مركز حوار <<أتباع الاديان>>…وتجاوز المخاطر

تكبير الخط تصغير الخط

حين يكون طريقك إلى أحد أهدافك، إما بحراً عريضاً، وإما جسراً من الحبال، فخيارك الأسلم التخلي عن هذا الهدف والانشغال بسواه، فإن أصررت فالمُضِيَ برفقٍ وحرصٍ شديدين فوق ذلك الجسر، وحذارٍ زلة القدم فإنها هلاك لا محيص عنه، أما العومُ في البحر العريض فليس خياراً أبداً إلا حين تُقرر أنت أن تموت.

قريباً من هذا المعنى كان صدر كلامي لمدير مركز الملك عبدالله للحوار بين أتباع الديانات والثقافات أخي فيصل بن معمر، صرحتُ له فيه بكلِ ما أعقِدُه على هذا المركز من آمال وتطلعات، وأيضاً بكلِ ما لي من تحفظات، وتقبل كلا الأمرين بروح عملية يملؤها اليقين بأن النقد المنهجي أعظم دوافع التقدم.

كان المعنى الذي صدَّرتُ كلامي به إليه مُعَبِّراً عن يقيني بأن هذا المركز ينبغي أن يكون واحداً من أدواتنا المُفترضة لمُقاومة الآلة الغربية، لاسيما الأميركية المُجنَّدةِ بكل قوة لفرض جميع قِيَمِ الغرب بلا استثناء على العالم بأسره، مستخدمين في ذلك كل الأدوات السياسية والتجارية والإعلامية والثقافية.

فالعبء الذي يُفترض أن يُستثمر هذا المركز في حمله ليس عبئاً دعوياً بالدرجة الأولى، وإن صبَّ في النهاية في مصلحة الدعوة، بل هو عبءٌ سياسي وحضاري في المقام الأول، ينبغي أن تُناط به مسؤولية مقاومة المشاريع التي تتبناها عشرات المؤسسات العالمية وتعمل في سبيل ما عبَّر عنه المفكر السياسي الأميركي فرانسس فوكوياكا بـ«نهاية التاريخ»، ويعني به ذلك اليوم الذي تكون فيه القيم الأميركية سيدة العالم بلا استثناء.

فهل لإدارة هذا المركز وأعضائه من المسلمين وغيرهم لديهم هذا الاهتمام؟

أم أن كلاً منهم جاء يحمل قضيته الخاصة به وهي مناهضة الآخر، ومحاولة تمرير أجندات خاصة به من خلال هذا المركز؟

كلا الأمرين لا يزال مُحتملاً، واستمرار احتمالهما هو أولى الصعوبات التي تواجه المركز، وينبغي التغلب عليها للتفرغ للعقبة الأكبر، وأعني بها التاريخ الغربي الطويل في صناعة فرض القيم، الذي شهد أزهر عصوره في فترة الاستعمار الغربي لمعظم أجزاء الكون، ولم يقض عليه سوى سُنَّة الله في التدافع بين الأمم، ومع انتهائه لم ينته الغرب عن مشروعه في نشر قِيَمه ومحاولة تسييدها في المجتمعات، لكن قوة الفرض انتقلت من أوروبا إلى الولايات المتحدة، بمعنى أن المشروع ظل باقياً لكن المستفيد الأول منه هو الذي تغير.

وتغيرت أداة التغيير من التقليدية الطبيعية التي تعتمد على نظرية ابن خلدون في تقليد المغلوب للغالب، إلى استثمار الهيمنة على مؤسسات الأمم المتحدة وعلى الإعلام ليستمر المشروع ولا تترك الفرصة لأي صحوة أممية أن تُحدث تغييراً إلا من خلال ما أصبح المنظرون الأميركيون يسمونه «القيم الأميركية».

فلا تكاد تجد وثيقة أو عهداً أو اتفاقاً أممياً إلا وهو يتضمن من الفقرات والبنود ما ينص على عولمة شيء من تلك القِيَم من دون مراعاة لاختلافات شُعُوب الأرض في رؤيتها للكون والحياة.

تجد ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يرسخ لحرية غير محدودة سوى بالقوانين الديموقراطية وبأهداف الأمم المتحدة وغاياتها، كما هو نص الفقرتين «2 – 3» من المادة «29» من الميثاق.

وكذلك تجده في مواثيق «الغات» ومنظمة التجارة العالمية، إذ لا تزال تحتوي على الكثير من البنود التي تعتبر في نهايتها فرضاً لقِيَم لا يُمكن أن تنسجم مع الشريعة الإسلامية، وقد كان رفض هذه البنود من المملكة سبباً رئيساً في تحفظ الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، على انضمام السعودية للغات عام 1413، ثم على انضمامها لمنظمة التجارة العالمية بعد إنشائها، الأمر الذي كلف السعودية عشر سنوات من المفاوضات، استطاعت بعدها تحقيق الانضمام مع الكثير من التحفظات تضمنتها وثيقة تقرير فريق العمل للفريق المفاوض عن السعودية، ووثيقة الجداول المُوَحِّدة للسلع ووثيقة الجداول الموحدة للخدمات.

