك بُعْدان لملف التدويل ، هما ( كراهيةُ المسلمين أن يَرَوْا ممارساتٍ يستنكرونها ببُلدانهم تُقامُ في بلاد الحرميْن ) و ( إخراجُ الحرمين من دائرةِ إستهدافِ معارضي المملكة حمايةً لهما ) .
.
.
٥ – يستشعر النَّاسُ و الدولُ طريقيْن لتحصينهما من الأعداء .. و العقلاء لا يتركون أحدهما دون الآخر ..فالنصر ملازمٌ لَهُمَا مُجتمعيْن .. و هما :
.
.
• ( طريقُ الله ) .. باستنصارِه و إستدرارِ مَدَدِه .. و هذا لا يكون إلَّا ( بإنفاذِ أوامرِه و نواهيه قولاً و عملاً لا مُداهنةً أو جدلاً ) و ( بالإبتهال الصادق الخاشع له .. فنحن مثلاً تَناسيْنا القنوتَ في الحرميْن و المساجدِ على أعدائنا منذ سنواتٍ رغم هوْلِ المخاطرِ و الأعداء .. و لولا ذَكَّرَنا إيَّاه رمضانُ لَظَنَنَّا سَوْءاتِ تغييرِ المناهجِ قد أتتْ عليه ).
.
.
• ( طريق و أعِدُّوا لهم ما إستطعتُم من قوّةٍ ) .. و هي تشمل القوات ( العسكريّةَ – الأمنيّةَ – السياسية ) و قد ظهر تفوُّقُنا فيها و لله الحمد .. و بقيتْ أسلحةٌ أخرى تائهةٌ منذ عشر سنوات عن الوطن و قضاياه الحقيقية و تحدياته الإقليمية و المستقبلية و منها مثلاً ( الإعلام ) داخلياً و خارجياً .
.
.
٦ – ليست التحدياتُ و لا المخاطر جديدةً على سفينة الوطن .. فبلادنا مُستَهدَفُةٌ لحرمَيْها و ثرواتِها .. لكن ما إستجدَّ علينا في العِقْدِ الماضي هو هذا الإنقسامُ الإجتماعي الذي لا يُمْكِنُ أن يَنْتُجَ إلَّا عن تخطيطٍ عميقٍ إستثمر أدواتٍ قويةً لتعميقه ، بعضُها خارجيٌّ و بعضُها داخليٌّ ، و صالَ و جالَ فيه مواطنون و غيرُهُم ، بَعْضُهُمْ جَهلاً و سطْحيّةً و بَعْضُهُمْ خُبْثاً و طَوِيَّةً .
.
.
أفرز ذلك التقسيمُ و ما يزالُ فئاتٍ تتشكَّلُ طائفياً أو مذهبيّاً أو حزبياً أو قَبَليّاً أو مَناطقيّاً أو فِئويّاً … إلخ .. لم نكن كذلك من قبل .. كنّا سعوديّين سعوديّين سعوديّين فقط .
.
.
يَعزوا كثيرون توسع هذا التقسيم إلى مناخ الإنفتاح الإعلامي الذي إتخذتْه الدولة منذ عشر سنواتٍ مَدفوعةً بانفتاح وسائل التواصل العالمي .. و هو إجراءٌ صحيحٌ لو لم يُرافقْه إستئصالٌ لشأْفَةِ رجالِ الإعلام الأكْفاء و تَنَكُّرٌ لقيمِ الإعلام السعودي الرشيد و إستبدالٌ بالأضعفِ كفاءةً و الأقلِّ نضجاً و الأوْهى فِكْراً و سريرةً .
.
.
٧ – و يبقى السؤول الصعب : كيف سنخرجُ كوطنٍ من أحابيلِ الأعداء و شِراكِ المتربّصين داخلياً و خارجياً .؟. خاصةً إِنْ تأمَّلْنا تفجير المدينة على أنه إنذارٌ و تنبيهٌ إلهيٌ يُخشى أن يكون له ما بعده .. ” رَبّنا قَدَّرَ و لَطَفَ ” .
.
.
الإجابة كالتالي :
.
.
أ – إستعادة علاقتنا مع الله .. باستنصارِه و إستدرارِ مَدَدِه و دعائه و إجلالِ أوامرِه و نواهيه حتى لو خالفتْ هَوانا و مُستشارينا و مفكِّرينا .
.
.
ب – مراجعةُ كلِّ ما شَرّعناه أو سمحناه السنوات الماضية ، تماماً كما راجعنا إنجازَ المشاريع ، و ذلك بعرضه على علمائنا ( هيئة كبار العلماء ) لتتعلّق القرارات بذمَمِهِم وحدهُم .. فنحن نَرْبَأُ أن يَجتهد وُلاتُنا خطأً لا سمح الله فلا بديلَ لنا عنهم لأن بيْعتَنا لهم هي ( بيْعة لا نُقيلُ و لا نستقيل ) .
