حزب النهضة وأسلمة العلمانية

تكبير الخط تصغير الخط

حزب النهضة وأسلمة العلمانية

لم تكن تونس في يوم من الأيام دولة علمانية

هذه الكلمة لن يتردد قارؤها في نسبتها للحبيب بورقبة أو زين العابدين بن علي أو من شاء من وزرائهما والمنظرين لهما , لكنه لن يفكر أبداً في أنها لواحد من أبرز قادة العمل الإسلامي السياسي في العالم العربي والذي ظل عقوداً طويلة يرفع وحركته شعار الحل الإسلامي وسُجِن هو وكثير من أتباعه في معركتهم السياسية الطويلة مع العلمانية .

صاحب هذه الكلمة هو الشيخ راشد الغنوشي قائد حركة النهضة التونسية وزعيم حزب النهضة التونسي الآن ، وأحد أعضاء الاتحاد الدولي للإخوان المسلمين ، قالها في مؤتمر صحفي عقده إثر إعلان حزب النهضة عدم عزمه على المطالبة بمادة تنص على مصدرية الشريعة للتشريع واكتفائه بالفصل الأول من الدستور القديم.

وفيما يظهر لي فإن هذا الصنيع بصرف النظر عن نية فاعله لا يخرج عن مشروع أسلمة العلمانية والذي أعتبِرُه أخطر مشروع فكري وسياسي قد يؤدي لى القضاء على فكرة الحل الإسلامي من جذورها.

والتنظير لهذا المشروع بدأ قبل أكثر من عقدين من الزمان وحمل لواءه عددٌ من المفكرين والناشطين الإسلاميين كان الشيخ راشد الغنوشي أصلحه الله تعالى أبرزهم وأشجعهم في إبداء آرائه التي عبر عنها في عدد من رسائله ومحاضراته ومن أهمها كتاب الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ولعلي أحيل في بيان مرحلة التنظير تلك عند الشيخ راشد الغنوشي خاصة إلى مقالة أستاذنا الشيخ علوي سقاف والمنشورة في موقع الدرر السنية بعنوان : فوز حركة النهضة والمفاهيم الإسلامية .

 أما التطبيق العملي لهذا المشروع فهو ما يُعِدُ له الشيخ راشد الآن في تونس , ونجاحهم فيما هم بصدده ربما ولستُ جازماً قد يكون خيرًا للناس في أمور دنياهم وأخراهم مما كانوا فيه من جورٍ وظلم وتغييب من عهد النفوذ العثماني مروراً بالفرنسي وانتهاء ببورقيبة وبن علي , لكنه مع قولنا باحتمال كونه خيراً مما سبقه  فإنه يتضمن خطراً فكرياً على مفهوم الدين وأثره في الكون والحياة , والتطبيق العملي لهذا المشروع في بلدٍ واحد من بلدان العالم كفيل بجعله أنموذجاٍ تتساقط تبعا له كل المشاريع الطامحة إلى الحل الإسلامي الصحيح .

وقد كنت كتبت قبل أيام مناشدة للعلماء والدعاة كي يبادروا لإقناع قيادات حزب النهضة التونسي بالعدول عن قرار الحزب عدم اعتبار الشريعة مصدراً للدستور واكتفائهم بالفصل الأول من الدستور القديم .

ولم تكن مناشدتي تلك لأنني لا أُقَدِّرُ ظرف النهضة ولا الظرف التونسي وصعوبته , بل إنني أُقدر ذلك أشد التقدير , وأعلم أن النهضة ربما تواجه معوقات داخلية وخارجية تحول دون تطبيق الشريعة كما تُحب[حسنَ ظن بهم ، وإلا فكلماتهم لا تدل على ذلك] ونُحب , لكنني أجزم أن الخلوص من هذه العقبات ليس في أسلمة العلمانية وتذويب الإسلام , ولو أن النهضة أعلنت أنها مضطرة للعمل وفق الشروط العلمانية , أو لو أنها سكتت عن نسبة برنامجها إلى الشريعة لربما وسعها العذر عندي وعند كثيرين أثنوا على النموذج التركي الذي لم يزعم لنفسه تطبيق الشريعة وهو الآن يعمل من أجل الإصلاح ما استطاع وفق المقتضيات العلمانية ،ولو أن الأتراك زعموا أنهم يطبقون الشريعة لما قبلنا ذلك منهم ولا حمدنا مواقفهم، فأفعال المضطرين مشروعة أحياناً لكنها ليست هي الشريعة .

