آخر الأخبار
أثر التاريخ في نهضة الأمم
كثيرون بل هم فوق الحصر من كتبوا في كل جوانب التاريخ، أحداثه، وعِبَره، وسُنَنه، وأَعْلَامه، لكنني “أتحدث عن نفسي فقط” لا أعرف أحدا بحث بتوسع جانبا أراه مهمًّا من جوانب التاريخ، وهو أثره في نهضة الأمم وانحطاطها، وقد كانت لي قريبا من هذا المعنى محاضرة منشورة عبر مواقع التواصل عنوانها: “أثر التاريخ في أخلاق الأمم”، مما ذكرته فيها: أن الأمم التي لا تستحضر لها تاريخا مجيدا يصعب عليها أن تنهض أو تبني حضارة خاصة بها.
وأضيف في هذا المقال: أن الأمم التي يؤبه لها اليوم حضاريا، هي تلك الأمم التي كان لها أثر واضح ومكتوب في بناء الحضارة الإنسانية، كالصينيين واليابانيين والهنود والمسلمين.
وقد عرف مفكرو أوروبا الغربية هذه الحقيقة بعد احتكاكهم بالمسلمين في الأندلس أواخر القرن الهجري الأول، وفي الشام أواخر القرن الهجري الخامس.
ولما لم يكن للأوروبيين تراث حضاري يعبر عن أجناسهم ولغاتهم ودينهم وأوطانهم، اضطروا لانتحال تاريخ الرومان الغربيين المندثر رغم عدم توافقهم معه دينيا أو عرقيا، بل كانت العلاقة بين الرومان إبان سيادتهم وبين سائر الأوروبيين علاقة عداء مفرط وكراهية شديدة، كما يذكر ذلك الفيلسوف الفرنسي مونتسيكيو [تـ1755] في كتابه تأملات في تاريخ الرومان، بل إن روما التي سيطرت على حوض البحر الأبيض المتوسط قرونا عديدة لم تحرص على تصدير حضارتها لوسط أوروبا وشمالها بالرغم من وجودها العسكري هناك فترات محدودة لأغرض دفاعية وحسب.
ومع ذلك فقد بلغ من حرص الأوروبيين على انتحال الحضارة الرومانية، أن أطلقوا اسمها مضافا إليها صفة القداسة [الإمبراطورية الرومانية المقدسة] على عدد من ملوك وسط أوروبا ابتداء من أواخر القرن العاشر الميلادي وحتى أسقط هذا اللقب نابليون الأول 1806، ومن المفارقات الدالة على مدى حرص الأوروبيين على انتحال الحضارة الرومانية: أن الأباطرة الذين أُطلق عليهم رومان مقدسون كانوا من عائلات حاكمة مختلفة تنتمي غالبا للأمة الجرمانية التي كانت العامل الرئيس في إسقاط الإمبراطورية الرومانية الحقيقية.
ومن المفارقات أيضا: أن الحضارة الرومانية الغربية كانت وثنية، ومع ذلك لم يجد آباء الكنيسة حرجا في إضفاء وصف القداسة عليها لإثبات زعم انتمائهم إليها حضاريا.
كما حرص المفكرون الأوروبيون بشكل أكبر على انتحال التاريخ الحضاري الإغريقي، حتى إن حركة توما الأكويني [تـ1274م] التجديدية في التعاليم الكنسية كانت مبنية على محاولة مزج فلسفة أرسطو الإغريقية بالتعاليم النصرانية، وقد تم له ذلك، حيث أصبحت آراء أرسطو -خاصة فيما يتعلق بالطبيعة والفيزياء- من تعاليم الكنيسة المقدسة التي يحكم على مخالفيها بالهرطقة.
وحتى عصر التنوير الأوروبي الثائر على الكنيسة، كان عظيم الارتباط بالفلسفة الإغريقية، سواء ما كان منه متصالحا مع الدين أم ما كان مناهضا له، كل تلك الأفكار يسعى أصحابها إلى الارتباط بالفكر الإغريقي، وليس أدل على ذلك من أن قصة الملك أوديب الإغريقية رغم خرافيتها وسذاجتها كانت مصدرا لإلهام كثير من الفلاسفة الأوروبيين لنظريات متباينة حول القضاء والقدر والحرية، وكانت هي ركيزة نظرية العُقْدة في التفسير النفسي لسيجموند فرويد.
وفي عالم السياسة كانت فكرة الديمقراطية التي أطلقها الإغريق وفشلوا في تطبيقها هي هاجس فلاسفة الحُكم الأوروبيين والتي كان أول نجاح في تطبيقها فيما أظن في بريطانيا عام 1688 أي في أبعد نقطة من أوروبا عن اليونان ليست مكانا وحسب، بل وتاريخا ولغة وجنسا.
كل ذلك يشهد على أن الأوروبيين حينما عزموا على إيجاد روح النهوض الحضاري في نفوس أبنائهم وقادتهم لم يجدوا بُدًّا من ربط أنفسهم بأقرب تراث حضاري لهم، وإن كانت عوامل الافتراق بينهم وبينه من حيث التاريخ واللغة والجنس والدين بل والزمان والمكان بعيدة جدا.
