آخر الأخبار
أعيدوا إلينا بحرنا الفِطْرِي
قبل ما يزيد عن الأربعين عاماً بقليل ، وكنتُ إذ ذاك طفلاً، كنَّا نخرج إلى البحر صحبة أُسَرِنا ، ولم نكن نبتعد عن مدينة جدة كثيراً ، كنا بالتحديد نتجاوز قليلاً مصنع الإسمنت لنجد الشواطئ الفِطرية التي لم تعبث بها أصابع البشر ، فنجلس على التراب النظيف الأشقر الذي يشبه الزجاج في لمعانه ، ونشاهد الشُّعَب المرجانية ذات الألوان الساحرة لا نحتاج في رؤيتها والاستمتاع بها إلى الغوص والمشقة، فلم يكن يفصلها عنا سوى شبر من الماء إذْ كنا نستمتع بتدرج انخفاض البحر الأحمر الذي لا يشاركه فيه كثير من البحار ،فكان الطفل يسير في الماء مسافاتٍ قبل أن يصل الماء إلى منتصف جسده ، ولهذا لم تكن تقلق عليه أمُّه ،وكانت ترسله إلى البحر وهي في أجمل حالات الاغتباط والراحة، كما كنا نحس بالمد والجزر ونستمتع باكتشاف الفروق بين حالتيهما ، فحين تأتي الأُسَر إلى البحر أول الشهر وآخره يجدون الماء بعيداً فيستمتعون بالمشي إليه على أقدامهم مسافات بين الطحالب والشعب المرجانية الحادة ، أما حين توافق عطلتُهم الأسبوعية وسط الشهر ،فسيتمتعون بالخوض في الماء القريب والسباحة فيه والتقاط القوافع البحرية والصيد والارتماء أمام الموجات المتتابعة التي تتلاشى متبعثرة على الشاطئ الجميل .
لم تكن هذه المتع الجميلة خاصة بالرجال والأطفال ، بل كان للنساء حظهن الكبير ، فقد كان الشاطئ طويلاً متباعداً يأخذ الجميعُ فيه راحتَه بعيداً عن الأعين والأذى وملل الازدحام .
كانت كل تلك المتعة التي تبدأ مع ساعات الصباح الباكر ولا تنتهي إلا مع حلول الظلام لا تكلف الأسرة ريالاً واحداً ، وكنا نقيم اليوم كاملاً على الشاطئ الطويل نعيش حقيقة أن هذا البحر ملك لنا ورثناه عن آبائنا كابراً عن كابر .
كانت هذه هي الحقيقة فهو بحرنا وملكنا .
لكن بعد ذلك التاريخ بسُنيات بدأنا قليلاً قليلاً نفقد أجزاء من ملكيتنا الطبيعية على هذا الشاطئ ، وأصبحنا نزوره ونجد المنتجعات الصغيرة الخاصة على سِيفِه ؛ كيف وجدت؟ ولماذا؟ ومن أين أصبح هؤلاء مُلَّاكاً لضفة بحرنا دوننا ؟ لم نكن نعلم، وكنا من البساطة والطيبة بحيث لم نكن نفكر .
ومن يوم ذاك والسطو الرأسمالي الجشع وغير المنظم يمتد شيئا فشيئا على هذا الساحل البريء حتى تم إغلاقه كُلياً دون البريئين من أمثاله ، واختفت معالم الطبيعة ، وبلغ الجشع بمن لم يحجزهم ذلك الوقت وازعٌ ولا نظام:أن يدفنوا البحر كي يبيعوه أو يصنعوا فيه منتزهات مُتَكَلَّفة لا تريح النفس ولا تعيدها إلى صفائها وبساطتها وتواضعها ، بل متنزهات غليظة ، مابين منتجعات لا يطيق دفع تكاليفها إلا من يطيق دفع الآلاف أو يطيق اقتراضها ، وما بين أرصفة صماء بكماء وُضِعت لذوي الدُريهمات المساكين يزدحمون فوقها لتدور حولهم الخيل والحمير والبغال والعجلات النارية تزيد من قبح مجالسهم ونتانة رائحتها وتَلَوُّثِ هوائها،وتجبرهم على دفع ما بحوزتهم من دراهم معدودات ليركب أطفالهم هذه الحيوانات المتسخة والدبابات الخطرة ، بعدما حرمتهم هذه الأرصفة حتى من أحلامهم حين كانوا يبنون القصور والحصون والسدود وينسجون الأحلام على تلك الرمال النظيفة المتلألئة ؛ هذا سوى السيارات المتراصة والشوارع المزدحمة التي لا تزيد القلب إلا عناء وكمدا وقلقلا.
