من أسباب فشل الأحزاب الإخوانية في الحكم

تكبير الخط تصغير الخط

عانت الشعوب في البلاد العربية والإسلامية حتى استيأست منذ الاحتلال الأوروبي لبلادها وإلى اليوم من مشكلات عديدة، بعضُها نتاجُ الاحتلال ، وبعضُها موروثٌ مما قبل ذلك ، ونخص اليوم مشكلة التغريب التي أسهمت في العمل على جلب العوائد المستوردة التي يُعارضها دينُ الأمة وموروثُها الثقافي والاجتماعي ، كما تُعارض كثيرٌ منها فطرةَ الله التي فطر الله الناس عليها ؛وجَلَبَ هذا التغريب معه كثيراً من المشكلات كالانفلات الاخلاقي وهشاشة الأسرة والعنوسة وضعف مستوى الغيرة وقلة الحياء ، واسْتَجَدَّت مع كل ذلك ظواهرُ  خبيثة كاللقطاء  وأطفال الشوارع ، وتضاءلت رقابة المجتمع على أفراده وخَفَُ التعاون والتكافل الاجتماعي، وغير ذلك من الطبائع الوافدة التي أرهقت الأمةَ وأزعجتها وأصبحت إضافة سيئة إلى ما يعانية الناس من مشكلات اقتصادية وسياسية وبيئية .

كل ذلك أزعج الشعوب في عالمهم العربي والإسلامي وأصبحوا يتلمسون المخرج من هذه الظلمات المتراكمة ؛وكان الاحتلال الأوروبي حين فارقهم خَلَّف فيهم الحكوماتِ العسكرية ، والأحزابَ العلمانية والاشتراكية ، والقومية ،وكلُّها تتداول السلطة ،فلم يفلحوا عبر عقود إلا في زيادة الخَلْقِ غمَّاً إلى غمٍ ؛ والناسُ كلَّ صبيحة يسألون الله من كل ذلك مخرجاً وفرجاً .

وانتشرت الأحزاب السياسية الإسلامية في أكثر البلاد العربية ، منها ما هو رسمي ومنها ماليس كذلك ، ومعظمها منبثق من جماعة الإخوان المسلمين التي تدعو إلى تحكيم الشريعة وتقضي كثيرٌ من إدبياتها بكفر الحكام المسلمين ،كونَهم لا يُطبقون الشرع الشريف ، وترفع شعارَ “الإسلام هو الحل”.

والشعوب المسلمة ،وإن انحرفت عن أصول دينها في حياتها العملية إلا أنها تمتلك الثقة الكبرى به ، فلا تجد منها من يُكَذب هذا الشعار-الإسلام هو الحل – أو يشكك في إمكانه؛ لهذا حين أُعْطِيَت بعضُ هذه الشعوب فرصة الانتخاب النزيه أو القريب من النزاهة نالت هذه الأحزاب أرقاماً كبيرة من الناخبين أَهَّلَتْها لأن تُشكِّل حكومات بلادها ، وهي تحديداً : حزبُ النهضة في تونس ، وحزبُ الحرية والعدالة في مصر ، وحزبُ العدالة والتنمية في المغرب .

والواقع أن جميعها فشلت فيما أسندته إليها الشعوب كما فشلت في نيل ثقة هذه الشعوب مرة أُخرى ، بدءًا بمصر وانتهاء في هذه الأيام القريبة بالمغرب ، مروراً بتونس ؛ أقول هذا رغم أن أنصار هذه الأحزاب يرفضون هذا الحكم بذرائع مختلفة منها : أنها أُفْشِلَت ولم تفشل ، ومنها أن الشعوب ليست بعدُ مستعدة ، وأغربها قول بعضهم:  :إنها نجحت ولم تفشل ،وأن سقوطها ضمن خطوات تَقَدُّمِها في سُلَّم النجاح! وكل هذه التبريرات عبارة عن سفسطات ومكابرة للواقع الذي هو الفشل .

ونقاشنا هنا لا تدخل فيه جبهة الإنقاذ الجزائرية لأنها بالفعل لم تفشل ولكن وُئدت مبكراً ، كما لا تدخل فيه جبهة الإنقاذ السودانية لأنها وصلت للسلطة عبر انقلاب وليس انتخاباً .

