آخر الأخبار
الصلاة خلف من يقول إن الله في كل مكان!
أنا مقيم في بلد أوروبي، والمسجد الذي أصلي فيه لديه إمامان تخرجا من المدارس الديوبندية و أعرف أحد طلبة العلم ممن كان يصلي معنا في المسجد، ثم تغيب عن الحضور، ولما سألته عن عدم صلاته معنا قال: إنه تبين له أن هذين الإمامين يقولان إن الله في كل مكان – بذاته لا بعلمه- ولما ناقش أحدهما انبرى له بالقول إن هذا هو القول الصائب.. وذكر له بعضا ممن قال بذلك ..وأيضا هذا الذي درسه هو في المدرسة الديوبندية. فأرشدوني ماذا أفعل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد :
فإن الأصل أن يصلي المسلم خلف من يرضى دينه وأمانته، وأن يبتعد ما استطاع عن الصلاة خلف غير المرضي دينا وأمانة، هذا هو الأصل.
وقد حكى الشوكاني رحمه الله اتفاق الأئمة على كراهة الصلاة خلف غير العدل. نيل الأوطار (3/ 201) وقد اختلفوا في صحة الصلاة خلف الفاسق , وللإمام أحمد رحمه الله روايتان في ذلك قدمها كثير من أصحابه.
جاء في الإنصاف للمرداوي (ج2/ص 252) “لَا تَصِحُّ وهو الْمَذْهَبُ، سَوَاءٌ كان فِسْقُهُ من جِهَةِ الِاعْتِقَادِ أو من جِهَةِ الْأَفْعَالِ من حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. قال ابن الزَّاغُونِيِّ هِيَ اخْتِيَارُ الْمَشَايِخِ، قال الزَّرْكَشِيُّ هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَاخْتِيَارُ ابن أبي مُوسَى”.
وعن مالك رضي الله عنه روايتان أيضا المعتمد عند أصحابه جواز الصلاة خلف المبتدع، وإن كانت بدعته مكفرة. قال في شرح مختصر خليل (ج2/ص 23) “ثم إن المعتمد صحة الصلاة خلف الفاسق، كما في ابن غازي وغيره، وهو الذي يدل عليه ما يأتي من صحة الصلاة خلف المبتدع، مع أنه قد وجد فيه قول بكفره”.
ويرى الشافعية التفريق بين من يكفر ببدعته، ومن لا يكفر بها، قال النووي في روضة الطالبين (ج1/ص 355) “تكره الصلاة خلف الفاسق، وتكره أيضا خلف المبتدع الذي لا يكفر ببدعته، وأما الذي يكفر ببدعته فلا يجوز الاقتداء به “.
وكذلك الأمر عند الحنفية، قال في بدائع الصنائع (ج1/ص 157) “وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ؟ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ لَا تَجُوز،ُ وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى رِوَايَةٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كان لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كان هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كان لَا يُكَفِّرُهُ َيجُوزُ مع الْكَرَاهَة”.
وقد ذكرت الروايات عن الأئمة رحمهم الله ليعلم القارئ، الكريم أن المسألة اجتهادية، وليست من المسائل القطعية، ولو لم تكن اجتهادية لما حصل فيها كل هذا الاختلاف، وفائدة معرفة كون المسألة من المسائل الاجتهادية : أن كثيرا من الشباب يظنون أن عدم صحة الصلاة خلف الفاسق من المسائل المحسومة المتفق عليها، ولذلك نراهم يوالون ويعادون في الصلاة خلف المبتدعة، ويسيؤون الظنون في من يصلي خلفهم، ولعلهم إذا عرفوا ذلك خفَّ عندهم الخطب، وقربت بينهم الشقة، لاسيما وأن مناط استدلال كلا الفريقين ليس النص الصريح، إذ لا نص صريح في المسألة، وإن كانت النصوص الصريحة أقرب إلى قول من يجيز الصلاة خلف المبتدعة لدخولهم اصطلاحا في الفساق. وفي جواز الصلاة خلف الفاسق نص صريح فيما رواه الدار قطني (2/57) والبيهقي (4/19)، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صلوا خلف كل بر وفاجر، وصلوا على كل بر وفاجر، وجاهدوا مع كل بر وفاجر”.
قال الدار قطني رحمه الله -: مكحول لم يسمع من أبي هريرة، ومن دونه ثقات.
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن المسألة منوطة بالمصلحة، فإذا كان المسلم يجد حرجا في ترك الصلاة وراء هذا المبتدع، كأن يكون ترك الصلاة وراءه يؤدي إلى اضطراب بين المسلمين، أو إلى أذى يلحق المسلم بترك الصلاة وراءه، سواء أكان هذا الأذى بدنيا أم معنويا، كالوقوع في عرضه , أو كان ترك الصلاة وراءه يؤدي إلى ترك الجماعة بالكلية؛ لكونه لا مسجد قريب منه إلا هذا المسجد الذي يؤم فيه صاحب البدعة، فلا بأس بالصلاة وراءه؛ لأن المصلحة الشرعية حاصلة بالصلاة هناك لما فيها من اجتماع المسلمين، وانكفاف أذى بعضهم عن بعض، وغير ذلك من المصالح , وقد صلى الصحابة خلف الحجاج بن يوسف، كما صلى بعضهم خلف المختار ابن أبي عبيد الثقفي، مع أنه من المبتدعة الغالية.
والبدعة عند أهل السنة إذا كانت مكفرة فلا يحكم على المعين بالكفر بها، وهذا ما ذكره شارح الطحاوية واستدل له , شرح الطحاوية (1/355).
وما ذكره السائل من بدعة إمام مسجدهم من هذا النوع، فنسأل الله تعالى له الهداية والتوفيق إليها، وما ذكرته من الرأي في الصلاة وراء المبتدع هو اختيار أبي العباس ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فصله في الفتاوى , (1/267) في كلام ملخصه ما قدمت. والله تعالى أعلم.
التعليقات