وقرأتُ بعد ذلك عدداً من التوضيحات مكتوبة ومُسجَّلة من قياداتٍ ومنتمين للحزب توضح وجهة نظرهم وتُدَافع عن هذا القرار وأكرمني أحد الإخوة التونسيين يَكتُبُ من كندا في مجموعة عبدالعزيزقاسم بردٍ على دعوتي تلك ضمَّنَه أكثر ما هو مُتَداول بين قياديي النهضة من مبررات لهذا القرار وأخص منهم الشيخ راشد الغنوشي في حديثه عقب صدور هذا القرار , وفي عددٍ من تعليقاته على صفحته في الفيس بوك ,ورئيس الوزراء حمادي الجبالي ولاسيما في لقائه المطول على قناة العربية  فكان الرد على هذه الورقة الجامعة من الأخ ابن جماعة رداً بالضرورة على موقف حزب النهضة لأنه نقل تصريحاتهم بدقة تكاد تكون حرفية .

ملاحظتان إجماليتان:

والملاحظة الإجمالية الأبرز على ما ساقوله في هذا الصدد ولخصه الأخ محمد بن جماعة في رده : أن جميع ما ذكره وجميع ما يذكره المدافعون عن قرار النهضة  تبريرات وليست حججاً, وقد سماها الأخ الفاضل تعليلات .

والفرق بين الحجة والتبرير , هو أن الأولى تكون قبل القرار وهي الدافع الفكري والشرعي لاتخاذه، أما الأخرى فتكون بعد اتخاذ القرار كمحاولة لكبح تأنيب الضمير أو إقناع الرافضين للقرار .

 وسوف يبدو ذلك جلياً لمن سار معي في قراءة هذا الرد بإنصاف وتجرد مُقَدِّماً الحق على الخلق ؛وهو المظنون بأكثر المتابعين إن شاء الله تعالى .

الملاحظة الإجمالية الأخرى أنه يجب أن يضع الجميع في أذهانهم أن خلافنا حول مادة في الدستور , أي في الوثيقة التشريعية الأولى للدولة والتي الأصل فيها الدوام وليس خلافُنا في مادة في برنامج حكومة يفترض أن يتغير وتتغير الحكومة معه  كل بضع سنوات , والملاحظ أن كل ما هو مطروح من تبريرات رسمية وغير رسمية من حزب النهضة يشعرك بأن الخلاف في برنامج حكومتها  أو في نيتها أو في مواقفها العاطفية من الإسلام والشريعة ؛ مع أن الأمر ليس كذلك

فعدد من التبريرات  المنشورة تقدم لنا جوابا عن سؤال  لم يُطرح أصلاً ، وهو : كيف ستفسر النهضة الفصل الأول من الدستور القديم  “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، و العربية لغتها، والجمهورية نظامها”  فكثيرٌ منها يتحدث عن  مبادئ النهضة وأنها هي مبادئ الإسلام وعن سعة مفهوم النهضة للشريعة وأنها لن تقبل بما يخالف الشريعة وأن عبارة دينها الإسلام تؤدي المعنى نفسه لمصدرية الشريعة ،وأن لا اجتهاد فيما فيه نص ولا مشاحة في الاصطلاح ، وكل ذلك في نظري يُعبر فقط عن فهم النهضة للمادة الأولى من الدستور القديم ،ولا يجيب عن السؤال المطروح حقاً ،وهو كيف نحمي الدستور من أن يكون قابلا لتفسيرات عدة ، ونجعله في ظل أي حكومة تأتي مستقبلا لا يقبل إلا هذا الفهم الواحد وهو أن تطبيق الشريعة داخل في مضمون عبارة : والإسلام دينها.

حين يتضمن الدستور عبارة تَضمَنُ لنا هذا الفهم فلا خلاف بيننا ، لأن الدستور كما لا يخفى على كل من له صلة بالقانون وثيقة عليا تُصان عن اختلاف التفسيرات ، قدر الإمكان ، وأي مُذَكِّرَةٍ تفسيرية لا تصدر من الجهة التي أصدرته أو من المحكمة الدستورية فلن يكون لها اعتبار لأنها وثيقة  تُفَسَّر بها التشريعات فلا تفسرها أي وثيقة أقل منها درجة.