وأيضاً في اتفاق حقوق الطفل، بدءاً بتعريف الطفل الذي لا ينسجم مع مبدأ التكليف في الشريعة الإسلامية، مروراً بالمواد «12-13-14»، وانتهاءً بسائر المواد التي يؤثر الخلاف في تعريف الطفل على إمكان تطبيقها.

ومنها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ تُشَكِّل بعض مواده مخالفة واضحة للشريعة الإسلامية «المواد 3-4-5»، ومثله العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية «الفقرة 5 من المادة 6 و18 و19»، وأيضاً اتفاق مكافحة أشكال التمييز كافة ضد المرأة، فقد تحفظت المملكة العربية السعودية على خمس مواد منها، والحقيقة أن الإخوة المفوضين بدرس هذا الاتفاق قبل توقيعه فاتهم عدد من المواد لم يوصوا بالتحفظ عليها، على رغم ما فيها من مخالفات، وهو أمر آمل من مجلس الوزراء تداركه قريباً.

هذه نماذج على عجالة وإلا فإن جميع الاتفاقات والعهود وتوصيات المؤتمرات الدولية لا تخلو من مواد مخالفة لقيم الكثير من شعوب العالم وليس المسلمين وحسب، والأمر يقتضي دراسات مستفيضة ينبغي أن تقوم بها مراكز الدراسات، بل لعلها تكون أحد مشاريع مركز الملك عبدالله للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، سعياً لتخليص العالم من مشروع هيمنة القِيَم الغربية الذي سماه المنظرون الأميركيون يوماً ما بـ«العولمة»، ولقي انتقاداً حاداً من مفكري العالم على اختلاف أجناسهم وانتماءاتهم، ليقينهم بأنه مشروعٌ استعماريٌ بلباس ثقافي قِيَمي، وهو ما يؤكد عليه كثيراً أمثال الصحافي الأميركي وليام إنغدال.

لست هنا لأنكر أن للمعاهدات والمواثيق الدولية أثراً نافعاً ومواد تتفق مع ما جاء به ديننا، لكنني أحقق أن في طيات تلك المواثيق ما يخالف الشريعة بل وما يخالف كثيراً من القيم الخاصة بالكثير من الأمم.

نعم تلك المواثيق تركت في الكثير من بنودها التي لا تتفق عليها الأمم مساحات يُمكِنُ توصيفها بالمخارج القانونية وأبدت حق التحفظ لمن شاء على ما يشاء، لكن التحفظ وحده لا يعني أن تلك الدولة المتحَفَّظَة سوف تُترَكُ وشأنها، بل إن الضغوط السياسية والديبلوماسية والتجارية والإعلامية والحقوقية تظل تتوالى، لا لتطبيق ما صُودِق عليه، بل وأيضاً للمصادقة عليه ثم التحفظ عليه.

وحين تُراجع سِلسلة من تقارير مراكز الدراسات المعتبرة دولياً التي يؤخذ برأيها في توجيه السياسات الغربية والأميركية خصوصاً، تجد أن تغيير قِيَم العالم يُعد هدفاً حاضراً للعمل الغربي والأميركي في شتى أنحاء العالم، ونظرة سريعة في عناوين سلسلة تقارير مؤسسة راند، أو مؤسسة كارنيغي للسلام، والمُقدمة حول الشرق الأوسط، تجعلك لا تملك إلا التسليم لهذا الرأي واعتباره حقيقة قاطعة، إذ لا يُمكن أن تبذل مؤسسة بحجم راند هذه الجهود لتقدمها اجتهاداً شخصياً لا يعني غيرها، بل هي دراسات تُوَطِّؤ لعمل، كما هو المعهود من حال السياسات الغربية التي لا تسير إلا وفق رؤى استراتيجية بعيدة المدى.
بل لم يعد ذلك سراً، إذ صرح به بعض قادة المفكرين السياسيين من أمثال فرانسس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ»، وريتشارد هاس في كتابه «الفرصة».

هذا الأسلوب في نشر القيم يُراد به التغيير من الأعلى، أي: جعل الأنظمة المحلية أداة غير مباشرة للتغيير القِيَمِي الشعبي، ولهذا فإن المستهدف الأول بالتغيير في أكثر ما تقدمت الإشارة إليه من المواثيق الدولية هي الأنظمة المحلية في الدول المُستهدفة، إذ يُعول في تحويل الأنظمة إلى ما يوافق تطلعات مشروع العولمة الفكرية على تسهيل المسار أمام إحداث تغيير في العوائد والأخلاق والمعتقدات.

