آخر الأخبار
لماذا لا أكون مسلما ليبراليا
د. محمد بن إبراهيم السعيدي:
لماذا لا أكون مسلماً ليبرالياً؟
هذا سؤال يطرحه رجلان:
أحدهما: مؤمن بالليبرالية يلقيه مقرراً, والآخر مناهض لها يسوقه منكراً, فالأول يقول: إن الليبرالية توجُّهٌ فكريٌ وأخلاقي لا يتنافى مع روح الإسلام إلاّ في أجزاء من نسخته الغربية، ويمكننا أن نصنع منه نسخة أخرى متوافقة مع الشريعة الإسلامية, وكما ساغ لنا أن نتكلم عن اقتصاد إسلامي وسياسة إسلامية وإدارة إسلامية، فلا بأس أيضاً أن نتكلم عن ليبرالية إسلامية!!
ويقول الآخر: الإسلام دين كامل شامل لجميع أوجه الفكر والحياة، لا يستوعب توجّهاً مغايراً إلاّ إذا صنعنا منه نسخة أخرى, ولا يجوز في الإسلام أن نستخدم نسخة غير أصلية.
أما من يقف بين هذين الرجلين ويتساءل: إلى أيهما يتجه؟ فهو ينطلق في تفكيره من مسلمتين, إحداهما: كمال الدين الذي يشمل مفهومه كل توجه فكري أو أخلاقي لا يتناقض مع تعاليمه حالاً, أو مآلاً, يسير ضمن موكب الإسلام وينتهي إلى حيث ينتهي. أما إذا خالف هذا الموكب في أي مرحلة من طريقهما فهو توجه غير إسلامي، وإن وافق الإسلام عرضاً في بعض الطريق.
ومبعث هذا التسليم آيات قاطعة في دلالتها على أن كل مخالفة لتعاليم الدين تُعدّ معصية سواء أكانت تلك التعاليم فيما يتعلق بالمقاصد، أم الشريعة، أم مصادر التلقي، أم مناهجه، وذلك من أمثال قوله تعالى: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) وقوله: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). [الأنعام:153].
المسلمة الأخرى: أن مفهوم الدين لدى هؤلاء يتسع لكل تصرفات الإنسان من حين يستيقظ إلى أن يعود إلى نومه مرة أخرى، بل إن النوم أيضاً يدخل في الدين من باب النية والاحتساب, وحتى الجهد الفكري وسائر العمل غير المنظور لا تخرجه عن الدين شدة خصوصيته وعدم مساسه بالآخرين، ويستمسكون بآيات قاطعة في دلالتها على هذه الحقيقة كقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). [الأنعام:162-163] وقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ). (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً). [الأنعام:114] (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً). (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ).
فالدين عبادة، والإنسان لا يخرج عن وصف العبودية بحال من الأحوال, فهو إما عبد لله اختياراً, كالمخاطبين بقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً). [الفرقان:63] أو عبد لله اضطراراً كما في قول الله تعالى في الحديث القدسي: “أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر”.
فإذا كانت الليبرالية الإسلامية -كما يقولون- تنطلق من هاتين المسلمتين, ولا تتعارض مع حكم آخر من أحكام الشريعة فقد انحصر الخلاف بين الفريقين في استخدام المصطلح، وهو خلاف مآله إلى الزوال.
فهل الليبرالية كذلك؟
التعريفات الكثيرة لهذا التوجه الفكري لا تخدمنا في الوصول إلى نتيجة لما نحن بصدده؛ لأن هذه التعريفات تنطلق من الأصل اللغوي للمصطلح وهو الحرية، وبذلك لا يمكن الجزم بمعاداة هذا التوجه للدين أو موافقته له من خلال التعريف فقط, وبرأيي أن من يحاول معاداة الليبرالية من خلال تعريفاتها وحسب، لن يكون موقفه أكثر قوة من ذلك الذي أحبها من أجل التعريف وحده؛ لأن كليهما قادر على تأويل التعريفات كما يهوى.
والصواب في فهمنا لليبرالية وموقف الإسلام منها: أن ننظر في أصل نشأتها وواقع روّادها في أرضها التي ترعرعت عليها.
ولا يخفى على مطلع أن أصل نشأتها: الثورة على ربط الفكر الإنساني بنصوص الكتاب المقدس –التوراة والإنجيل– بعد أن أصبح الدين ورجاله عائقين عنيدين أمام التطور الفكري والسياسي والاقتصادي, لاسيما وقد اكتسبت تفسيرات الكنيسة الإنسانية صفة مقدسة، أدت إلى الحكم بالموت على كثير من العلماء والمفكرين لمخالفتهم هذه التفسيرات.
