آخر الأخبار
بين نقد الرأسمالية والدفاع عنها
في ليلة قريبة سهرت مع كتابين أقرأ في أحدهما ثم أقرأ الفكرة النقيضة في الآخر، هذان الكتابان هما: الفجر الكاذب، أو أوهام الرأسمالية العالمية لجون جراي أستاذ السياسة في جامعة أكسفورد، وصدرت طبعته الثانية سنة 1999 ونقلها إلى العربية أحمد فؤاد بلبع.
والكتاب الآخر هو دفاع عن الرأسمالية للكاتب السويدي: يوهان نوربيرج، نقله إلى العربية سنة 2007 نور قباعة، وواضح أن الكتاب الثاني رد على الأول، فهو يتتبع النقاط التي انتقد بها الرأسمالية ويجيب عنها، والحقيقة أن كلا الكتابين شيقان، والأكثر إمتاعا وإشاقة أن تقرأهما معا.
خلاصة الكتاب الأول أن السوق الحرة التي نشأت في بريطانيا ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة وتمخضت عنها الليبرالية الرأسمالية، وغزت العالم تحت شعار العولمة، ولبست رداء الديمقراطية لتخفي تحته كل ويلات السوق الحرة وبلاءاتها، هي أُمُّ ما يعانيه العالم بأسره بطبقاته الثلاث من مشكلات اقتصادية وأخلاقية واجتماعية ومجتمعية وسياسية وعسكرية.
الكتاب أخذ شهرة عالمية كبيرة جدا، وكُتِب عنه الكثير مما يغنيني عن التعريف به، وفي تقديري أن سر هذه الشهرة يعود أكثر ما يعود إلى لغة الأرقام التي احتفى بها المؤلف ليؤكد نظرياته بلغة إحصائية ميدانية محايدة. مشكلة الكتاب أنه لا يقدم حلًّا، بل يصرح المؤلف بأنه لا أمل في الأفق، وأن ما على العالم سوى أن يترقب الكارثة.
أما الكتاب الآخر فواضح جداً أن مؤلفه الإسكندنافي متأثر بالوضع الاقتصادي لبلاده السويد وما جاورها، حيث لا تعاني بلاده من أكثر المشكلات الاقتصادية التي تعانيها دول كالولايات المتحدة وبريطانيا، فهي لأسباب كثيرة -كما يقول الاقتصاديون- ما زالت تعتبر من دول الرفاه الاجتماعي ولا تعاني مشاكل البطالة والدَّين العام، ولم يشعر مواطنوها كثيرا بآثار التضخم والاستهلاك على حياتهم، يتضح هذا من دفاعه الكبير عن الرأسمالية، وتقليله بشكل عجيب من كل ما تعانيه شعوب العالم بأسره من مشكلات، ومحاولة إرجاع ما يشتكي منه العالم من آثار الاقتصاد الرأسمالي إلى أسباب أخر، أهمها: عدم التطبيق الصحيح للرأسمالية، كما أن المؤلف لا يعبأ كثيرا بالمشكلات الأخلاقية التي ينسبها جون جراي إلى الاقتصاد الرأسمالي وتصدير العولمة، ولعل ذلك نتاج القداسة العظمى التي يُلبِسُها يوهان للحرية، ابتداء من مقدمة كتابه حتى نهايته. وكتاب دفاع عن الرأسمالية ليوهان نورينبيرج ينفي انسداد آفاق الحل الذي يفرضه كتاب الفجر الكاذب، ويرى أن التطبيق الصحيح للرأسمالية والحريّة بكل ما تحمله الكلمة من معنى هو الذي سيخرج هذا العالم من كل ما يعانيه من مشكلات.
والذي ظهر لي من قراءة كتاب يوهان أنه لا يرد بشكل علمي وواقعي على الإشكالات الخطيرة التي طرحها جون جراي، بل هو بشكل أو بآخر يريد من العالم أن يعود للوراء ليبدأ دورة الرأسمالية من جديد ويتلافى كل ما وقع فيه من أخطاء في تطبيقه الأول لهذا النظام الاقتصادي الذي ليس هو المشكلة، بل المشكلة في تطبيقه، كما يقول جراي.