وبما أن عبارة الإسلام دينها قابلة لعدة تفسيرات ، بدليل أن حركة النهضة تحاول إقناعنا الآن بأنه لا يُمكن مخالفة الشريعة مع وجودها أي وجود النهضة على سدة الحكم ، والأحزاب العلمانية واليسارية لا تعترض على هذه العبارة لأنها في تصورها لا يُمكن أن تخالف برامجها العلمانية واليسارية ،بل إن العلمانيين واليساريين يفسرون هذه العبارة في المادة المشار إليها بأنها مجرد تعبير عن الهوية وليست معبرة بحال من الأحوال عن نظام الحكم ، أقول بما أنها كذلك فلا يصلح قانونيا الاكتفاء بها إن كانت النهضة حقاً صادقة في الرغبة في تطبيق الشريعة ولو تدريجيا وعليها أن تُضيف مادةً أو قيداً يمنع اختلاف التفسيرات.

 النهضة والمحكمة الدستورية :

تَعِدُ حركة النهضة على لسان بعض المنتمين إليها بأنها سوف تعتني بتصحيح هذا القصور في المادة لدى المحكمة الدستورية ، وهذا الوعد لا يُمكن الثقة به لأمرين :

الأول: أن النهضة لم تستطع الهيمنة على المجلس التأسيسي المسؤول عن صياغة الدستور , وهذا قبل كتابته فكيف تعدنا بالهيمنة على المحكمة الدستورية في دولة لا تشكل أغلبية في برلمانها ولا نعلم من سيتولى حقيبة العدل فيها , وهل الآخرون بهذه العفوية والبساطة حتى يتركوا المحكمة الدستورية للنهضة .

الثاني: أن هذا يناقض عددا من التصريحات العليا من قياديي النهضة والتي تفيد أنهم لن يطبقوا الشريعة رعاية لحقوق الأقليات والأجيال القادمة واستمع إلى هذا النص الذي نقله الأخ ابن جماعة “هذا الموقف دليل على تمسك النهضة بمبدأ احترام الأقليات وحقوق الأجيال اللاحقة، وأنها لا ترغب في استغلال أغلبية نسبية وظرفية تتمتع بها اليوم من أجل فرض توجهات دائمة على أقلية قد تكون ظرفية ولا على الأجيال اللاحقة” كيف نفهم أن النهضة تريد تطبيق الشريعة بالتدرج وأنها لا ترغب في استغلال أغلبيتها النسبية في فرض إرادتها على الأقليات والأجيال القادمة! 

قياس خاطئ :

 يذكر الشيخ راشد الغنوشي وغيره: أن هناك العديد من الدول التي تنص على الشريعة ولكن هذا لم يمنع إنتشار الفساد الأخلاقي والمادي وطغيان الحاكم وحاشيته. لذا فوجود النص لوحده لا يكفي.

والجواب عن هذا التبرير بَدَهي جدا , وهو أن الدول التي تنص على مصدرية الشريعة واحدة أو اثنتان أوثثلاث على الأكثر وقد سمى منها الشيخ راشد مصر واليمن ، وحالها في الحريات الحقوقية أفضل أضعاف المرات مما يزيد على أربعين دولة إسلامية لا تنص دساتيرها على مصدرية الشريعة وإن كانت  تنص على أن دينها الإسلام .

فإذا كان النهضويون تجنبوا مصدرية الشريعة لأنها لن تحميهم من الاستبداد قياسا على حالة واحدة أو حالتين ، فإن القياس سيكون أولى وأصدق على أربعين دولة تعاني من أقذر أنواع الاستبداد وتكتفي في الدستور بأن الإسلام دينها.

تناقض التبريرات:

 تحدثت في المقدمة عن التناقض الكبير في تبريرات الإخوة في حزب النهضة ، وأول هذه التناقضات يبرز حين تجد عددا منها يشرح كيف أن حركة النهضة تفهم عبارة: الإسلام دينها على أن الإسلام هو الشريعة وبذلك يكونون بفهمهم هذا لهذه المادة مطبقين للشريعة .

