استشرافات المستقبل السياسي (1)

نظرة في الماضي القريب :

بالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست وحدها المهيمنة على الساحة في هذا الكون إلا أن اللعب السياسي بجميع أدواته النظيفة والقذرة لا زال يسجل نقاطاً أكثر لصالح الأمريكيين في أكثر الميادين التي يلعبون فيها .

فقد نجحت أمريكا كما لا يخفى على الجميع في تفتيت خصمها الأكبر الاتحاد السوفييتي ،وتحويلة من قوةٍ خصم حقيقي ، إلى قوة تُمثل دور الخصم لتمرير السياسات الأمريكية .

وهي ناجحة حتى الآن في تحجيم المارد الصيني سياسياً ،والاحتفاظ بحلفائها الأوربيين وإشعارهم بأنها الأخت الكبرى لهم ،لهذا تجد نفسها قادرة وبهدوء تام على العبث بأوراق الشرق الأوسط ،وإن كانت تواجه صعوبات في ترتيبها كيف تشاء . فأدوارها مع الاختلاف في تقدير حجمها لم تعد خافية في إشعال الثورة الإيرانية وإيقاد الحرب بين العراق وإيران ،وإيقاع صدام حسين في فخ غزو الكويت ،ثم الغزو غير المُبرر للعراق وتحطيمه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً .

وكذلك حققت نجاحات كبيرة في تشغيل المؤسسات الثقافية التابعة للأمم المتحدة والمؤسسات الإعلامية في العالم ومنه الشرق الأوسط لنشر العولمة والترويج للقيم الأمريكية .

كما نجحت في استثمار التطرف الديني في العالم الإسلامي لتمرير عدد من مشاريعها الثقافية والسياسية والعسكرية .

بل إن الثورات العربية في هذين العامين والتي أفضت إلى التمكين السياسي للإسلاميين لم تكن بمعزل عن المخطط الأمريكي الذي قرر المُنَظِّرون له منذ أكثر من عقد من الزمان ضرورة تغيير أنظمة العالم العربي الاستبدادية ,وإحلال ديمقراطيات محلها ولو أدى ذلك إلى تمكين نوع من الإسلاميين يُمكن استخدامهم في نشر مفهوم إسلامي جديد قادرعلى استيعاب القيم الإمريكية وضرب الإسلام المتشدد من خلاله ، وقد شجعت المؤسسة الأمريكية فعلا مفكرين وكتابا وسياسيين على إعلان طروحات علمانية الحقيقة وإلباسها زَيا إسلاميا ،وهذه الطُروحات يُراد لها أن تكون بديلاً عن الإسلام المُتشدد من وجهة نظر المُنظر الأمريكي والمتمثل أكثر ما يكون التمثل في الفكر السلفي ،ويُمكن مراجعة عدد من تقارير مؤسسة راند كتقريرها المسمى بناء شبكات إسلامية معتدلة وتقريرها المسمى الإسلام المدني الديمقراطي ،وكذلك تقرير معهد دراسات الشرق الأدنى والذي نشر مختصراً له مركز الجزيرة للدراسات وأعده ألكسس غلني تحت عنوان بناء جسور لا جدران ،وكذلك كتاب لحظة أمريكا لتغيير التاريخ لريتشارد هاس رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الولايات المتحدة ،وأيضا كتاب نهاية التاريخ لفوكوياما ،كل هذه الدراسات السابقة على الثورات العربية تعطي بمجموعها يقينا بأن الولايات المتحدة لم تكن بعيدة أبداً عن هذه الثورات وما جاء بعدها. ويبدو لي أن موعد التغيير لم يكن قد حان في نظر الولايات المتحدة حين قامت الثورة السورية ،فالنظام هناك لازال شابا وقويا ومتماسكا ولا يُعَرِّض المصالح الأمريكية والصهيونية لأي مخاطر ،كما أنه يتعاون بشكل جيد مع حليف الباطن ،وأعني به الجمهورية الإيرانية وأصابعها في لبنان وغيرها ,أما المعارضة السورية في الخارج ضعيفة جداً وغير مؤثرة في الداخل إطلاقاً ،كما أن المعارضة في الداخل أضعف بكثير ,وإن كان النظام يُعطيها في بعض الأحيان فرصة للتنفس والتنفيس لكنه تنفس من منخر واحد ومن يحاول استخدام منخريه كليهما يتعرض لقطع أنفه بالكلية .