وهذا الحل -على التسليم بصحة استنتاجي لرسالة الكتاب- غير ممكن واقعيا، هذا ما يظهر لي وأنا غير متخصص في الاقتصاد وإنما قارئ أبحث عن المعلومة وأحتاج إلى رؤية المتخصصين في ذلك. لهذا وبحثا عن رؤية متخصصة لدعم تصوري أو نقضه بحثت عن كتب تخاطب القارئ العادي -من أمثالي في هذا المجال- فلم أجد، وأنا أؤمن بشكل كبير بأن انتهاج العالم النظام الاقتصادي الإسلامي هو الحل لجميع تلك المشاكل، ولكنني للأسف لم أجد، -ولا أقول لا يوجد- كتابا يبين لنا ما هي السبيل أو الآلية التي يمكن للعالم أن يأخذ بها ليستفيد من الاقتصاد الإسلامي في حل مشاكله، بل أقول إن المخططين ومتخذي القرار في دول العالم الإسلامي التي تريد الخروج من أزماتها كمصر وباكستان والسودان، يريدون حلولاً عملية مبنية على المبادئ الاقتصادية الإسلامية ليخرجوا من المآزق التي يعيشونها، وقد عبر عن ذلك الدكتور حازم الببلاوي في كتابه “النظام الرأسمالي ومستقبله”.
والدول الإسلامية الناهضة اقتصاديا كالمملكة العربية السعودية وتركيا وماليزيا، تريد هي أيضا خارطة طريق إسلامية لتبني نفسها وتدخل في السوق العالمية دون أن تتأثر بمشكلات الاقتصاد الرأسمالي. للأسف لم أجد بحوثا معتبرة في هذا المجال سوى حديث كثير عن كتابات عديدة لاقتصاديين غربيين ورؤساء تحرير مجلات غربية اقتصادية متخصصة وكهنة في الكنيسة الكاثولوكية، كلهم يؤكدون أن المخرج الوحيد للعالم من مآزقه المالية هو الاقتصاد الإسلامي، ومن هؤلاء باحثة إيطالية اسمها لوريان نابليوني لها كتاب بعنوان اقتصاد ابن آوى، تؤكد فيه على أن المصرفية الإسلامية هي المخرج الوحيد من مشكلات المصرفية العالمية، وهذا الكتاب قرأت عنه كثيرا ولم أره.
إنني أدعو الباحثين في الاقتصاد الإسلامي أن يتجاوزوا مرحلة أسلمة المعاملات البنكية المعاصرة والتي بذلوا فيها جهودا مشكورة ورائدة، إلى كتابة مشاريع لأسلمة اقتصاد الدول، وأسلمة الاقتصاد العالمي، فمن الخطأ -في رأيي- أن يُقِر اقتصاديون عالميون بأن الاقتصاد الإسلامي هو الحل، ثم لا يجدون عندنا بحوثا سوى في الاعتمادات المستندية والضمان البنكي والقرض بفائدة وكيفية أسلمتها أو إيجاد البديل عنها وتكييفات هذا البديل الفقهية.
إن دولنا الإسلامية والعالم الذي يشتكي كما يقول جون جراي من مستقبل مظلم في ظل الاقتصاد الرأسمالي، يحتاجون إلى بحوث عريضة وعميقة ومتعددة وجريئة أيضا تتحدث بواقعية عن هذا الحل الذي يطلبونه.
إن دولتين إسلاميتين وهما ماليزيا وتركيا خرجتا من قائمة الدول الفقيرة المدينة إلى قائمة الدول التجارية الناهضة، وربما الدائنة، لكن المؤسف أنهما خرجتا عن طريق حلول رأسمالية قد لا تظهر آثارها السيئة الآن، وذلك بسبب أنهما لم تجدا أمامهما خارطة طريق جاهزة للنهضة عن طريق الاقتصاد الإسلامي.
من الحق أيضا أن نقول: إن الاقتصاد الإسلامي في حاجة إلى قوة مالية تتبناه ليثبت وجوده، كما كان نجاح الاقتصاد الرأسمالي كان بسبب قوى مالية جبارة، وهذا يُحتّم على دول إسلامية كدول الخليج أن تضع العودة بنفسها وبالعالم أجمع إلى الاقتصاد الإسلامي ضمن مشاريعها الوطنية والمشتركة، وأن تُدرج ذلك المشروع ضمن رؤاها وتطلعاتها المستقبلية.
السلام عليكم
الحقيقة إلتفاتة رائعة ومفيدة رغم أن فضيلتكم ناقش الجانب الإقتصادي فقط من الويلات التي تنطوي تحت رداء الديمقراطية.