تصور لو أن المفكرين الأوروبيين ربطوا أممهم بتاريخ شعوبهم -البريطان والغال والجرمان والدان والسلاف- التي ليس لها رصيد حضاري، هل كانت أوروبا ستنهض؟
الجواب: لا، لأن الأمة التي ليس لها ماض حضاري من الصعب أن تنهض.
المشكلة فينا كمسلمين أننا نملك تاريخا حضاريا أشد قربا لنا مما كان عليه الحال بين الأوروبيين والرومان والإغريق، بل إن بيننا وبين تاريخنا الحضاري القريب توافقا في الدين والجنس واللغة والمكان والزمان، فنحن دون منازع نتاج ذلك التاريخ الحضاري المجيد، وهو نتاج آبائنا، وبهذا الاعتبار فنهضتنا الحضارية في متناول أيدينا بشرط أن نُعيد أنفسنا لها، وذلك بإبراز تاريخنا المجيد في أبهى حلله وتقديمه لأبنائنا في صورته الإنسانية الحقيقية، وحين أقول الإنسانية، أعني أنه ليس ملائكيا خاليا من العيوب، بل هو تاريخ بشري تكثر فيه العيوب والأخطاء، لا لأنه فاسد وساقط وغير مشرف كما يصوره أعداؤه، بل لأنه في النهاية تاريخ بشري، وهو مع ذلك تاريخ رفيع عظيم يصلح بكل ما فيه من عيوب وجوانب قصور أن يكون وقودا لنهوض أمة.
إن ما فعله الأوروبيون حين جمّلوا وحسّنوا تاريخ الرومان والإغريق ليستنهضوا أممهم وقادتهم، نفعل نحن عكسه مع تاريخنا الذي هو لنا ونحن له ومنا ونحن منه، ولم ننتحله انتحالاً أو نأخذه ادِّعاء كما فعل الأوروبيون، فجانب كبير من الصراع الثقافي الحاضر في ساحتنا وبين شبابنا هو في تاريخنا، حيث نرى حملة شعواء على هذا التاريخ تسعى إلى تزييفه وتكريه الناس به وإسقاط هيبته وعظمته من النفوس، بشكل قبيح جداً لو استمر كما هو عليه الآن لن ينتهي الأمر إلا ونحن أمام جيل غير قابل للنهضة، لأنه لا يؤمن بامتلاكه تاريخا حضاريا، جيل يرى أنه عالة في الوجود على أمم أخرى تملك التاريخ والحاضر والمستقبل، وأنه لو أراد النهوض فلن يقوم إلا على نتاجها الأخلاقي والقيمي والمعرفي ودون ذلك لن يكون له أي وجود.
صناعة جيل كهذا تجري اليوم تحت سمعنا وبصرنا، وللأسف أيضا يسهم فيها بعض وسائل إعلامنا وكتابنا.
نجد مثلا هجوما على الدولة الأموية لا يقتصر على نظامها السياسي، بل على كل شيء فيها حتى يصل إلى اتهامها بتحريف الحديث النبوي وتعاليم الدين، ويصل الطيش بهذا الرأي إلى اتهامها بأنها وراء الفكر الداعشي. ولا يخفى أن الدولة الأموية هي أول دولة في تاريخ الإسلام بعد الخلافة الراشدة، وحين يتم إسقاطها بهذا الشكل فيعني ذلك إسقاط السنة النبوية التي بدأ حفظها وتدوينها في عهدها ،ونسقط الفتوحات العظيمة التي جعلتها أعظم الدول في التاريخ اتساعا، بل لنقل إننا نسقط بإسقاطها التاريخ الإسلامي كله، والذي تعد الدولة الأموية ببنائها الإداري والاقتصادي أساسا له.
ليست الدولة الأموية محور المقال وإنما مثال فقط لمشروع كبير ممنهج لتحطيم التاريخ الإسلامي كله وتصوير المسلمين أمام أنفسهم على أنهم نتوءات لا قيمة لها في تاريخ الإنسانية، مثلهم مثل شعوب أخر في هذا العالم لا تملك لنفسها تاريخا إلا في الأحافير التي يكتشفها الباحثون الغربيون في الغابات والأحراش وينسبونها إلى ما قبل ملايين السنين.
زادك الله من فضله شيخنا الفاضل
وفقك الله شيخنا الفاضل
معذرة دكتور : الدولة الأموية أول دولة إسلامية بعد عهد الخلافة الراشدة بحكم الثقافة لا بحكم المبدأ و القيم التي نادى بها الإسلام فهي ليست دولة راشدة لأنها لم تسير على عهد الخلفاء الراشدين في الحكم و السياسة حيث فيها من الأخطاء و العيوب ما يبعدها عن كونها دولة تسير على عهد الخلفاء الراشدين . ثانيًا : قولك أننا نسقط السنة النبوية بإسقاط الدولة الأموية قول مردود فتدوين السنة في العهد النبوي شيء و تصرفات الدولة الأموية شيء مختلف . فالسنة النبوية كانت معروفة و معلومة لدى المسلمين و من قام به أفراد بهم من الصلاح و الخير ما بهم فلا شك أن سلوكهم لا يعني سلوك الدولة الأموية . فكيف نسقط السنة النبوية إذا أسقطنا تاريخها ؟ شيء ليس منطقيًًا .