لذلك لم تتعاطف الولايات الأمريكية المتحدة مع الثورة السورية في أشهرها الأولى ،وكانت أول مطالبة أمريكية للرئيس السوري بالرحيل على لسان أوباما بعد أشهر من اندلاع المظاهرات السورية السلمية ومقابلتها حكوميا بالقمع الدموي الوحشي ،ومع ذلك لم يلتفت سوى القليل للتناقض بين موقف أمريكا من ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وموقفها من ثورة سوريا ،وكان هذا القليل من الإسلاميين السلفيين وحدهم ،ولو التفت الآخرون له لكان وحده مؤشراً كبيراً وواضحا على عنصر المؤامرة فيما سبقه من أحداث.

ولا زال موقف الأمريكيين من سوريا مريباً في أحسن أوصافه حتى بالنسبة لمن لازالوا يُحسنون الظن بها أو أؤلئك الذين ملأوا آذاننا بنقد فكرة المؤامرة ،أما أسوأ أوصافه وهو أكثرها مطابقة للواقع ،فإنه موقف خبيث لا يعبأ بما يُراق من دماء السوريين المظلومة في سبيل تحقيق أحد أهداف الولايات المتحدة في المنطقة وهو تحطيم جميع القوى العسكرية المجاورة لإسرائيل .

مستقبل الوضع في سوريا: يبدو لي أن عواطفنا وأمانينا تؤثر كثيراً على فهمنا للأحداث وعلى تحليلاتنا السياسية ،فمنذ قامت الثورة السورية والكل يجزم بسقوط عاجل لنظام الأسد وقيام نظام ديمقراطي يصل فيه الإسلاميون للسلطة كما حصل في دول الثورات السابقة ،لكننا اليوم وبعد آلاف الضحايا من الرجال والنساء والصبيان والتدمير الشامل الذي قامت به الآلة العسكرية السورية يجب أن ننظر إلى المستقبل بواقعية أكثر ،وليس ذلك شعورا بالهزيمة لأن الهزيمة المطلقة ليست ولله الحمد ضمن توقعاتنا النهائية ،لكن النصر المطلق لن يتحقق دون أن ننظر إلى ما هو الأمر عليه على حقيقته لا كما نتمنى أن يكون .

الشعب السوري في ثورته لا يواجه الدولة النصيرية التي حليفتها إيران والتي تستقوي بالموقف الروسي والصيني كما هو الظاهر في الصورة الآن ،بل يواجه الشعبُ السوري العالم قوى الهيمنة الدولية بأسرها ،لا يُستثنى منها تلك الدول التي تزعم مناصرته والوقوف معه كالولايات المتحدة وفرنسا ودول الاتحاد الأوربي .

كل هذه الدول تواجه الشعب السوري وتقف مع حكومة الأسد وتؤيد إيران وتُحرض روسيا والصين على التمسك بموقفهما ،فدول أوربا منذ الحربين العالميتين وهي تفشل في كل محاولاتها للانعتاق من التبعية للولايات المتحدة ،حتى وحدة السوق المشتركة ووحدة اليورو والبرلمان الأوربي و التي كانت خطوات في هذا السبيل لم تحقق على الواقع شيئا يذكر في استقلال السياسة الأوربية الخارجية عن القيادة الأمريكية .أما أمريكا فإن مسؤوليها لايملُّون من تحلية خُطَبِهم بالتصريح بأن أمن إسرائيل أولية في سياسة بلادهم ،ولا يخفى أن دكتاتورية الأسد كانت نظاما شاباً يُحقق هذا المقصد وأي محاولة لتغييره يجب أن تكون لاستبداله بنظام يقوم بالدور نفسه الذي موكول له ،وإشكالية سوريا التي امتنعت من أجلها الولايات المتحدة عن دعم الثورة السورية هي أنها لا تثق بأحد هناك .