وليتهم وهم في هذه الحال يطيقون النزول في البحر واستنشاق هوائه الرطب ؛ أو رؤية شمسه الجميلة وهي تغرب !
لا ليس الأمر كذلك ، فنصيب كل أسرة من هذا الرصيف لا يتجاوز مكان جلوسها ، والازدحامُ خانق ، والخصوصية مفقودة ، وكل أم عيناها على أولادها ، فإنهم إن ذهبوا تجاه هذا البحر المحفور العميق غرقوا ، وإن ذهبوا تجاه طريق السيارات دُهِسوا وإن ساروا قليلاً فوق هذا الرصيف ضاعوا بين أكداس البشر ؛ فليس أمامهم من فسحة إلا هذا الحصير الذي جلبته أمهم معها لينحصروا فيه وتنحصر متعتهم على هذا الحصير في النظر إلى الرائح والغادي وفي أكل البليلة والذرة والآيسكريم .
هكذا غداً البحر اليوم ، ولن أظلم الأغنياء فأقول إن الاستمتاع به أصبح خاصا بهم ؛ بل حتى هم قتلت الرأسمالية الجشعة والإدارة غير المنظمة متعتهم ؛ فتلك المنتجعات أو ما يسمونها بالشاليهات التي تؤجَر يوميا بآلاف الريالات ، تم بناؤها وفق نظرية استغلالية تلصق المباني ببعضها لتختفي هناك متعة الراحة والانطلاق والاستمتاع بمنظر البحر ومائه ، ولا يبقى من شئ يعود به المنتزهون إلا الكبرياء الكاذبة والتفاخر المقيت [قضينا الويكند في شاليهات vib]هذا ما يعودون به ، أما النزهة الحقيقية التي تعيد لأنفسهم صفاءها وتواضعها وحيويتها وانطلاقها فهي عنهم أبعد من الثريا وأعز من الكبريت الأحمر.
هذه الخواطر وأكثر منها دار بخلدي وأنا أقرأ خبر اعتماد أميرنا الشاب مشروع جزر البحر الأحمر السياحية ، ولا أخفي سراً حين أقول: إن قلبي امتلأ بالمخاوف والآمال في آن معاً ، وتتبعت الأخبار فلم أجد ما ينفي هذه المخاوف ولا ما يصدق تلك الآمال .
تأملت أن نجد في هذه الجزر تعويضاً لنا عن بحرنا الفِطري الذي افتقدناه ، عندها سنشد الرحال في إجازاتنا الأسبوعية والشتوية والصيفية لنجد أمامنا وسائل نقل رخيصة أو مجانية تَعْبُر بنا وبسياراتنا البحر لنستمتع بعدها مع أطفالنا بشواطئ عذراء نمد أبصارنا في آفاقها فلا تقع إلا على ما يغمر قلوبنا بالانشراح فنسبح الله ونحمده ونثني على بديع خلقه ، وفي هذا المكان الذي تتجلى فيه عظمته سبحانه وبديع صنعه لا تصطدم أنظارنا بمظاهر معصيته ولا معاندة شرعه .
وحين يهدأ ليل هذه الجزر الفِطرية ننقلب وأسرُنا إلى مساكن نرضاها قِيمةً وجمالاً ونلقي بأجسادنا المتشوفة لِسَكَن الليل على فُرُشٍ ناعمة وثيرة نظيفة يتسلل إلينا فيها النوم مع نسيم البحر وصوته الفنان المهيب ، لا يخالطه صخب الموسيقى ولا منتديات اللهو ولا ضوضاء المدينة ، لا يوقضنا إلا تراتيل الأذان ينساب مع السَّحَر إلى قلوبنا قبل آذاننا لنغدوا إلى شاطئ البحر من جديد نُسَبِّحُ الله عنده بكرةً كما سبَّحناه عنده بالأمس أصيلا .