ثم نجدهم يسوقون تبريرات أخر ضد تطبيق الشريعة بل ترى أن تطبيقها سيؤدي إلى مشكلات كبيرة جداً ، في كلام لا يقل خطورة وسوءاً –للأسف – عن كلام جورج بوش- وانظر مثلا إلى مفهومهم للشريعة وقد نقله الأخ ابن جماعة في مقالته: ( الشريعة كما نراها في حركة النهضة: هي عقيدة الإسلام، وعبادات الإسلام، وأركان الإسلام، وأخلاق الإسلام، وقوانين الإسلام.. وليست الشريعة كما يتصوره (أو يصوّره) البعض: نظام عقوبات زجرية ضد الناس، أو يتم تخويفهم بها.)

فالشريعة عند الحركة شاملة للعقيدة والعبادات والمعاملات والقوانين الإسلامية , وهذا مفهوم صحيح للشريعة تريد الحركة أن تقنعنا أن العبارة : الإسلام دينها، شامل له  وتريد أن تطبقه في فترة حكمها.

لكن هذا يناقض ما أورده الأخ ابن جماعة في مقاله وهو نص كلام الشيخ راشد الغنوشي

“التعويل على القانون أنه سينشر الاسلام والفضيلة هو تعويل واهٍ.. نعتبر أن الإسلام مبني على الحرية لأننا لا نريد إنتاج منافقين ، وبالتالي يجب أن يمثل القانون القيم السائدة في المجتمع. ولا قيمة لقانون اذا لم يرتكز على رأي عام واسع”

فالقانون الإسلامي لا يعول عليه في نشر الإسلام والفضيلة

والقيم السائدة في المجتمع هي التي ينبغي أن يُمَثِّلها القانون وليس الشريعة ،وتطبيق الشريعة سوف ينتج منافقين ، ولا قيمة لأي قانون مالم يرتكز على الرأي العام وليس الشريعة! 

قارن تلك العبارة  بما ينقلونه من تبريرات.

أعتقد يا أخي القارئ أن التناقض متضح الآن , فأي الكلامين نُصدق ؛ هل ما يقولونه عن فهمهم للشريعة وشمول المادة الدستورية لها أم هذا الكلام الذي كرره زعيم الحزب في مناسبات عدة ؟

وهو كلام لم يجرؤ أي ليبرالي أو ماركسي على البوح به ، مع يقيني بأن كثيراً منهم يعتقده ،ولو قال المنصف المرزوقي يوما إن تطبيق الشريعة سيؤدي إلى النفاق لثار عليه العالم الإسلامي بأسره كما ثاروا على بابا الفاتيكان عندما قال كلاماً هو أقل منه بمراحل , قال البابا : إن الإسلام انتشر بالسيف ، فضج العالم بأسره ، واليوم يقول زعيم حركة إسلامية إن تطبيق القانون الإسلامي لا يرتقي بالأخلاق ولا ينشر الإسلام بل يؤدي إلى النفاق.

    إن كل من يرضى عن هذا الكلام على دينه ليس محباً حقيقياً للدين ، أقول هذا جزماً، وللأسف رأيت الراضين عنه كثر في العالم الإسلامي لا لشيء إلا أنه صادر من الشيخ راشد الغنوشي .

ما أقبحنا حين نرضى بإهانة الدين ممن ينتسبون إليه .

ومن التناقضات في تبريرات النهضة  قولهم  التالي وقد جعله ابن جماعة التبرير الأول : “كلنا في النهضة نؤمن بالشريعة.. ولا أحد منا لا يؤمن بالشريعة الإسلامية.. لأن الشريعة هي اسم ثان لوصف الإسلام.. ولكن هذا المصطلح ملتبس على الناس.. وطالما أنه ملتبس، فقد ارتأينا عدم إدراجه حتى لا نضطر بعض التونسيين للقول بأنه ضد الشريعة”

فواضح من هذا القول أنهم يريدون تطبيق الشريعة لكنهم يكتفون في الدلالة عليه بعبارة : الإسلام دينها , ومما يمنعهم من ذكر الشريعة التباس هذا المصطلح ،ولكي لا يوقعوا التونسيين في الممنوع الشرعي .