نعم إن سوريا فارغة من أي جبهة معارضة قوية يمكن لأمريكا التفاوض معها لإحلالها محل نظام سوريا الحالي ،وهذا فارق كبير بين سوريا وبلدان الثورة السابقة ،حيث فاوضت الولايات المتحدة قبل قيام الثورات جميع جهات المعارضة ومنها الإخوان الذين اعترفت السفيرة الأمريكية آن بترسون بأنها كانت تقدم لهم الدعم المادي قبل ثورة 25ياناير ،كما اعترف بعض قادة الإخوان المسلمين في مصر بهذه الحقيقة وهناك عدد من الدراسات منشورة على شبكة الإنترنت كلها تؤكد حقيقة الرغبة الأمريكية لوصول الإخوان للسلطة في الدول التي سبقت سوريا بالثورة .

وسياسياً لا يُعد هذا مثلبة للإخوان ،فهم حركة سياسية صرفة،وهذا بمعايير السياسة المعاصرة ليس عيباً ،وإن كان عيباً من الناحية القِيَمِيَّة .

أما إخوان سوريا فإن أمريكا لا تجد فيهم ما تجده في بقية البلاد ،فليس لهم عُمق تنظيمي في الداخل ،كما أنهم في خارج سوريا يبدون مشتتين لا يجمعهم قرار موحد ،وليس الأمر مقتصراً على الإخوان بل لا يوجد في أصناف المعارضة السورية من يمكن أن تكون محل ثقة الأمريكيين والصهاينة بل والإيرانيين أيضا .

أفضل الحلول لدى الأمريكيين في الوقت الحاضر: أن يرحل بشار ولكن بعد أن يُنهك الشعب السوري وتتفكك المؤسسات السورية الأمنية والمدنية ،وتكون سوريا آنذاك بحاجة ماسة إلى قوة خارجية تُشرف عليها ،وربما تكون تلك القوة هي أمريكا ممثلة في نفسها أو في قوات الأمم المتحدة أو قوة أخرى يمكن أن ترشحها أمريكا للقيام بالمهمة في المنطقة . وفي سبيل إنهاك البلاد عسكرياً ومدنياً تخيل ما يُمكن أن تصنعه كتائب المخابرات الأمريكية والمتعاونة مع أمريكا من تجنيد قوى متصارعة تُلهب الأرض السورية حتى يشعر الجميع بالحاجة الماسة إلى هذا المنقذ من الهلاك والذي ستقترحه الولايات المتحدة طبعاً .

هل من مناص من هذا الشَرَك؟
بعد سقوط الأسد لا يوجد في سوريا قوة يُمكن أن تلعب بها أمريكا لإدارة الصراع في سوريا سوى إيران والقاعدة ،وسوف يُعاد تصوير السيناريو اليمني بشكل معدل ليناسب تغيرات الزمان والمكان ,فإيران لها جيب وهو ما يُعرف بحزب الله والذي سوف ينتهز الفوضى للتمدد كما يفعل الحوثيون في اليمن ،وسوف تُكَوِّن القاعدة إماراتها وتكون شوكة في نحر أي حكومة تتشكل في سوريا ،ورُبما اضطر السوريون لإقامة تحالفات لحماية أنفسهم من الجميع كما هو الحال في كتاف وعاهم في أرض اليمن ،وربما تطوعت إسرائيل بإمداد الجميع سراً وعلانية كما فعلت في لبنان .

التاريخ سوف يُعيد نفسه إذا لم نستفد من تجاربنا القريبة فيه ،والحل من الآن هو السعي لإبعاد جيوب إيران وتنظيم القاعدة عن حلبة الصراع ،أما القاعدة فلا تحتاج سوى وقف التدفق البشري لها سواء أكان هذا التدفق من الداخل السوري حيث قد يُغري طرحها القوي والغاضب كثيراً من السوريين الموتورين ،أو من الخارج حيث للدعاية الجهادية للقاعدة أثرها في نفوس الكثيرين منذ زمن .