إن حكاية هذا المخاض لليبرالية حري وحده أن يجعلنا نتوقف كثيراً قبل أن ننسبها إلى الإسلام أو أن ننسب الإسلام إليها؛ إذ لا يسوغ بحال ذهابنا إلى تحرير الفكر من تعاليم القرآن وتفسيراته النبوية؛ لأن هذا التحرر خلاف مقتضى الاستعباد المطلق لله -عز وجل- والذي من معالمه أن يكون النص القرآني منطلقاً ومآلاً لكل مفكر إسلامي, وكل ثمرة فكرية تتعارض مع المحكمات من كتاب الله تعالى تُعدّ في نظر الإسلام فاسدة (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً). [النساء:65]. (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). [الأعراف:35]. (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى). [123-126]. (المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء). [الأعراف:1-3] وروى الترمذي بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ستكون فتن” قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: “كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله..”. (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). [الجاثية:18].
وكثيرة هي النصوص الدالة على فرضية الالتزام بالقرآن الكريم فكراً وعملاً، والتي لا يمكن معها أن يكون إسلامياً من يقول بتحرر تفكيره عن نصوص هذا الكتاب الحكيم.
أما روادها الأوائل من أمثال: (جان جاك روسو) بفرنسا و(إيمانويل كانط) بألمانيا و(آدم سميث) و(جيرمي بانثام) بإنجلترا فكان هذا هو منهجهم في التعامل مع نصوص كتابهم المقدس، على تفاوت درجاتهم في التدين الذي يختلفون معنا في مفهومه.
فالدين في نظر رواد الليبرالية الأوائل محكوم بالعقل الفردي، فما لا يمكن أن يستجيب له عقلك لا يمكن أن يكون ديناً، بل لا بأس عليك لو لم يستجب عقلك لفكرة الدين أصلاً.
أما نحن فلا نؤمن أبداً بتعارض بين العقل والشرع، وإذا تقرر في الشرع أمر فلا يسأل العقل عنه إلاّ من باب التدبر والسعي وراء الحكم والمقاصد؛ لأننا نؤمن أن ما يظهر من خفاء بين العقل والنقل أمر مؤقت، وأن تجليه أمر محتوم يظهر بالتدبر الذي أمر الله به في كثير من آيات كتابه الحكيم (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). [محمد:24]. (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً). [النساء:82] وليس الأمر بالتدبر مقتصراً على طائفة من الناس دون أخرى، بل التدبر واجب خوطب به الجميع من علماء وغيرهم، لكنهم مطالبون باستصحاب التسليم بصدق القائل، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
بل لا يمكن أن نرى الخلاص الأخروي والدنيوي بدين غير الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ). (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). [آل عمران:85].
وبكل ما تقدم نصل إلى أن الليبرالية في أصل منشئها -وكما أراد لها روادها الأول في ديارها- تتعارض كلياً مع مسلمات الإسلام، فهل عند دعاة الإسلام الليبرالي فهم آخر لها؟
لأحد أن يقول: إن الليبرالية في أصل نشأتها أيضاً دعوة صادقة للحرية الفكرية والعناية بالفرد وحماية حقوق الإنسان، وهذه مُثُل لا يمكن المنازعة في أن الإسلام قد دعا إليها، فإذا اجتزأنا هذه الخصال من الليبرالية، وضممناها إلى ما عندنا فقد سقطنا عندها على الإسلام الليبرالي وليبرالية الإسلام.
وفي هذا الكلام تناقض يدعونا إلى إساءة الظن بقائله، فهو إن كان يعتقد اشتمال الإسلام حقاً على هذه المثل، فأين الحاجة إلى الليبرالية؟
أما إن كان يرى الإسلام ديناً خالياً من هذه المثل مع مسيس حاجة المجتمعات إليها فقد انتقض على إحدى المسلمتين اللتين تقدم البرهنة عليهما، وهي كمال الدين والمصادق عليها بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً). [المائدة:3].
وخاتمة هذا المقال هي أنني أستطيع الآن الإجابة عن سؤالي الأول: لماذا لا أكون مسلماً ليبرالياً؟ بجواب واضح، وهو أنني لا يمكن أن أكون مسلماً وليبرالياً في آن معاً.
أنا متوافق معك علي ان الاسلام عنده جميع حلاول الحياه
ومن بتغا غير الاسلام ذل