مدرسةكورونا ومدرسة رمضان

تكبير الخط تصغير الخط

يأتي رمضان كل عام وتأتي معه استعداداتنا للانتفاع به والنيل من الأجر العظيم الذي يتاح فيه والتدرب على مكارم الأخلاق التي يتضمنها ما تدعو إليها فرائضه من تغييرٍ في مألوفاتنا اليومية جيدِها وسيئها ، فهو كما لا يخفى على الجميع أعظم مدرسة زمانية تمر بنا كل عام ثم تمضي والناس ما بين مستقِل من خيرها ومستكثر .
وهاهو الشهر العظيم مقبل ،لكن إقباله هذا العام ليس كإقباله دوما ، فهو اليوم يأتينا ونحن صفوف في مدرسة أخرى غير مدرسته نتعلم منها الكثير من الدروس التي كثير ٌمنها كان رمضان يعلمنا إياها ولكن بأسلوب آخر وطريقة أرفقَ وأرقَّ وأنفع ، منها ما هو في علاقتنا مع الخالق من الضراعة إليه والالتجاء إلى جنابه بكثرة الدعاء وتنويع العبادة ، ومنها ما هو في طبائعنا من الرحمة والسكينة والصبر ، ومنها ما هو في علاقتنا مع أهلنا وأبنائنا من النظر إليهم والتعرف على حقائقهم والقرب منهم أكثر وأكثر ، ومنها ما هو في عاداتنا كالصبر والاقتصاد في المأكل والمشرب والملبس ، إلى غير ذلك من الدروس التي كنا نتلقاها في مدرسة رمضان الذي يشارف مضاربَنا ونحن نتلقاها من هذا المخلوق القوي في أثره الضعيف في خٍلْقَته .
وكما أنَّ لكل واحدة من المدرستين أسلوبها الخاص وطريقتها التي تنفرد بها ،فلها كذلك دروسُها التي لا تشاركها فيها المدرسة الأخرى .
وفي كل تلك المشتركات بينهما وأيضا في المفترِقات خيرٌ لنا ، منه ما نعلمه اليوم ،ومنه ما سنعلمه غداً ،وإن غدا لِناظره قريبُ.
لكن هناك مؤسفات عرفناها أو عرفها أكثرنا من نفسه مع مدرسة رمضان ، ونسأل الله أن لا نعرفها من أنفسنا في مدرسة كورونا .
وأعني به سرعة انقطاع مداومتنا على ما يلقيه رمضان فينا من خير ، فالغالب من أحوالنا أن رمضان لا يكاد ينتهي حتى نبدأ بالتخفف من كل ما أفدناه من دروسه ،حتى إنها لا تمر علينا أيام بعده إلا ونحن على شبه حالنا قبله ، ونَعِد أنفسنا أن لا نكون كحالنا هذه مع رمضان القادم ، وتمر الليال والأيام ويَقدُم رمضان من جديد ثم يمضي ونصنع معه صنيعنا مع سابقه.

نعم حالة كورونا ليست حالة سعيدة ؛ والدروس يأخذها ابن آدم مما يصيبه من شر وخير {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}ولن أقف لتعداد الدروس التي استفدناها أو التي ينبغي أن نُوَطِّن أنفسنا للاستفادة منها في هذا الظرف الذي وَضَعَنَا فيه فايروس كورونا فكل منا لديه وعاؤه الذي يسجل فيه فوائد زمانه ؛وقد كَثُرَت الكتابات التي تحدث أصحابها عن دروس كورونا ، وهي كثرة مريحة لأنها تطمئننا بأن الحدث محلُ استيعاب الجميع،ودروسَه محلُ عنايتهم ، لكن الذي لم نطمئن إليه بعد هو مقدرتنا على منع أنفسنا وعائلاتنا من العودة بعد زوال الكربة إلى عيوبنا التي كشفها لنا الحدث ؛وأعتقد أن هذا هو التحدي الأكبر الذي كنا نفشل فيه مع انتهاء كل رمضان ، ويجب علينا أن لا نفشل فيه بعد نهاية عصر كرونا ؛فرمضان منحة إلهية تتجدد كل عام ، وإذا فشل بعضنا في التغيير هذا العام أو الذي يليه فلعله ينجح ولو بشكل جزئي في العام بعده، ثم يزداد النجاح عاماً بعد عام ؛لكن كرونا حدث فريد ومحنة من ابتلاءات المولى عز وجل من فضله علينا أنه لا يأتي بها كل عام، ونحن نتضرع إلى الله بسرعة كشفه ؛ لذلك فإننا إذا تعلمنا كثيراً من أخطائنا في حياتنا بواسطته فيجب أن نكون أقوياء وأقوياء جداً كي لا نعود لمقارفة تلك الأخطاء ، ويجب علينا أن نبدأ من الآن في رسم خريطتنا التي نعتزم السير عليها بعد عودة الحياة لما كانت عليه ،وأن لا ندع المجال متسعاً لتُفرَض علينا طرق عيشنا وتربيتنا وتعاملنا مع عباداتنا وعاداتنا .
وكما أن رمضان يدلنا على أشياء جميلة في نفوسنا ومجتمعنا من الاستعداد للصبر والبذل والتعبد والتواصل ، فإن هذا الوباء أيضا دلنا على كثير من الخير الذي نعيشه وربما لم نكن نعرف قدره .
وكذلك كثرت الكتابات التي تتحدث عنه، فتحدث كثيرون عن فضل الله علينا بهذه الدولة وكيف تجلى من علاقتها بالمواطن وعلاقة المواطن بها ما يكشف من فضائل هذا النظام الأبوي ما كانت تخفيه عن كثير من الأعين بهرجة دعايات النظم الديمقراطية وشعاراتها التي كشفت كورونا زيفها ، كما كتب كثيرون عن قدرات المواطنين المتميزة على التعامل مع الأزمات في جو من الرجوع إلى الله والتراحم والشعور بالمسؤولية إلى غير ذلك من جماليات جلَّتها الأزمة.
والتحدي الأكبر الذي ينبغي أن يكتب عنه أكثر ، هو كيف تكون محافظتنا على استشعارها والتزيد منها .

إن النجاح في حفظ مكتسبات المحن دليل النجاح في الابتلاء الإلهي لاسيما ما يكون منها في جنب الله سبحانه من مزيد الرجوع إليه والصبر على بلائه والالتزام بأمره ونهيه ، فإن ذلك هو العنصر الهام من عناصر استدرار المنحة بعد المحنة وهو أساس الإيمان والتقوى اللذين تحدث عنهما قوله تعالى ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِن كَذَّبوا فَأَخَذناهُم بِما كانوا يَكسِبونَ﴾ [الأعراف: ٩٦] اللهم أدم علينا الإيمان والتقوى وأدم علينا بركات السماء والأرض.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.