ولو رجعنا إلى السوق الحرة وتَمَخّض اللبرالية عنها نتيجة نقلها إلى فضاء أوسع ، فلو ٱستمرت كما خطط في المنشأ لكانت أفضل كل الحلول الوضعية والأقرب إلى الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها.
والذي حال دون ذلك النخب الغربية صاحبة القرار في العالم ، لأسباب كثيرة منها الطمع وحب السيطرة،وأمها الخوف من الإقتراب من الإسلام الذي يسرّع في إكتشاف الإسلام ومعرفته.
وأذكر بقول سعود الفيصل رحمه الله.[ نحن سائرون بإتجاه اللبرالية ] قول لم يكن من فراغ.
أما فيما يخص الدول الإسلامية المهمة المملكة العربية السعودية وتركيا وماليزيا،فلا تزال تراوح محلها !!!
ببسطة لا تمللك المؤسسات ومعاهد البحوث إلى يومنا هذا !!! وهذا نتيجة أمور لا يمكن ذكرها في هذه العجالة.
أما دول الخليج كالإمارات والكويت وإلى حد ما عمان أصلا لا تفكر بهذا الباب مطلقا لأسباب كثيرة لا تخفى على متابع كفضيلتكم.
نسئل من الهداية .
والسلام عليكم ورحمة الله.
مساء الخير للابداع وللجمال
وللحرف الذي يجمع بينهما ?
جميل دكتور محمد،،
من وجهة نظري،،
تبدأ جذور الحل من خلال إعادة النظر في المقاصد الشرعية من تحريم بعض المعاملات المالية والتعمق في أصول وحكمة الأحكام المالية الشرعية،، وعدم الإقتصار على التطبيق العملي الظاهر للنص!
حتى نتجنب الوقوع في التحايل على بيوع العينة والغرر والقمار،،
ومن ذلك التعمق في فهم علل تحريم الربا!!
فهل من علل تحريمه-مثلاً- هو علة تسهيل الديون للناس! والتي تتسبب في سيولة موهومة؟ ومن ثم تضخم!
فإذا كان الأمر كذلك فإن أي محاولة لأسلمة المعاملات البنكية سينتابها خلل لأنها مبينة على الفلسفة الإستهلاكية الغربية والمبنية على الديون والمذمومة شرعاُ حتى ولو كانت بلا ربا.
ومثله يقال في التأمين والذي ضاعف النفَس الإستهلاكي وقضى على روح الإدخار لدى الأفراد واستغل حتى مجرد الخوف من الدَّين المستقبلي وصيّره سلعة تباع وتشترى،، وتسبب في تنصل الدولة من مسؤولياتها اتجاه رعاياها وقضى على روح التكافل الإجتماعي بين الأفراد،
ومثله القمار، فهل تحريمه مقتصر على صور مباشرة؟ أم أن هناك صوراً غير مباشرة فيها شبهة بالقمار مثل بعض المسابقات التي تقيمها بعض الأسواق والشركات التجارية؟!
وهل سنعيد التفكير بسوق الأسهم بوضعه الحالي؟ فنحجم من تسهيلات البيع والشراء اللحظية حتى لا تتحول صالاته إلى ما يشبه بصالات القمار!
بالطبع أنا هنا لا أجرؤ على تحريم الصور السابقة ولكني أدعو إلى مزيد بحث وتعمق في أصول التعاملات المالية الغربية والناجمة عن الفلسفة الإستهلاكية الرأسمالية،
وكذلك أدعو -كما تفضلت في مقالك- إلى إجراء دراسات علمية عميقة بهدف اقتراح مشاريع وحلول عملية إسلامية تعتمد على الرؤية الإسلامية اتجاه المال،،
الخلل أصاب بعض محاولات أسلمة المعاملات المالية المعاصرة لأنها جاءت تحت ضغط الواقع والهيمنة الإقتصادية والسياسية الغربية،
ولعل بداية العلاج تكون بإنشاء أوقاف خيريه ضخمة تدعم مراكز بحثية مالية ضخمة وتدعم مشاريع وبرامج عملية مالية مستقلة لا تتأثر بالضغط السياسي للحكومات ولا بالضغط المالي من البنوك،،
شكراً يادكتور محمد على الطرح ونحبط ان تدعوا اقتصادي الاسلام الى إيجاد نظريات اقتصادية إسلامية تقود العالم الى النجاة بارك الله فيك