وعدد من التبريرات التي نقلها ابن جماعة لا يخرج عن هذا المعنى بل كان سرده لهن عبارة عن تكثير وتكبير لا أكثر ولا أقل , ومن ذلك قوله :”إذا كان الإسلام هوية الدولة فإن الشريعة جزء من الإسلام لذا لا يجب بالضرورة التنصيص على الخاص إذا كان مشمولا في العام”

وهذا القول جميل لولا أمرين : الأول ما قدمته من ضرورة الوضوح في الدساتير وعدم الاكتفاء بفهم حزب واحد لمواده، الآخر : أنه كلام مناقض لتصريحات أخر وردت عن قيادات النهضة وعن زعيمها الشيخ راشد  ومن ذلك ما أورده الأخ ابن جماعة : “هذا الموقف دليل على تمسك النهضة بمبدأ احترام الأقليات وحقوق الأجيال اللاحقة، وأنها لا ترغب في استغلال أغلبية نسبية وظرفية تتمتع بها اليوم من أجل فرض توجهات دائمة على أقلية قد تكون ظرفية ولا على الأجيال اللاحقة”

إذاً ليست هناك نية لتطبيق الشريعة وذلك احتراما للأقليات والأجيال القادمة!

وهذا من أعجب العجب , فبدلاً من أن نهيء المناخ الشرعي للأجيال القادمة نحترم وجهة نظرهم التي نفترض أنها ضد الإسلام ، ولماذا تفترض أن وجهة نظر الأجيال القادمة ضد الشريعة ولا تفترض أنها ضد العلمانية ؟

ثم اقرأ التبرير التالي وأجبني : هل يقول به من يريد تطبيق الشريعة على أنها داخلة في مضمون عبارة : الإسلام دينها؟

ينقل الأخ ابن جماعة هذا التبرير: “لا أحد ينكر أن هناك نسبة كبيرة من الشعب تطالب بالشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع وهذا من حقها الديني والديمقراطي.. ولكن لا ينكر أحد أن هناك نسبة من الشعب التونسي التي لديها تخوفات من هذا الأمر بسبب عدم الفهم الصحيح لمبادئ الشريعة السمحة بسبب حملات التشويه المتواصلة ، لذا فالأولوية ليست في فرض الشريعة على هذا الجزء من شعبنا لأنه (لا إكراه في الدين) ولكن الأولوية هي في إيجاد أرضية دنيا مشتركة بين شعبنا والعمل على إشاعة الفهم الصحيح للشريعة” 

إذاً ففرض الشريعة على من لا يريدونها ليس هو الأولوية ، بل الأولوية هي فرض العلمانية على من يريدون الشريعة لأنه لا إكراه في الدين ، لكن لا بأس بالإكراه في التخلي عن الدين, ،أليس هذا هو منطوق هذه العبارة وليس مفعومها؟

أين هذا القول من أقوالهم في أن الدين يشمل الشريعة وأنهم يقصدون إلى التدرج في فرضها.

مبدأ التدرج في تطبيق الشريعة:

معظم قيادات النهضة بل وقيادات الإخوان المسلمين كافة  إن لم نقل كلهم يتحدثون في هذا السياق عن مبدأ التدرج في فرض الأحكام الشرعية ، ويوافقهم على ذلك جميع المتعاطفين مع حزب النهضة من داخل تونس وخارجها، والكل يستدلون بالتدرج في تحريم الخمر ويرون أنه نص قاطع في إقرار التدرج في فرض أحكام الشريعة ، وأن الأولوية هي لتوضيح المفهوم الصحيح للشريعة وإزالة اللبس المثار حولها وبيان حقيقتها.

وهنا يجب أن نقف وقفات:

الأولى: على التسليم جدلاً بصحة قياس حال الشعب التونسي المسلم منذ ألف وأربعمائة عام على حال حديثي العهد بالإسلام في المدينة ، فإن التدرج لا يُمكن تصورُه دونَ أن تكون الشريعة هي مصدر الأحكام والتنظيمات ، وقد كان التدرج في تحريم الخمر تحت مرجعية كاملة للشريعة لا نزاع في ذلك ،كما كان التدرج في فرض أحكام الإسلام على يد معاذ بن جبل في اليمن في ظل هذه المرجعية أيضا.

أما في ظل غياب هذه المصدرية تحت شعار الحرية وحق الأقليات وحق الرافضين لمصدرية الشريعة وحق الأجيال القادمة التي يََفترِض الإخوة للأسف أن لا يكونوا مقتنعين بالشريعة ، فإن التدرج مستحيل ، لأن مرجعية الحرية سوف تحول قطعاً دون أي تدرج في هذا السياق .