.
.
ج – تصحيح مسيرة المملكة الإعلامية .. و ليس المقصود تبديلَ الأشخاص .. بل يتعلق الأمر بمنظومة متكاملة متلازمة متناغمة من ( الإستراتيجيّات و الخطط و البرامج ) في ضوء ( الأهداف و التحديات و المخاطر و الطوارئ … إلخ ) .. على أن يكون ذلك مُطَوَّعاً و مترجِماً لرسالة المملكة و قيادتِها و إستقرارِها و مجتمعِها و مستقبلِها.
.
.
.
د – إستمرار الإعداد الرشيدِ لاستعادةِ قوّتِنا الإقتصادية و التنمويّة كما تطمح إليها ( رؤية السعودية 2030 ) بكل الإصرارِ و العنفوانِ و حشدِ الرجال و الكفاءات .
.
.
.
هـ – صيانةُ نَسيجِ وحدةِ المصير و المستقبل و الأهداف بين القيادة و الشعب ، باعتباره ليس وليد اليوم و لا الظروف .. بل بُنْيانٌ مرصوصٌ منذ المؤسس .. إتَّخَذَ عبر عقُودٍ ، عايش فيها الدسائس و الأفخاخَ ، حكمةً رشيدةً .. هي ( لن يَصلُح شأنُ الوطن إلا بما صلُح به أوّلُه ).
.
.
لم يَبْنِ المؤسسُ عبد العزيز – رحمه الله و جزاه عن المسلمين خير ما جزى راعٍ عن رعيته – مملكتَنا بالثروة .. بل كان في شَظَف . لم يَبْنِها بالمداهنة .. بل بالإعتداد بدينه في كل محفل . لم يُؤسس دولتَه على ديمقراطيةٍ أو ليبيرالية .. بل على حكم الشرع في الصغيرة و الكبيرة .
.
.
و – هذا وقتُ التلاحم خلف القيادة .. لا يشذُّ عنها إلَّا هالك .. ليس وقت ( إقتصاص ) و لا ( إقتناص ) .. رايتُنا واحدة .. و إبحارُنا هادرٌ .. و بوصلتُنا رشيدةٌ بهَدْيِ الله .
.
.
ز – لا بد أن نحيّيَ أبطالَ أمننا داخلياً و فُداةَ جيشنا على الحدود .. فنبتهل إلى الله كلُّنا سعوديُّون و مُقيمون و زُوّار أن يحفظهم بعينه التي لا تنام و إِنْ إختار أحدهم لجواره أن يُعطيه أجر شهيدٍ بما صدقَ ما عاهد عليه .. حتى لو مات على فراشه كسيف الله خالد بن الوليد .
.
.
ح – ينبغي أن نُحذِّر من سلاح لا يُقهر .. أفْتَك من الغاز و أمضى من الرصاص .. جِراحُه نازفةٌ .. و نزيفُه لا يلتئم .. نُدوبُه غائرة .. و آثاره لا تُمحى .. هو سلاح الجبناء يستخدمه الأقوياء لكوْنه أشنع من أسلحتهم و عتادهم .. جنوده جاهزون سريعون بلا أجرٍ و لا كُلْفةٍ .. يُدمّر دولاً .. و يُخذّلُ شعوباً .. و يجرف مُكتسباتٍ .. و يُشعلُ نفوساً بالبغضاء و الشحناء فلا يعود السِّلْمُ و الراحةُ لأيٍ منها .. إنه ( سلاح الإشاعات ) .. سُدُّوا أبوابَه قادةً و مواطنين .
.
.
ختاماً .. لن نكون ( كثيرين حول السلطة ) و ( قليلين حول الوطن ) .. بل كلُّنا للوطن .. حوله و معه و به و له .. لكننا حقاً و حقيقةً نحتاج حكامنا .. و هم أحوج ما يكون لدعائنا هذا ” اللهم أرهم الحق حقا و أرزقهم إتباعه و أرهم الباطل باطلا و أرزقهم إجتنابه .. اللهم إحفظ بلاد الحرمين .. حدودا و أرضا و سماءً .. إحفظها شعبا و وحدةً و قادةً من كل طارقٍ إلَّا طارقاً يطرقُ بخير .. إنها يا ربَّنا في حرزك و أمانِك ” .

المصدر

الاحساء اليوم

http://www.hasatoday.com/149858?mobile=1

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.