آخر الأخبار
حديث في مصطلح الفتنة
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
الناس هم وقود الفتن ، وحينما لا يقوم الناس في الفتنة فإنها لا تقوم ، ولو أن من دَعَى إلى فتنةٍ لم يجد مُجِيباً لماتت الفتن وحَيِيَ الناس .
ولو كانت الفتنة تُخْبِرُ عن نفسها أنها فتنةٌ ، ما وقع فيها أحدٌ ، بل ولَمَا صح أن نسميها فتنة .
فهي إنما سُمِيَت بذلك لما في هذه العبارة من معنى الإغراء بفعل ما يجب تركه وترك ما يجب فعله ،بتزيينها القبيح وتقريبها الأماني حتى يظنُ من غرَّته أنه ليس بينه وبين أحلامه سوى أن يتقدم قليلاً ليتجاوز العقبة ، أو يمد يده يسيراً ليقطف الثمرة ، وكأنه سائرٌ تحت الأغصانِ وأحلامُه وأمانيه معلقةُ بأعذاقها .
وهذا هو معنى قول ابن حزم رحمه الله(نُوَّارُ الفتنةِ لا يعْقِد) أي أن مظهر الفتنة الذي يُشبه النوار أي الزهر لا يتكون منه ثَمَرة . وليس دقيقاً قول من قال : إن الفتنة هي التي لا يمتازُ الحقُ فيها من الباطل ، فإن اختلاطَ الحق بالباطل ووقوفَ المسلمِ بينهما مُستشكِلاً نوعٌ من أنواع الفتن ، وليست الفتن كلها كذلك . فما من تابعٍ في الفتنةِ إلا ويقينُه أن الحق مع متبوعه ، وهذا ما يجعل الفتنةَ أكثرَ بريقاً وإغراءً ، بل الصواب أن الفتنة قد تكون في :
– طلب الباطل على كل حال .
-وتكون أيضا في :طلب الحقِ حين تُجهَلُ عواقبُه. -وفي طلبِ الحق حين يَغلِبُ على الظن أن الضررَ الناتج عن طلبه أبلغُ من الخير المتوقع في المطالبة به .
-وفي طلب الحق حين تكونُ المصلحةُ من طلبه موهومةً ، والضررُ المتوقعُ من المطالبةِ به متيقناً أو مظنونا .
-وفي طلب الحق إذا خُشِي أن يؤول إلى مطالبةٍ بباطل .
وبهذه القسمة لا يخرج عن الفتنة من طلب الحق إلا ما كانت منفعته أعظم من مفسدته ، وحَمْدُ عاقبته أقربُ إلى اليقين من ذمِّها .
وكيف يقال إن اتِّضاح الحق هو مناط تمييز الفتن من غيرها ، ونحن حين نتأمل التاريخ نجد أن أعظم الفتن وأكثرها على الأمة ضرراً إنما كانت بدعوى المطالبة بالحق ، كحال من حاصروا عثمان رضي الله عنه زاعمين إرادة الحق حتى انكشف على أيديهم ما يرومونه من باطل .
وما كان باعثَ طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة ومن وافقهم من الصحابة والتابعين حين مسيرهم إلى البصرة إلا طلبُ الحق ، وكان الحق معهم ، فمن ذا الذي يقول إن طلب الأخذ ممن سفك دم عثمان رضي الله عنه لم يكن حقا ؟
لكن مآل مسيرهم صار إلى شرٍ وفتنة وقتلٍ ذريعٍ بين المسلمين يوم الجمل .
واقتتالُ عليٍ ومعاوية رضي الله عنهما كان على طلب حق ، ولم تكن عاقبتُه إلا شراً ، وقد عَرَفَ الصحابةُ رضي الله عنهم ذلك فقَعَد أكثرهم عن نصرة أيهما، قال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى :(هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين) وقال الشعبي رحمه الله تعالى لم يشهد الجمل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاوزوا بخامس فأنا كذاب).
بل أدرك عليٌ رضي الله عنه صواب من قعدوا وتلاؤم لذلك وتمنى لو أطاع مشورة ابنه الحسن في المصير إلى غير ما صار إليه من الرأي. قال ابن تيمية رحمه الله : ( والذين قعدوا عن القتال جملة أعيان الصحابة كسعد وزيد وابن عمر وأسامة ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وهم يروون النصوص من النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة.
وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة حتى قال الإمام أحمد: لا يختلف أصحابنا أن قعود علي عن القتال كان أفضل له لو قعد، هذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له: ألم أنهك يا أبت؟ وقوله: لله در مقام قامه سعد بن مالك, وعبدالله بن عمر، إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير) .
ولا شك أن علياً رضي الله عنه كان يرى الحق معه ، ومع ذلك ينقل أحمد عن أهل الحديث أن يرون الأفضل قُعُوده لو قَعد.
وخروجُ الحسينِ رضي الله عنه على يزيد كان في طلب حق ، فقد كان يريد إعادة الأمر إلى نصابه ، ويمنع صيرورة الخلافة إلى ملك عضوض ، وهذا ما يُطلق عليه اليوم إعادة الشرعية ، لكن ليتأمل كلٌ منا ما آل إليه الأمر بخروجه من الشر وما نُسِج عليه من الباطل . وخروجُ أهلِ الحرة في المدينة على يزيد كان في ظنهم طلبَ حقٍ لكنه آل إلى فساد عظيم ، لو تبصَّروا حقَ التبصر قبله ما صنعوه ، وقد نصحهم كبارُ الصحابة آنذاك بالعدول عن رأيهم لكن بريقَ الفتنةِ غرَّهم وأغراهم عن سماع صوت نصحائهم ، وهو مصداقُ قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن حال الناصح يوم الفتنة كما في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ” إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ” ، قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ ” السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ “رواه أحمد ].
