آخر الأخبار
عشرون ألفا يشهدون محاضرة الشيخ علي عبد الخالق القرني في جامع الراجحي بمكة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
عشرون ألفا يشهدون محاضرة الشيخ علي عبد الخالق القرني في جامع الراجحي بمكة.
هذا هو الخبر ، أما التعليق:
فهذا الرقم سارٌّ ، ومثير للاغتباط والاستبشار من لدن أهل الخير والبر ، فالأمة تريد أهل الدعوة وتحب مجالس الذكر وترغب في الموعظة الحسنة .
قبل سنوات لم يكن هذا الرقم غريباً ، بل لم يكن يقتضي التعليق ، لكنه انحسر كثيراً واختلف الناس في تفسير انحساره .
من الناس من قال قَلَّصَتْه التقنيةُ الحديثة فلم يعد الحضور شرطاً للاستفادة، إذ قد يُوَفِّرُ الغائبُ من جهده ووقته ويُحَصِّل من الفائدة كما حصَّل الحاضرون.
ويقول آخرون بل قلَّصه الانحسارُ في جاذبية الدعوة وانحسارٌ عام في الإقبال على القائمين بها وتراجعٌ مُشَاهد في التدين وتقلبات غير مرضية في توجهات الدعاة أضعفت الثقة بكثر منهم.
وفريق يقول بل قلَّصها المبالغة الشديدة في ضبط مسار الدعوة من الجهات الرسمية ، فقلَّ السماح للدعاة المؤثرين ، ولم يعُد حظ الإذنِ يمنحُ إلا لدعاة تقليديين لا يجارون تطلعات الشباب ولا يحسنون عرض قضاياهم .
وعندي أن كل ذلك ممكن بدرجات متفاوتة ، تختلف من بلد إلى بلد ومن بيئة إلى بيئة ، لكِنَّ المُختَلِف قطعاً كما يبدو لناظري هو الشيخ علي عبد الخالق نفسه ، فهو فريد في قدرته على المحافظة على جاذبيته في ظل كل تلك المتغيرات.
فبماذا ينفرد الشيخ علي عبد الخالق القرني وفقه الله ، وبماذا يمتاز عن كل من في هذه الساحة العريضة ؟
يُذَكَّرُنِي الشيخ علي عبدالخالق بالقول السائر :
زُر غِبَّاً تزدد حُباً .
فقِلَّة ظهوره جعلته جديداً لا تُخلِقُه الأيام يُجَسِّدُ دائماً قول أبي تمام :
وطول بقاء المرء في الحيِّ مُخْلِقٌ
لديباجَتَيْه فاغترب تتجدد .
فأني رأيتُ الشمس زِيدَت محبةً
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمدِ
على أن قِلَّة الظهور صفةٌ لا يُحسِنُها كُلُّ أحدٍ ، بل ليست حَسَنةً من كُلِّ أحد .
وقِلَّة ظهور الشيخ في تقديري راجعةٌ إلى عنايته غير المعتادة بما يُرِيدُ أن يحاضر فيه ، والحق أنه لا يُقَدِّم للناس محاضرة أو درساً ، كما اعتاد الناس أن يسمعوا في الدروس والمُحاضرات ، بل يُنَاوِلُهُم قطعاً من الأدبِ طويلةً لا تُنْسَجُ في يومٍ وليلة ، ولا يُعَدُ لها من موسوعة أو كتاب ، ومُعْظَمُ مراجعها ، فِكرُ الشيخ وذائقته وعلمه وأدبه وصِرْفُ بيانه ، لذا فإنك حين تسمع صوته في محاضرته ، فإنما تستمع إلى عقلٍ وذوقٍ ونبضٍ تتناغم أصواتهم فتنتج لك مقطوعة تتعالى عن الموسيقى التي يعرفها الناس وكأنما صدرت من أوتارٍ يحتكر معرفتَها قِلَّة من عباد الله اجتمع في صدورهم العلم والدين والبلاغة والأدب .
لم يحضر العشرون ألفاً ليستمعوا إلى محاضرة ستنقل مباشرة عبر الوسائط الإلكترونية كعشرات المحاضرات للعشرات من الدعاة ، ولم يحضروا ليُشجِّعوا محبوبهم كي يتفوق على قِرْنِه، كما يفعله رُوَّاد الملاعب، ولم يحضروا لإمتاع عين وتزجية وقت كما يصنع رواد العروض والمسرحيات ، بل جذبتهم إلى هناك أجواء غريبة اجتمع فيها الفكر والذكر والبلاغةُ والبلاغ ، وقلما يتهيأ ذلك الاجتماع .
حين تستمع إلى النص العربي الفصيح لا يشوبه لحنٌ ولا تُزْرِي به فهاهة ، مُطَعَمَاً بجواهر البلاغة وفصوص الحِكَم ، يحمله إلى أُذُنيك صوتٌ لا رخوٌ ولا صَلْف ، يتهادى كقاربِ صيدٍ مُحَمَّلٍ بالخيرات قادمٍ إلى الشاطئ في آخر ساعة من النهار، حين تستمع إلى ذلك ستسكن جوارحك إلى رقة طبعك ، تلك الرِّقَة التي يَلُفُّها القلب وتَبْسُطُها الكلمات ولا يعرف طعمها إلا من ذاقها ، ولا يشتاق إليها إلا من عرف طعمها.
حين تَتَّحِدٰ مع هذا الجمع المهيب ، ويَسكُن الجميع للسماع ويتوقف عشرون ألف لسان وتخفُت عشرون ألف حُنجرة ، وينساب صوت واحد تنطلق به أفواه المكبرات من جميع جنبات المسجد ، ترتفع نفسك على بِساطٍ من المشاعر حتى تسموا بك عالياً عالياً عالياً فوق كل مكابدات الحياة ومنغصاتها ، نفسك هنالك فوق كل الأعباء وبعيداً عن كل المنغصات ، لاشئ يعنيك الآن أكثر من أن تسمع بوضوح وأن يتضح لك ما سمعت ، كل الأجساد التي حولك نفوسهم مثلُ نفسك ، قد حَلَّقَت بعيداً عن معاناتها ومشاعرها الأرضية ، وكلمات الشيخ المنسابة كأنها ضباب الأصباح يرتفع بها إلى حيث يسكن الضباب .
وآيات القرآن تتجلى عظَمَتُها لروحك وسمعك أكثر من أوقات كثيرة مرت بك ، فأنت تستمع إليها في سياق بليغ انتقاه لها هذا الطَّرَّاز الماهر وانتقاها له ، فما أشد شبه ما أنت فيه بقطيفةٍ بيضاء صُفَّت عليها أنواع الحلي فعرفت إذ ذاك فضل الحُلِي على سائرها .
حين توشك الرحلة على النهاية ، يبدأُ إيقاع الصوت بالخفوت ، ومعها قليلا قليلاً تعود الأنفس إلى أجسادها وقد غسلتها رطوبة الآفاق وألانتها برودة العلياء فلا يكاد الشيخ يُنهي كلماته حتى يبدأ الناس ينظرون إلى بعضهم نظرات جديدة لم تكن هي التي استقبلوا بعضهم بها ، فجميع الوجوه اكتست بعلائم السكينة وجميع الأعين استضاءت بشعاع المحبة فلا الوجوه هي الوجوه ولا الأعين هي الأعين .
محمد بن إبراهيم السعيدي
صباح الأربعاء
١٣/ ٨ / ١٤٣٥
التعليقات