من الذي سقط في الفتنة؟

تكبير الخط تصغير الخط

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه:
لا خلاف بين المفسرين في أن الآية ٤٩من سورة التوبة نزلت في المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى :{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} وهذا نصُ ابنِ كثيرٍ في تفسيرها:(يقول تعالى : ومن المنافقين من يقول لك يا محمد : {ائذن لي } في القعود {ولا تفتني }بالخروج معك،بسبب الجواري من نساء الروم ، قال الله تعالى : { ألا في الفتنة سقطوا }أي : قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا).
ومثل هذا عند الطبري والبغوي والقرطبي وغيرهم رحمهم الله.
ومع وضوح المراد من نص الآية ومع تظافر التفاسير على معنى واحدٍ لها وأن المراد بها أهلُ النفاق الأكبر المخرج من الملة ، إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين من المسارعة في تنزيلها على إخوانهم ممن يختلفون معهم في تقدير مآلات الأمور وعواقب الأحداث في كثير من القضايا الحادثة والنوازل التي تحل بالأمة .
ومن تتبع مواقع التواصل الاجتماعي عرف ذلك جلياً في كثيرٍ من المواقف ، فما أن يُحَذِّرَ عالمٌ مهما بلغ قدره ولا داعية مهما بلغت شهرته من الفتنة في قضيةٍ ما حتى ترى الآية تتلى في وجهه وتُكْتَبُ على حائطه وتُعَلَّقُ في صفحته وكأنما هو الجَدُّ بن قيس الذي أنزلت بخصوصه قد بُعِث من جديد.
بل إن الصحابة الكرام رضي الله عنهم لم يُروَ عنهم أنهم لمزوا أحداً من المنافقين بهذه الآية ، ولم يلمزوا بها الجد بن قيس وهم يعلمون يقيناً أنها نزلت فيه حين استأذن رسولَ الله في القعود عن الذهاب في جيش العسرة متذرعاً بخوف الفتنة بنساء بني الأصفر ، فيأخذك العجب كيف يجرؤ معاصرون على تنزيلها على إخوة لهم مؤمنين بل وعلى علماء ربانيين ، لا لشيء إلا أنهم نظروا ببصيرتهم إلى ما لم ينظر إليه سواهم بأبصارهم ، وكان الأحرى بهم حين لم يستجيبوا أن يحفظوا لمن خالفوه ما يزعمون أنهم يراعونه من مكانة الرأي مهما بلغ الخلاف معه ، لا أن يُنزلوا عليه آيات الوعيد الواردة في المنافقين والكافرين ، ثم يُتبِعوها بما شاء الله أن يبتليهم به من عبارات السفاهة وسوء الأخلاق .
حملةٌ كهذه وُجِّهت للشيخ صالح الفوزان بقيةِ العلماء ومقدم الصلحاء والمشار إليه بالبنان في فنون العلم ومعارف الفضلاء ، وكانت هذه الآية ( ألا في الفتنة سقطوا) في صدر كل تعليق على موقف الشيخ حفظه الله من ذهاب شباب بلادنا إلى سوريا للمشاركة في جهاد نظامها الطاغوتي الأسدي ، حيث برر الشيخ منعه من ذلك بأنه لا يُذهب إلى بلاد الفتنة.
ولم تلبث الأيام والليالي أن تتالت حتى تجلى لكل منصف صدق الشيخ ونفاذ بصيرته ، فهاهم أبناؤنا الذين تركوا الآباء والأمهات ليقاتلوا الأعداء البغضاء يحملون بنادقهم يقاتلون فيها من زعموا أنهم جاءوا لتحريرهم والدفاع عنهم، بل ظهر عنهم من أنباء الشناعة أنهم يرفعون البنادق في وجوه بعضهم، فمنهم من وضع نفسه فيما يعرف بالدولة وآخرون في جبهة النصرة وقليلون في غيرها وغيرها .
أي فتنة أكبر من أن يجد المسلم نفسه يقاتل مسلماً آخر في قضية خاسرة ، أي فتنة أكبر من أن يدير المسلم ظهره للعدو ليقتل أخاه ، أي فتنة أكبر من أن يفارق الشاب جماعته ويكلم قلبي والديه بزعم جهاد الأعداء ثم يَقْتُل مسلماً أو يُقْتَل ببندقية مسلم .
سيقولون هو قتلٌ بتأويل أوقتلٌ بشبهةٍ أوقتلٌ للبغاة أو دفعٌ للصائلين ، ويجِدُون أويُوجِدُ لهم شياطين الإنس عشرات الذرائع الخادعة حتى لا يشعر أحدهم ولو بشئٍ من الأسى على دم أخيه الذي سُفِك بيديه ، وحتى يجد ما يُسَوِّغُ له مكان رصاصته من قلب أخيه .