وإيقاف التدفق لا يُمكن أن ينجح بالطرق التقليدية وهي غلق المعابر والحدود وحبس المتورطين بهذا الفكر ،ولكن بمشروع إعلامي صريح وواثق من نفسه وقادر على الإقناع . إن لدى المخابرات وأجهزة البحث العربية أدلة قاطعة على اختراق تنظيم القاعدة من جهات عدة منها إيران وأمريكا والصهاينة ،والسرية التي يعمل بها التنظيم هي التي كفلت لكل هذه الأجهزة سهولة اختراقه حتى وصل الأمر بها إلى توجيهه والسير به حيث تريد ،وأبناؤنا من الشباب منبهرون بدعايته الإعلامية ونبرته الجهادية ،وهو أمر لا يُلامون عليه ،فالجهاد فريضة غائبة ومآسي الأمة تملؤ القلوب بها ،وكل اللوم يقع على تلك الأجهزة التي لم تستطع إيصال مالديها من حقائق إلى أذهان الشباب الذين أحلف يمينا غير حانث بها أنهم لو علموا صحة ما أقول لما قكروا ولو خَطْرَةً بأن يكونوا وقودا لمعركتهم .

كما أن وسائل الإعلام التي تولت فيما مضى عبء الدعاية ضد القاعدة وسائل غير نزيهة وغير مؤتمنة ،وقد بلغ من تجافي الناس عنها أنهم يعتبرون نقدها لظاهرة ما هو بمثابة التزكية الحقيقية لهذه الظاهرة ،فهذه الوسائل لا تحارب التطرف وحدة حتى يُقبل رأيها في المتطرفين بل تحارب كل ما ينادي به الدين من قِيَم ،وتُصَرِّح بالمناداة بإحلال قِيَمٍ غير منتمية مكان القيم التي عاشها المجتمع وأحبها وناضل من أجلها .

فمن الطبيعي جداً أن يسقط برنامجٌ مثل صناعة الموت على قناة العربية في أعمق دركات الفشل رغم ما بُذِل فيه من مال وتقنية ،وذلك لعوامل كثيرة منها عدم صدقية المؤسسة التي تنتجه وتبثه في الترويج للقيم الإسلامية بل الأمر معها على العكس تماماً.

إن وجود إعلام صادق في خدمة القيم الإسلامية يتبنى نشر حقائق الاختراق المخابراتي العالمي لهذا التنظيم كفيل وحده بإيقاف التدفق البشري للانضمام إليه من أبنائنا في المشرق والمغرب .

قوة الردع الإسلامية

أما إيران ممثلة في جيبها المُسَمَّى حزب الله ،فعلاجه باحتواء الحكومة السورية الجديدة إسلاميا وتقوية عضدها بإمدادها بقوة ردع إسلامية شبيهة من حيث الفكرة فقط وليس من حيث التطبيق بقوة الردع العربية التي كونتها الجامعة العربية في جنوب لبنان في منتصف التسعينات الهجرية .

وقد وقعت قوات الردع العربية في التسعينات في خطأ جسيم جداً حين فَوَّضت مهامها إلى سوريا الأسد الأمر الذي مكن سوريا آنذاك من احتلال لبنان والعبث فيه بالطريقة نفسها التي تريد أمريكا اليوم تطبيقها في سوريا.

إن قوات الردع الإسلامية ستكون سنداً وعضداً للحكومة السورية المستقبلية تمنع أي امتداد لأي جيب إيراني أو غير إيراني وتساعد في فرض الأمن والسلم في البلاد التي أنهكتها الحرب ولم تعد قادرة وحدها على حماية نفسها من أي إجرام داخلي أو خارجي .

إن قوات الردع الإسلامية ضرورة ستتحتم الحاجة إليها قريباً ،ومن المفترض أن تبدأ الدول الإسلامية في التنسيق لتكوينها من الآن حتى إذا حانت ساعة الصفر وسقطت حكومة بشار كانت قوة الردع تلك حاضرة لتقف مع تكوين حكومة بديلة تمنع من إيجاد عصر للفوضى التي لا تنتهي كما حدث في لبنان والصومال وغيرهما .