الثانية : لقد كرر الإخوة في النهضة عبارة لا اجتهاد مع نص قطعي ، وهذه مُسَلَّمَة من مسلمات أصول الفقه ،والواجب عليهم مراعاتها لاسيما وأنهم يستندون إليها كثيراً في التأكيد على إسلامية منهجهم ، وهنا سوف أذكرهم بعدد من النصوص القطعية في صحتها وفي دلالتها وآمل أن تكون محل اعتبارهم إذا كانوا جادين في أخذهم بهذه القاعدة, 

( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) المائدة: ٤٤

ومن الآية التي تليها ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) المائدة: ٤٥ وبعدها بآية  ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )  المائدة: ٤٧ 

ولا أعلم ما هي النصوص القطعية التي لا اجتهاد معها إن لم تكن هذه النصوص قطعية في دلالتها كما هي قطعية في ثبوتها ، وكلها جاءت في سياق ذم أهل الكتاب الذين تركوا الحكم فيه بدوافع من التاأويل الذي سماه القرآن : هوى ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يتبعه.

والجدير بالتنبيه هنا : أن هذه الآيات    مما استدل به سيد قطب وسعيد حوى وغيرهم من قادة الإخوان على تكفير جميع الحكام المسلمين ، فكيف أغفلتها النهضة هنا ولم تجعلها من النصوص القطعية ؟!

أم هي سجية التطرف إما ذات اليمين وإما ذات اليسار لدى مفكري الإخوان!

ثالثا: كرر الإخوة في النهضة أن عدم الإجماع على الشريعة أحد أهم مبرراتهم في عدم النص على مصدرية الشريعة ، وعبروا عن ذلك بطرق مختلفة ذكر الأخ ابن جماعة بعضها ومنهاقوله:”هناك إجماع في الشعب التونسي حول البند الأول الذي يحدد هوية الدولة ولغتها ولكن ليس هناك إجماع على موضوع الشريعة بسبب حملات التشويه والمفاهيم المغلوطة عن الشريعة.” وهذا الفهم تَرُدُّه نصوص شرعية كثيرة أكتفي منها بالنصوص القطعية لكثرة ما كرروا أنه لا اجتهاد مع نص قطعي لعل في تذكيرهم بها ما يعيد الأمور إلى نصابها 

( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )  المائدة:٤٨

فالآية تنص نصا لا إشكال فيه على أمرين :

1-وجوب الحكم بما أنزل الله على من يعيش تحت الحكم الإسلامي ولو كانوا مخالفين له كيهود المدينة .

2-لا عبرة بكثرة أهل الأهواء المخالفين للشريعة أو قلتهم، ثم يأتي هذا النص بعده

( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون )  المائدة:٤٩

ومما يضيفه من الدلالات القطعية

1-التحذير من الانصراف عن بعض الشريعة .

2-أن الانصراف عن بعذ الشريعة فتنة.

3-أن الأمة حين ترفض جزءاً ولو يسيرا من الشريعة فإنها مؤهلة للعقاب الرباني .

الأغلبية النسبية والتخويف من الشريعة:

ذكر الشيخ راشد الغنوشي أن النهضة لم تحصل سوى على أغلبية نسبية وهي 42% وهذه النسبة لا تمكنها من إضافة تطبيق الشريعة, وهذا التبرير في تقديري ليس وجيهاً؛لأن الحركة لو حصلت على الأغلبية فلن تغير موقفها من الشريعة ، أعرف هذا من مراجعة أدبيات الشيخ راشد الغنوشي وكتاباته العديدة عن الحريات والسياسة الشرعية وسيادة الأمة ، ويمكن أن أضرب للقارئ الكريم بمثالين من أقواله ، وأترك الفرصة للقارئ كي يجيب: هل من يقول مثل هذا الكلام يطمح إلى تطبيق الشريعة ؟ 

يقول الشيخ راشد :”إن أول ما يتعين تأكيده في هذا الصدد, هو أن حركتنا هي حركة إسلامية سياسية ذات طموحات تغييرية تنموية شاملة تسعى إلى تأصيلها بما يتلاءم وقيم الأمة الحضارية وتجتهد في تحقيقها استناداً إلى الشرعية الجماهيرية فهي بهذا المعنى ليست حركة دينية تجتزئ نظرتها للإسلام وتحتكر الحديث باسمه , وتستمد شرعيتها من سلطة غيبية متعالية تفرض التسلط والاستبداد باسمها وتصادر حريات المخالفين العامة والخاصة من أجل السيادة ” الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص55

وقال في لقاء ٍ معه:”التوجه إلى هرم السلطة مبدأ عندنا، والإسلام بوصفه مشروعاً سياسياً لا يختلف عن غيره من المشاريع الأخرى، من حيث إنه لا شرعية له إلا ما يستمده من قبول الجماهير” العلمانية والممانعة الإسلامية لعلي العميم ص24 دار الساقي.