إنه حقاً زيغ القلوب وابتغاء الفتنة الذي أخبر عنه الحق سبحانه وتعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).
أي فتنة أعظم من ذلك ؟
أعظم من ذلك أن يشرب الشاب من هناك استرخاص الدماء والقتل بأهون تأويل ، وتكفيرَ الدول وتكفيرَ المجتمعات إلى أن يتصل أحدهم من حلب بأهله في المملكة العربية السعودية ليخبرهم أنه قادم مع كتائب الحق بزعمه ليحرر جزيرة العرب من اليهود والطواغيت ، وكأن أهله مقيمون في تل أبيب أو القدس أو حيفا أو الناصرة ، ويتصل آخر بأخيه ليرسل معه رسالة إلى خاله يتوعده بأن رأسه هو أول رأس سوف يُدَحْرِجُه حين يقدم فاتحا هو والرايات السود، وكأن خاله حارساً شخصياً لبنيامين نتنياهو أو إيهود باراك.
نعم لقد صدق الشيخ حفظه الله وبر وعلم بما علمه الله وببصيرته ما لم يعلمه من تداعوا ليفسدوا على الناس نصيحته كما تتداعى الذباب لتفسد الطعام على آكليه .
في مثل الموقف الذي وقفه الشيخ صالح الفوزان يظهر أهل العلم الربانيون الذين لا تُرهبهم سطوة الجماهير وصولتها عن قول الحق في مكانه وأوانه .
لم يكن الشيخ حفظه الله منكراً لأصل الجهاد حاشاه ذلك ولا منكراً حق السوريين الآن في دفع من صال عليهم من جيش النصيرية الكافرين ، لكنه يُنكِرُ أن يُغلب أهل سوريا على جهادهم ويدخل فيه من لا علم له به ، في وقتٍ يعلم المبصرون أن سوريا أصبحت مرتعاً لشتى جهات الاستخبارات تفعل فيها ما تريد ، والشاب الغِر بل الكبير الأغر لا علم لهم بمكايد المخابرات العالمية وكيف تُدير خُدعها وتُجند أعداءها ليعملوا في خدمة مشاريعها ، فيظنون أن كل من لبس العمامة صار شيخاً ، وكل من أرسل لحيته صار ورِعَاً دَيِّنا، فيتقاطرون لينضموا إلى فصائل أنشأتها المخابرات أو اخترقتها ، ليصبحوا أدوات في مشاريعها، وهذا كله ما حصل .
فمن الذي سقط في الفتنة إذاً ، هل هو الشيخ الذي علم أن أهل البلاد أعرف بشعابها وما يصلحها ، وأن الوافدين عليها سيكونون شراً في مثل تلك الأجواء وإن راموا في عزائمهم أن يكونوا خيراً لها .
أم الذي سقط في الفتنة من جرّأ الشباب على العلماء وحط من مكانتهم عندهم وأوهمهم أن الواقع نوع من المعرفة فوق مستوى هؤلاء المشايخ الذين لاهم لهم إلا جمع الكلمة ولزوم الجماعة وطاعة السلاطين ، حتى أصبح قول العالم في نفوس الشباب لا يساوي عندهم نكات المهرجين ، يسمعونه فيضحكون مستخفين أو يعرضون ساخرين .
أم الذي سقط في الفتنة من حَرَمَ الأمةَ بكثرة استخفافه بأهل العلم من أن يكون العلماء قادة المجتمعات يوجهونها فيما يُرضي الله ويصلح الدنيا والآخرة .
نعم حَرَمُوا الأمة من العلماء لأنهم اوهموا الشباب بأن العالم لا يكون للأمة حتى يكون تابعاً لها وليس ناصحا ، وحين يقف العالِم في موقف الناصح المحذر من الفتن التي يعرفها العلماء حين تُقْبِل ويعرفها الغوغاء بعدما تفعل بالناس من الشر فعلها ، حين يقف العالم هناك يقولون له ما قاله الله في المنافقين {ألا في الفتنة سقطوا} .
أم الذي سقط في الفتنة هم من هوَّن في أنفسِ الناس أوامر رسول الله صلى الله عليه ونواهيه في السمع والطاعة في غير معصية وصوروها على أنها تشريع للاستبداد وإقرار للظلم ، فاستهان الكثيرون بسبب هذا التلبيس بواجب الطاعة فتفلت الشباب من آبائهم وأهليهم نافرين إلى معركة لم يُدْعَو إليها وكان حضورهم فيها شراً عليها وأضحوا فيها أدوات تتحرك في ضرب الثورة وتشويه الجهاد وتأخير النصر.
حفظ الله الشيخ وكثَّر في الأمة من أمثاله وأعاذنا من الرؤوس الجهال الذين أخبر عنهم المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا))؛ متفق عليه.
———————
الكاتب:محمد بن إبراهيم السعيدي
الثلاثاء
٥/ ٣ /١٤٣٥للهجرة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.