هناك تحوطنا بعد رعاية الله حكومتنا بأنظمة وتراتيب إدارية تحمي علينا قِيَمَنا التي رسخها فينا تديننا للخالق عز وجل من عبث أهل الأهواء ومغالطات من يُعْمِلُون حِيَلَهم لجلب المال ، ولو كان على جُثَث الأخلاق والآداب والقِيَم ، التي يُجردون لحربها سيُوف التأويلات لنصوص الشريعة ،وأكاذيب الحديث عن الحاجة والضرورة ﴿يُخادِعونَ اللَّهَ وَالَّذينَ آمَنوا وَما يَخدَعونَ إِلّا أَنفُسَهُم وَما يَشعُرونَ﴾
عندها حقاً تقدم للعالم شيئاً جديداً غاب عن البشرية في عالم السياحة منذ قرون ، وهو طاعة الله سبحانه حال الاستمتاع بعجائب ملكوته وبديع صنعه ولطيف تدبيره وتقديره .
حين نفعل ذلك فإننا نستجلب رضاه وهو ملك الملوك مقدر الأرزاق ، ومَنْ الخيرُ في السموات والأرض بيده وحده لا بيد سواه .
وإذا رضي عنا الخالق الرازق المدبر أرضى عنا الناس وجعلهم مُسَخَّرين لنا بلا حول منا ولا قوة .
وإذا آمنا بصفاته العلى ومنها الاختصاص بمفاتيح الأرزاق ومغاليقها ، ثم اتقيناه ووقفنا عند أمره ونهيه فيما نقول ونفعل وننظم وندبر فتح علينا بركات السماء والأرض كما وعد سبحانه وكما أوعد﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِن كَذَّبوا فَأَخَذناهُم بِما كانوا يَكسِبونَ﴾
أما ما تخوفته وأنا أطالع أخبار اعتماد هذا المشروع ، فهو أن يكون المستهدف هناك وحسب جيوب أهل الأموال في داخل المملكة وخارجها ، فإن المقاصد الطيبة حينها تجاه البسطاء وتجاه الأخلاق والقيم ستتلاشى شيئاً فشيئا أمام بريق الدينار والدرهم ، لكن هذا التخوف سيتلاشى هو أيضا من نفوس الكثيرين حينما يُقِر خادم الحرمين أوسُمُو نائبِه نظاماً مبكراً للمنشآت السياحية والسائحين محتكما إلى النظام الأساسي للحكم في بلادنا ، وإلى دستور بلادنا المنصوص عليه في هذا النظام وهما الكتاب والسنة .
د محمد بن إبراهيم السعيدي
جزاك الله خير
مقال رائع جدا
جعله في ميزان اعمالك
يكمن سر استقرار بلاد الحرمين المملكة العربية السعودية واستمرارها وازدهارها في الالتزام بالكتاب والسنة فقد جمعت بهما شتات القبائل وأذعنت لحاكمية الشريعة .. ولا ريب ان الاداب والسلوك من اجلى مظاهر حاكمية الشريعة .. والأمل منعقد بعد الله في قيادتنا السياسية والدينية ان يستمروا على نهج المؤسسين الآوائل .. وندعوا الله بصدق أن يوفقهم لكل خير وألا يجعل مصيبتنا في ديننا.. آمين
المملكة العربية السعودية مستأمنة على الحرمين الشريفين لا باعتبارهما مصدر دخل اقتصادي بل لكونهما قبلة المسلمين في شتى أنحاء المعمورة وعزّها من عزهما ورفعة شأنهما
فالله الله في الحفاظ على النهج الذي تأسست عليه
والله الله على الحفاظ على منهجها الأصيل الذي بنيت عليه وحفظها الله من أجله
جزاك الله خيرا ياشيخ على هذا المقال الرائع وأسأل الله العلي القدير ان يصلح ولاة امرنا ويهديهم سبل السلام ويرزقهم البطانة الصالحه الناصحه التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه وان يريهم الحق حق ويرزقهم اتباعه وان يريهم الباطلة باطل ويرزقهم اجتنابه انه ولي ذالك والقادر عليه
جزاك الله خير
ونفع بك وجعلك مباركاً اينما كنت