 ولهذا تركت النهضة فرصة التحالف مع شركاء إسلاميين ومستقلين كان يمكنها بالتحالف معهم تحقيق الأغلبية التي تمكنهم من المطالبة بالنص على الشريعة مصدراً للتشريع ، لاسيما وأن العريضة الشعبية قد أعلنت عن استعدادها للتحالف مع النهضة وذلك على لسان مؤسسها الدكتور محمد الهاشمي الحامدي برنامج البيان التالي في قناة دليل في الثامن من ذي الحجة سنة 1432هـ .

ولا يزال موقف النهضة غير مفهوم في ترك التحالف مع من يضمنون لها أغلبية تؤهلها للمطالبة بتطبيق الشريعة مع تكرارها الاعتذار عن ذلك بنسبة 42%

لكن الذي يزعج أكثر هو الخوف من الشريعة والتخويف منها والذي ورد على لسان الشيخ راشد الغنوشي وغيره من القيادات عدة مرات, فمرة يرون أن هناك احتمالاً من أن يؤدي تطبيق الشريعة إلى التطرف والتشدد، وهذا الاحتمال هو عينه الاحتمال نفسه الذي يقدمه الغرب كمانع له من القبول بفكرة تطبيق الشريعة في بلد إسلامي, ومما يؤسفني جداً أن ابن جماعة نقله دون تحفظ في مقاله ، والسؤال الذي أطرحه لكل مسلم : ماذا ستقول لو قرأت هذا التبرير دون أن تعرف قائله, هل ستنسبه لجورج بوش مثلاً.

ومرة يقولون إن الشريعة ستؤدي إلى انقسام الشعب التونسي , والسؤال المقابل : ألا يرون أن عدم تطبيقها سيؤدي إلى انقسام الشعب التونسي أيضا؟

الشعب التونسي لا يعرف الشريعة  :

الشعب التونسي لا يعرف الشريعة ويمكن أن يصوت ضدها وتريد النهضة حمايته من الكفر.

والسؤال هنا : من لم يختر الشريعة جاهلا بها هل يكفر؟

الجواب : لا.

إذاً لماذا تصر النهضة على اختيار الرأي التكفيري في هذا الظرف السياسي مع أن علماءها لا يتبنونه في المحاضر العلمية .

هل النهضة منظمة تكفيرية ؟

الجواب : لا.

فكيف يقول الشيخ العنوشي إنه يحمي بعدم اختياره الشريعة شعبه التونسي من الكفر.

الجواب : لا أعلم , كما لا أعلم سر العمل بدليل سد الذرائع في هذه اللحظة بالذات ، وإذا كان مبدأ سد الذرائع مقبولاً هنا فلماذا لا يقبلونه في مجال الأخلاق والآداب العامة وغيرها، أم للقبول أوقات وللترك مثلها؟ هداهم الله على كل حال.

إن عدم معرفة الشعب التونسي بالشريعة على التسليم الجدلي بهذه التهمة الشنيعة , ليس علاجه في حرمانه أجيالاً قادمة من تطبيقها ،بل علاجه في أن تًطبق ليزول خوفه منها ويعلم كذب كل دعوى مغرضة تصادمها.

وفي ختام هذه الورقة أترككم مع هذه الآيات القطعية والتي يذكر النهضويون أنه لا اجتهاد معها

( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) ( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ) ( هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون)

محمد بت إبراهيم السعيدي

ولمن أراد الاطلاع على مقال محمد بن جماعة

https://groups.google.com/forum/#!searchin/azizkasem2/رد$20ابن$20جماعة$20السعيدي$20كندا$20%7Csort:date/azizkasem2/1rypgsUuYdA/aB0cL1FG6A4J

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.