آخر الأخبار
فلسطين واستراتيجية المقاومة
أتحفظ كثيراً على مصطلح المقاومة ، واستخدامي له في عنوان هذا المقال لا يعني إقراره ؛ والمصطلح الصحيح الذي لا ينبغي للمسلمين التنازل عنه هو مصطلح الجهاد ، الذي اختاره الله تعالى ليكون شعاراً لهذه الأمة ، تطلقه على رياضة الأنفس على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته ، كما في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم عن فضالة بن عبيد عن رسول اللهﷺ(وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ) كما تطلقه على الدعوة إلى الله ومُحَاجَّة الكافرين بكتاب الله تعالى ، كما قال عز وجل ﴿فَلا تُطِعِ الكافِرينَ وَجاهِدهُم بِهِ جِهادًا كَبيرًا﴾ [الفرقان: ٥٢]
وتطلقه على الرباط في سبيل الله ، كما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فيما رواه الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإن أفضل جهادكم الرباط وإن أفضل رباطكم عسقلان ) ومعنى الرباط كما يقول ابن قدامة المقدسي في كتاب المغني ٩/ ١٦٨:”الإقامة بالثغر ، مقويا للمسلمين على الكفار ؛والثغر : كل مكان يخيف أهلُه العدوَّ ويخيفهم”
وكذلك يُطْلَقُ على القتال في سبيل الله تعالى بالشروط المستنبطة من كتاب الله وسنة رسولهﷺ سواء أكان قتالاً للكافرين كما في قوله تعالى ﴿وَقاتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلونَكُم وَلا تَعتَدوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعتَدينَ﴾ [البقرة: ١٩٠] أو قتالاً للبغاة من المؤمنين كما في قول ربنا سبحانه﴿فَقاتِلُوا الَّتي تَبغي حَتّى تَفيءَ إِلى أَمرِ اللَّهِ فَإِن فاءَت فَأَصلِحوا بَينَهُما بِالعَدلِ وَأَقسِطوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ﴾ [الحجرات: ٩]
وقد شَوَّه هذا المصطلحَ ذا المعاني العظيمة جماعاتُ الغلو والتكفير والتطرف والجهالات ، وساعدهم على ذلك إعلام دولي وسياسات عالمية تدرك جيداً أن المصطلحات هي أوعية حضارات الأمم ومحرك وجداناتها ؛ وأن أعمق غزو حضاري لأمة من الأمم يكون بتحطيم المصطلحات التي تأسست عليها قِيَمُهَا وخصائصها ؛ وكان الجهاد بكل معانيه المتقدمة ومضامينه الأخلاقية التي لا أظنها توجد لثقافة أُخرى غير الثقافة الإسلامية من أخطر المصطلحات التي يحرص أعداء الأمة على تشويهها ، لاسيما وهو يحمل في طياته ذكريات عظيمة تتوقد في ذهن كل مسلم بمجرد أن ينطلق هذا اللفظ من لسانه أو يقع على مسامعه ؛ ذكريات الريات التي رُكِزَت على سور الصين وشواطئ الدانوب وسهول بواتيه ؛ وذكريات الانتصارات التي استعادت بها الأمة حياتها بعد أصناف من الغزو والاحتلال ، الزلاقة ، وملاذكرد ، وحطين ،وعين جالوت ، والمنصورة .
إن استجابة الأمة للتنازل عن مثل هذه المصطلحات لا يقل خطراً عن هزيمتها في معارك حاسمة ؛ وإن أولى شعب من الشعوب الإسلامية باستعادة هذا المصطلح العظيم هو الشعب الفلسطيني الذي كانت مؤسساته الرسمية من أوائل من أقدم على محاولة محو مصطلح الجهاد والمجاهد من الذاكرة الفلسطينية ؛ فكانت منظمة التحرير الفلسطينية تُطلِق على عناصرها المقاتلة لقب الفدائي بدلاً من لقب المجاهد وتُشِيعُه عالمياً وإعلامياً ؛ وحين تبنى التوجه الإسلامي الفلسطيني إنشاءَ حركة مناضلة ، قامت بتسميتها حركة مقاومة ولم تسمها حركة جهاد، وأعني بها حماس التي زادت علاقتها بإيران من تشويه المصطلحات الشرعية التي تدور على ألسنة إعلامييها ودُعاتها ؛ أما فتحي الشقاقي رحمه الله فقد كان ممن انخدع بدعاية الدجال الخميني، وهذا مما أضعف كثيراً من قبول حركته التي كانت الوحيدة الحاملة لمسمى الجهاد .
اليوم على الفلسطينيين أن يعيدو إحياء مصطلحين مهمين لتجديد حياة نضالهم .
المصطلح الأول الجهاد ؛ فمن المهم جداً تسمية كل ما يقومون به داخل فلسطين بالجهاد ، من إقامتهم فيها وصبرهم على ما يصيبهم من مصاعب داخلها ، وبيعهم وشرائهم واتِّجارهم ، ودعوتهم إلى سبيل ربهم ومقاومتهم لعدوهم ، كل ذلك ينبغي أن يعاد فيه إحياء هذا المصطلح .
المصطلح الثاني : مصطلح الرباط في سبيل الله ؛ فأهل فلسطين كلهم مرابطون ، ولهم إن شاء الله أجر المرابط في سبيل الله ؛ ولا يخفى على مسلم أن الرباط هو أعظم الأعمال أجراً عند الله تعالى كما جاء في حديث البخاري عن سعد بن أبي وقاص عن رسول اللهﷺ (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) وأهل فلسطين يرابطون أعمارهم كلها وليس يوما وليلة وحسب ؛ وحين يشعر الفلسطينون أنهم في عبادة عظيمة ما بقوا في تلك الأرض المباركة ، فإن همتهم في البقاء وعزمهم على مغالبة الصعاب سوف تزداد ، لأن قوة الإنسان على تَحَمُّل الصعاب تزيد حين يؤدي ذلك احتساباً لله عز وجل .