هناك أسلوب آخر وهو ما يمكن أن نُعبر عنه بأسلوب تحريك المنصة، وهو أسلوب نشر القيم الغربية بين طبقات الشعب بشكل مباشر عن طريق وسائل الإعلام المتنوعة، أو المنتجات الاقتصادية الغربية، التي نكون في حقيقتها من مُنتَج مُستَهلك لكن مآلات استخدامه وشيوعه بين الناس يعتبر مؤشراً على تغير فكري بين الناس.

ولهذا الغرض يجري تجنيد أساطيل من الصحافة والتلفاز والسينما لتحقيق مثل هذه الأهداف، وقد نص تقرير راند الموسوم ببناء شبكات إسلامية معتدلة على توصيات للحكومة الأميركية باستغلال وسائل الإعلام العربية كوسيلة للتغيير، كما تحدث عن قيام تجنيد فعلي لبعض الإعلاميين، أفراداً ومؤسسات، لأداء هذه المهمة لمصلحة مشروع التغيير القِيَمِي.

ما تقدم من الحديث عن سياسة نشر القِيَم ليس استطراداً للفائدة المُجَرَّدة بل هو شرحٌ لتحديات نشأ في ظلها مركز الملك عبدالله للحوار بين أتباع الأديان والثقافات.

ويجدر القول: إن الغرب اليوم يستخدم الحوار الثقافي بشكل كبير جداً، لا لذات الحوار بل لتمرير بعض رؤاه الخاصة في مجالات غير ثقافية، بل سياسية وتجارية وأمنية.

فهناك مراكز عدة للحوار الثقافي الصيني الأوروبي، والآسيوي الأوروبي، بل والأوروبي الأفريقي، ولهذه المراكز أهداف ثقافية معلنة وأهداف اقتصادية وسياسية غير معلنة تُسْتَشَف من أنشطتها.

بل إن حماسة الغربيين لاستثمار الحوار في حل مشكلاتهم الأمنية بلغ حد رعاية بلديات المدن الكبيرة له، فهناك مراكز حوار في المدن الأوروبية الكبرى، مثل لندن وفيينا وجنيف تستهدف في النهاية حماية المجتمع الأوروبي ثقافياً وأمنياً وسياسياً.

وفي مدينة لندن مثلاً توجد مؤسسة العيد، وهي مؤسسة خاصة بحوار الطفولة، ومحاولة دمج الأطفال متنوعي الأعراق، وتعزيز مفهوم التسامح وقبول الآخر لديهم، ولا يخفى ما لنجاح هذا الأمر من أهمية في الاستبقاء على الثقافة الأوروبية في منبتها.

وكذلك يستغل الغرب المنظمات العلمية الأممية كاليونسكو في تكثيف الحوار الثقافي من أجل التجارة والاقتصاد، ويمكن التحقق من ذلك بمراجعة اتفاق اليونيسكو حول تنوع التعبير الثقافي، فهوي اتفاق ثقافي في ظاهره، لكن الحقيقة الاقتصادية لا تخفى من ورائه، وقد نشر الباحث إيفان برينييه دراستين بهذا الخصوص:

الأولى بعنوان: «اتفاق اليونيسكو حول تنوع أشكال التعبير الثقافي، وثيقة ثقافية على ملتقى القانون والسياسة».

وعنوان الأخرى: «العلاقات بين اتفاق اليونيسكو بشأن حماية وتنوع أشكال التعبير الثقافي والصكوك الدولية الأخرى، نشوء توازن جديد في الاتصال بين التجارة والثقافة».

وهما دراستان منقولتان إلى اللغة العربية ومتاحتان عبر الشبكة العنكبوتية، والجميل فيهما أن القارئ يعيش أجواءً من الوعي بمكانة المنظمات الدولية وضرورة استثمارها، وكيف أن غياب النخب الإسلامية، أو تغييبها عنها، أدى إلى تراجع كبير في تأثيرهم العالمي على الأنمة والقوانين الدولية.

وصل مركز الملك عبدالله في التقدير السياسي إلى مرتبة الاعتراف به أممياً، أي من الأمم المتحدة، وهي مكانة تعطيها فرصة نظرية جيدة في التأثير كمؤسسة ضاغطة، لكن هل ستكون كذلك عملياً؟

وما السبل التي يُفضل أن تتبعها المؤسسة لتكون كذلك؟
وما الصواب والخطأ في ظروف نشأتها؟

هذا ما آمل أن يكون موضوع مقال آخر.

د محمد بن إبراهيم السعيدي

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.