نعود إلى سؤال المقالة وهو :لماذا فشلت هذه الأحزاب؟

والجواب : أن الفشل لا يصح أن يُحصَر في سببٍ واحد ، لكنني سأقتصر على أهمها في نظري ، وهو سبب قَلَّ من يَكتب عنه في هذه الأيام عند الحديث عن آخر حلقات فشلهم ، وهو سقوط حزب العدالة المغربي ؛ فإن أعظم أمر فيما يبدو لي اختارت الشعوب الإخوان من أجله هو مزاعمهم في تمثيل الإسلام ، وادِّعاؤهم  العمل على تطبيقه ، ومقتضى وعودهم أنهم على أسوء تقدر لن يتعمدوا مخالفته ، وسوف يضعون قواعد خطوات السير باتجاه بسط الدين في جميع مناحي الحياه ، وخاصة تلك الجوانب التي مَسَّتها بسوء مشاريع التغريب الكُبرى التي أغرقت بلادهم منذ وطئها المستعمر  ، ويبحث الجميع عن طوق النجاة منها.

لكن الذي حدث باختصار هو أن هذه الأحزاب حينما تولت الأمر لم تلتفت لمطالب هذا الناخب الذي كان هو سر نجاحها في الوصول ، وإنما التفتت إلى جهاتٍ ثلاث سعت بكل قوتها إلى إرضائها بما يتعارض ومطالب ناخبيها  ؛ وهم أولا  : الدول الغربية باعتبارها صاحبة النفوذ الأول في المنطقة والتي لن تنصاع القوى العسكرية في المنطقة إلا لها [هكذا يتصورون]، فكانوا يسعون لإرضائهم استقواءً بهم ، في حين أنهم يذمونهم في خطابهم الجماهيري 

ثانيا: الأحزاب العلمانية والليبرالية باعتبارها صاحبة العروق المتجذرة في بنية الدولة والمسيطرة على ما يسمونه الدولة العميقة ، فترى الأحزابُ الإسلامية أنهم بإرضاء هؤلاء يبتعدون عن أي صدام يحول بينهم وبين التمكن من قيادة الدولة ، وثالثهم : ناخبو الأحزاب العلمانية والليبرالية ، من غالبية الرأسماليين والإعلاميين والفنانين والمثقفين ، باعتبارهم أصحابُ تأثير قوي في الرأي العام والخاص ، أو بعض عوام الناس ممن يريدون حكومات لا تُصَادِم أهواءهم الدنيوية،

فقد كان الشغل الشاغل لهذه الأحزاب الإسلامية هو كيف تُرضي هذه الفئات عنها وليس كيف تُرضي ناخبيها  وهم المتدينون وعلماء الدين وأوساط التجار وبسطاء الناس من مهنيين وعمال وفلاحين ، فهؤلاء في تفكير هذه الأحزاب رغم أنهم أكثر عدداً، إلا أن التأثير عليهم واستمالتهم أمْر ممكن في أي وقت ، لذلك فعدم الالتفات إليهم حالياً من أجل ترسيخ الأقدام في الحكم لا يُعتبر عائقاً كبيراً لاسيما وأن الحكومات العلمانية لا تلتفت إليهم منذ عقود ولم تتضرر بسببهم .

فمنذ استعدادهم لخوض الانتخابات نجد أنهم يحاولون النأي بأحزابهم عن الإيحاء بالانتماء الديني ، ويبدأ ذلك بالحديث عن عدم حتمية تطبيق الشريعة وأن الحرية أولاً ، وأن الحدود الشرعية ليست شريعة بل هي فقه بشري ، وأن المقاصد والمصالح هي المفسرة للنصوص ، ثم يأتي دور تسمية الأحزاب ، فيسمونها بأسماء دنيوية بحتة تبتعد عن المصطلحات القرآنية والفقهية ، فبدلاً من أسماء كالرحمة والإحسان والبر والتقوى ، نجد الحرية والعدالة والتنمية والنهضة وهي أسماء وإن كانت لا تتعارض مع الدين لكنها ليست مصطلحات تخص الدين أو ذات إشارات تربوية ودعوية ، حتى إن الحرية والعدالة هما من شعارات الثورة الفرنسية وطرفان لثالوث الحركة الماسونية ” حرية ، عدالة، مساواة.