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في معصية الناس للعلماء والحلماء :عنسهل بن سعدٍ – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: (اللهم لا يُدرِكني ولا تُدرِكوا زمانًا لا يُتبَع فيه العليم، ولا يُستَحى فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب))؛ رواه أحمد.
ومثله خروج ابن الزبير رضي الله عنهما على يزيد بن معاوية كان في طلب حق ، بل كان رضي الله عنه أولى الناس بالخلافة بعد وفاة يزيد ، وبايعه بها أهل الحجاز واليمن والعراق ومصر ، لكن عدم استكانته لما حل به من ضعف وإصرَارَه على القتال في طلب حقه ، رغم قلة حيلته وانهيار دولته وإدبارها ، وتعاظم شأن بني أمية وإقبال الأمر عليهم ، لم تأت ثمرته إلا وبالاً ونكالاً . قال الذهبي بعد أن ساق خبر دفع ابن الزبير للكتائب وحده :(قلت :ما إخال أولئك العسكر إلا لو شاؤوا لأتلفوه بسهامهم ، ولكن حرصوا على أن يمسكوه عنوة ، فما تهيأ لهم ، فليته كف عن القتال لما رأى الغلبة ، بل ليته لا التجأ إلى البيت ولا أحوج أولئك الظلمة والحَجَاج لا بارك الله فيه إلى انتهاك حرمة بيت الله وأمنه فنعوذ بالله من الفتنة الصماء)
وخرج عبد الرحمن بن الأشعث ومعه كبارُ التابعين، وهم يطالبون بحق ، لكن الخسارة بخروجهم كانت فادحة وما ترتب عليها من الشر كان عظيما.
وقد كان فيها من خيار التابعين وعلمائهم وقرائهم خلق كثير . حتى إن كلَّ من خرج فيها منهم ندم أشد الندم على فعله ، فقد روى ابن سعد عن حماد بن زيد قال : ذُكِرَ لأيوب السختياني القراءَ الذين خرجوا مع ابن الأشعث ، فقال : لا أعلم أحدا منهم قُتِل إلا وقد رغب عن مصرعه ، ولانجا أحدٌ منهم إلا حمد الله الذي سلمه ، وندم على ماكان منه.
وروى البخاري في تاريخه عن أيوب عن أبي قلابة: قال لي مسلم بن يسار: إني أحمد الله إليك أني لم أرم بسهم – أي في فتنة ابن الأشعث – و لم أضرب فيها بسيف، قلت له: فكيف بمن رآك بين الصفين فقال: هذا مسلم بن يسار لن يقاتل إلا على حق، فقاتل حتى قُتِل ؟ فبكى ، والله حتى وددت أن الأرض انشقت، فدخلت فيها
وكان خروج أمراء بني أمية على الوليد بن يزيد لِما شاع عنه من الفسوق والاستهتار ، وكان فيما رأوه طلب حق وتجديداً لسيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، لكن عاقبته لم تكن خيراً ولم يأت منها فلاحٌ أبداً ، وكانت الصدعَ الأعظم في الدولة التي فتح الله على يديها المشارق والمغارب ، ولم تزل دولة الإسلام بعدها في تقلص حتى القرن الخامس الهجري .
ولو تتبعت التاريخ كلَّه وما وقع فيه من الفتن ، لعلمت أن اتضاحَ الحق وأهلِه ليس كافياً لارتفاع وصف الفتنة عمَّا يَشْجُرُ بينَ المسلمين من نزاعات.
فالحقُ قد يكون واضحاً ، وتكون المُنَازَعَة لأجله فِتْنةً ، وذلك حين يغلب على الظن أن المُطالبة أشنع في المآل من تركها. إمَّا لضعف المُطَالِب وقُوَّةِ المُطَالَب .
وإمَّا لثِقَلِ المَطْلُوب وعدمِ قدرةِ المُطَالِب على القيام به.
وإمَّا لاستلزامِ المُطالَبَةِ شروطاً في الأنفسِ والأحوالِ يتحتمُ الخذلانُ عند عدم وجودها .
ومن تتبع الأحداث المعاصِرةِ وما سبقها يجد أن غالب ما يَشْتجِرُ فيه المسلمون هو من هذا القبيل ،وذلك أن المسلمين في كلِ مكان لهم حقوقٌ عند كُبَرَائهم .
ولهم حقوقٌ على ولاتهم .
ولهم حقوقٌ عند أعدائهم .
حقوقٌ في الدين وحقوق في الأنفس وحقوق في الأموال ، وحقوقٌ في صلاح الولاية ، وحقوقٌ في الديار .
ولاشك أن انتقاص هذه الحقوق أو احتجانها أو اغتصابها ، يوقع في النفوس الكثير من الضيق والغبن والقهر .
ولاشك أيضا أن استرداد تلك الحقوق وتصحيح مسار الأمة لابد أن يبقى مطلبا ظاهراً، لكن التحرك من أجله يجبُ أن يكون بالطريق الذي لا يصعد بالأمة إلى الهاوية أو يتجه بها نحو شفى جرفٍ هارٍ .
وهذا ما يوجب على المسلمين أن يكونوا في توجههم نحو المطالبة بحقوقهم على أعظم درجة من درجات الحذر ، والبعد عن المجازفة ، ويقتضي ذلك أموراً سأجعل ذكرها موضوعاً لمقالة قادمة والله من وراء القصد .
التعليقات