من اروع ما قرات جزاك الله خير
مقال جدير بالقراءة والفهم والتأمل نسأل الله عز وجل أن يكون في ميزان حسنات كاتبه وينفع به المسلمين وأن نكون ممن آمن بالله وفتح عليه من بركاته وألا يكون رزقنا مصدره أمور تغضب الله عز وجل ويحل علينا سخطه والعياذ بالله
مقال في قمة الروعة
جزاك الله خيرا على ماكتبته وجعله في موازين اعمالك
بوركت ايها الشيخ الكريم
فهي صيحة نذير
ونصيحة مشفق مستبصر خائف على مستقبل بلاده
ذا وعي بخطوات الشيطان واتباعه من استدراج البلاد الى مستنقع الرذيله باسم السياحه والانفتاح
بصرك الله بالخير
وفتح لك قلوب اولي الامر فى بلادمن
وزادكم الله حرصا
ولهم اقول
وماذا عليهم لو ءامنوا
الله يوفقك ياشيخ ويجب على كل قادر على النصح أن يقوم به قبل فوات الاوان نستطيع أن نضع انظمه توافق الشرع ولا نعول علىارضى السايح غير المسلم فكثير منهم يتمنى أن يعيش يسودها قيم الاسلام
جزاك الله خيرا
ليتنا نستلهم قوتنا من ماضينا لبناء مستقبل زاهر تكون المثل والاخلاق والدين هي رأس المال وستاتينا الدراهم وهي راغمة باذن الله
لا يوجد في العالم اليوم شواطئ نظيفة كالتي ذكرت أستاذي الكريم فنحن أولى من يقوم بها العمل.
جزاك الله خيرا ولافض فوك
وأرجو أن يصل هذا المقال إلى ولاة الأمر حفظهم الله ووفقهم لكل خير
جزاك الله خيرا
أجدت وأفدت وشخصت الداء و وصفت الدواء وفقك الله وبارك فيك يا شيخ محمد .
سائلين الله العلي العظيم لهذه البلاد وحكامها وشعبها الكريم المسلم المؤمن- الذي شرفه الله بهذه النعمة وبغيرها من النعم التي جعلتنا مميزين عمن سوانا كوجود الحرمين ورفاة خير الأمة وتاريخها المجيد …- العزة في الدارين وأن يكفينا جميعا كيد الكائدين ومكر الماكرين وخداع المخأدعين وشر الأشرار وكيد الفجار .
كما نسأله عز وجل لخادم الحرمين الشريفين وسمو نائبه التوفيق والسداد والرفعة في الدنيا والآخرة .
ولنتذكر :
( لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى )
( استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم باموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا )
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظيماً).
( وإنَّ العبد ليُحرَم الرِّزقَ بالذنب يصيبه).
(ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره).
( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما إبتغينا العزة بغيره أذلنا الله ).
…
جزاك الله خير ونسأل الله ان يكون المشروع وفق مايحبه الله ويرضاه
جزاك الله خيراً يا دكتور على المقال الرائع
جزاك الله خيرا مقال رائع عبرت فيه عم في صدورنا
مبدع ورائع وأسلوب جذاب ولطيف
جزاك الله خيرا
جميل
جزاك الله خيرا يا شيخنا العزيز و اسئل الله أن يوفق خادم الحرمين و ولي عهد إلى ما فيه صلاح للإسلام والمسلمين وان يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير و تعينهم عليه و أن يكفيه شر من فيه شر كائن من كان ، ( لا عزة لنا إلا بالإسلام )
صدقت وأبدعت …
آمل أن يصل لمن أوصلوا شواطئنا لهذا الجشع واﻹضرار بالسائح والبيئة والوطن والمواطن .