وفي برامجهم الانتخابية تضعف الوعود الدعوية والتربوية والأخلاقية ، وفي كل ذلك يرسلون الرسائل لقواعدهم وناخبيهم المحتملين بأننا باقون على العهد ولكننا نجاري الوضع القائم من باب السياسة الشرعية ، والناخب يلتمس لهم العذر في ذلك ؛ لكنهم بعد الانتخاب وبعد الفوز لا يتغيرون وكأن لا علاقة لأحزابهم بالآخرة أو بالمفهوم الإسلامي للحياة الدنيا ، سوى سلوكهم الشخصي من صلاة وصوم وزكاة ، و حتى هذه ربما اسعانوا بها في الدعاية السياسية للأسف .

فحزب الحرية والعدالة جعل نائبه نصرانيا وهو رفيق حبيب  تقرباً لدول الغرب كي يثبتوا لهم عدم تعصبهم الديني (١)، وصدرت في عهدهم عدد من القرارات التي خيبت آمال ناخبيهم ،كوصف الرئيس مرسي رئيسَ الكيان الصهيوني بالصديق العظيم في خطاب رسمي ، وهي كلمة لم تكن ليكتبها السادات ولا حسني مبارك في عهدهما ، وهو تصرف فج لاسترضاء الصهاينة ؛ وزادوا في مدة تصاريح النوادي الليلية ،وهو تصرف لاسترضاء الشركات السياحية ، وللتأكيد على أن الإسلام ليس ضد الحريات ، كما أنهم لم يتقدموا بأي نظام في مواجهة التغريب في الفن والتعليم والإعلام والاستثمار ، بل على العكس من ذلك ، فقد وقفوا مع الفن المبتذل الرخيص حين استقبل محمد مرسي رحمه الله وهو رئيس الدولة الفنانين والفنانات ليعتذر لهم من تهجم أحد المتدينين على سلوك إحدى الممثلات التي رفضت هي الحضور ورفضت قبول اعتذار الرئيس ، في واقعة تعد إهانة بالغة لم يكن ليفعلها ولا ليتقبلها أكبر الليبراليين والعلمانيين ؛ فلماذا هذا التضاؤل أمام هؤلاء الفنانين ؟خاصة وأن المتهجم على الفنانة ليس من الحكومة ولا من الحزب وليست الدولة مسؤولة عن خطئة حتى يتهالك الرئيس على إرضاء هذه الفئة تهالكاً كان من القوة لدرجة أشعرت الناخب بالإهانة .

وكان لهم العديد من التصريحات حول علمانية الدولة صدمت الناخب الذي اختارهم من أجل الإسلام .

والأمر في تونس لم يَقِل عن ذلك سوءًا ، ففور انتهاء الثورة عمل الغنوشي على تطمين الغرب واليهود في لقائة بمركز الشرق الأوسط للدراسات بأمريكا : وتنصل من هويته الإسلامية ومن العداء للكيان الصهيوني ، وعمل بشكل إعلامي كبير على تسويق الحزب كعلماني لاعلاقة له بحريات الناس في معصية الله تعالى ، فليس له علاقة بالحجاب ولا بالشراب ولا بما هو أكبر من ذلك مادام في حدود الحرية العامة .

وفاز الحزب على اعتبار الناخبين أن ذلك الخطاب كان للتخلص من التكالب العلماني والدولي ، لكن الذي شاهده المواطن أن هذا الحزب لم يقدم شيئاً في سبيل تغيير ما أفسده الاستعمار من الأخلاق والآداب وبنية المجتمع ، بل على العكس وافق على قانون  قدمته الأحزاب العلمانية ، زواج المسلمة من غير المسلم ، كما أنه عطل عرض قانون مساواة المرأة بالرجل في الميراث عن العرض على البرلمان كي لا يقع في حرج ، مع أن المسألة قاطعة في القرآن وأعضاء النهضة مع البرلمانيين المستقلين قادرون على إسقاطه .