والجهاد الذي هو بمعنى صبر النفس على طاعة الله واجتناب معصيته من أعظم عوامل النصر ، وإن كان مما يلزم كل عبد مسلم في المشرق والمغرب ، فإن التزامه أشد تعيناً على المرابطين في ثغور الجهاد كالشعب الفلسطيني المرابط في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الانصراف عن الله من دواعي بقاء المصاب وتطويل الهزيمة ، قال تعالى : ﴿وَما أَصابَكُم مِن مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَت أَيديكُم وَيَعفو عَن كَثيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠]وقد أخبر الله عز وجل أن الإيمان وعمل الصالحات وإخلاص التوحيد والعبادة لله تعالى شروط لتحقيق وعده بالنصر ؛ قال سبحانه﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ [النور: ٥٥]
وفي ظني أن كثيراً من أبناء الصهاينة وأخص شبابهم غير المتدين قد تثمر فيهم دعوتهم إلى الإسلام ، فحجم الضياع والفراغ الروحي الذي يجدونه عظيم ويمكن استثماره في استجلابهم إلى دين الإسلام ، ففوق كون تبليغ رسالة الله إلى الخلق من واجبات المسلم ومن حقوق غير المسلمين على المسلمين ، فإنها أداة من أدوات الحرب التي لو تم استثمارها بشكل جيد سيكون لها ثمرة عظيمة في مجاهدة الباطل وإضعاف الدعاية الصهيونية .
أنتقل في نهاية المطاف إلى الجهاد بمعنى قتال العدو ؛ وهو في الإسلام مشروط بالإطاقة ، وعدم عدم عودته على المسلمين بضرر أكبر ؛ وهذان الشرطان ربما يكونان هما دافع كثير من الناس الذين ينتقدون الفلسطينيين حينما تبدر من مجاهديهم حالة إثخان في العدو وإن كانت يسيرة ؛ فيجيبهم البعض بأن ردة فعل الصهاينة ستكون مؤلمة جداً والخسائر فيها أكبر بكثير من المكاسب ؛ وربما لا يحقق الفلسطينيون مكاسب مطلقاً ولا يرجعون إلا بخسائر في الأنفس والأموال والأولاد .
هكذا يقول البعض ؛ لكن هذا الواقع وهذه المآلات التي يذكرونها لا تدعونا لإنكار حق الفلسطينيين في مجاهدة عدوهم ، بل علينا أن ندعوهم إلى ما المسارعة في عمل ما يجعلهم مؤهلين لهذا القتال مخيفين لهذا العدو ؛ من مثل السعي إلى جمع كلمتهم بدلاً من العمل على تشتيتها فوق ماهي مشتتة .
فالفلسطينيون اليوم ينقسمون سياسياً عدة انقسامات أشهرها ثلاث: فلسطينيو غزة وفلسطينيو الضفة وفلسطينيو الثمانية وأربعين ؛ وتحت هذه الأقسام أقسام متناحرة ؛ وكل قسم له تطلعاته ورؤيته واستراتيجيته التي تختلف عن الآخر ؛ وهؤلاء لم يوجد حتى اليوم مبادرة حقيقية لجمع كلمتهم بعد المبادرة السعودية في مكة سنة ١٤٢٨والتي لم يتم الوفاء بمتطلباتها من قبل الفصيلين الكبيرين فتح وحماس ، ولازال كل منهما يلقي باللائمة على الآخر ، وبعدها لم نُشاهد إلا مزيداً من دعم الشقاق بين الطرفين من قِبل بعض الدول العربية للأسف.
ودون اجتماع الكلمة يصعب التحدث عن جهاد يمكنه أن يقدم ثمرة حقيقية لقضية الأمة الإسلامية ، قضية فلسطين .
ومع ذلك فوقائع الجهاد التي يقوم بها الفلسطينيون بين الحين والآخر ، وإن كانت تؤتي ثماراً يظهر فيها طابع المرارة ؛ إلا أنها لا تخلوا من مصالح كبيرة قد لا تبدو أهميتها للكثيرين ، ومنها التذكير بالقضية العظمى وإيقاظ الضمير المسلم إلى العدو الوجودي الأول ؛ وفضح الكيان الصهيوني عالمياً ؛ وإرهاب الحالية اليهودية المقيمة في فلسطين ؛ وبث الإحجام عن الهجرة لدى اليهود في العالم .
كل هذه مصالح عظمى يمن بها الله تعالى عند كل حركة يتحركها الفلسطينيون وإن لم تعجبنا من باب الشفقة عليهم ونحن نتذكر ماحدث في جنين وفي غيرها على يد الإرهابيين الصهاينة .
كما أن الجهاد في فلسطين بكل معانيه المتقدم يحتاج إلى وضع خطة عملية تشتمل على رؤية مستقبلية مدروسة ، وتساهم في وضعها الدول والهيئات الإسلامية الداعمة لهذه بالقضية المقدسة ، وهذا مالا أعلمه قد وجد حتى الآن ؛ فلا أعرف مؤتمراً واحداً خلال الثلاثين سنة الماضية تم عقده بهدف وضع استراتيجيات للجهاد في فلسطين ، ولا أعرف سوى رؤى وأفكار يقدمها بعض المفكرين المعنيين بهذا الملف .
والله غالب على أمره.
د.محمد بن إبراهيم السعيدي
هذا المقال لا أشك في كونه من الجهاد الذي يمكن أن يقوم به من ليس من أهل فلسطين فأسأل الله أن يكتب للدكتور السعيدي أجر المجاهدين.