كما  نقلت صحيفة لوموند عن سمير ديلو وزير حقوق الإنسان في أول حكومة للنهضة أنه سيناضل من أجل حقوق المثليين ، أما زعيم النهضة فرفض سن قوانين تجرم المثلية كحق شخصي في الخفاء وأن من سيحاسبهم هو الله تعالى ، ورفض أيضا أن تكون العلاقة المثلية زواجاً ، وهو كلام متراخ جداً في حق جريمة شنعاء .

 أما حزب العدالة والتنمية وهو الذي خرج قبل أيام بخسارة فادحة فقد حقق طيلة سنوات حكمه إنجازات جيدة لاسيما في ظروف جائحة كورونا وذلك في تخفيظ نسب الفقر والمحافظة على مستوى الأسعار ، وزيادة المرتبات ودخل الأسرة ودعم الأعمال ،كما يبينه الموقع الإلكتروني للحزب .

كما وقف الحزب مواقف مشكورة ومأجورة إن شاء الله ضد دعوات المجلس الوطني المغربي لحقوق الإنسان الداعية إلى إباحة الزنا وعمل قوم لوط ،كذلك قَدَّم مشروع قانون جنائي يستبقي تجريم هذه التصرفات ، فهذا وأمثاله كانت أمور إيجابية في مسيرة الحزب أثناء حكمه قابلها المواطن المغربي بالرضا ونسأل الله هنا أن يجعلها في موازين أعمالهم  ؛ إلا أن الجمعيات النسوية والتيارات الحداثية قلبت الطاولة على الحزب مستخدمة بعض المخالفات الفردية[الله أعلم بحقيقتها] لبعض قيادييه لاتهام الحزب بقوة مؤثرة في الرأي العام بالنفاق وأنهم يقولون مالا يفعلون ، كما أن الحزب بحكومتيه لم يتقدم خطوة في سبيل ضبط الحريات الخاصة والعامة بضابط ديني ، بل كانت تصريحات رئيسي حكومتيه تؤكد على عدم المساس بهذه الحريات ، وتعني السفور والخمر  وماشاكلها ، كما أكد بن كيران على أن مرجعية الحزب إسلامية لكنه سيحكم من مرجعية سياسية فالدين مكانه المسجد!

وتولى العدالة والتنمية فترتين وزاريتين لم يشهد المغرب فيها أي تقدم في مكافحة التغريب والفكر الحداثي الغربي ذي التسلط القوي هناك ، وغير ذلك فقد كثرت أثناء حكمه الفعاليات الفنية شديدة المخالفة للشريعة الإسلامية من مهرجانات غنائية وسينمائية وفنية عامة .

ثم واجه حزب العدالة المغربي الطامة الكبرى التي كانت سبباً ربما مباشراً لإسقاطه وهو قبوله التطبيع بدلاً من الاستقالة احتجاجاً عليه مع أن مواقفه المناهضة له كانت قريبة وربما لم يكن بين بيعضها وبين عملية التطبيع سوى بضعة أيام مما رسخ الاتهام الشعبي للحزب بالنفعية في ذهن الناخب المغربي .

والحقيقة التي يحاول الإعلام السياسي العربي والدولي إخفاءها أن مخرجات التغريب من المشكلات الدينية والاجتماعية والأخلاقية والصحية والاقتصادية تشكل عبئاً كبيراً في عقل وقلب وحياة كل مواطن عربي ، ولا ينبغي أن تكون موضعاً للتنازلات من أجل التسلق السياسي ؛ والأحزاب الإسلامية مع كل هذه التنازلات التي قَدَّمَتْها كي ترضي الخصوم الليبراليين والغرب والقُوى المتنفذة في بلادها إلا أنها خسرت بسببها كثيراً من ناخبيها كما لم تربح أعداءها .

وهذا في أصله درس نبوي علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال :(من التمس رضا الله بيخط الناس رضي الله عنه وأسخط عليه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)وهو ليس للأحزاب الإسلامية وحسب ؛ بل أيضا لجميع الحكومات والأحزاب والهيئات ، في العالم الإسلامي  

، فكل من أراد إرضاء الناس بأمر يسخط الله فلن تعود العاقبة عليه إلا عكس ما أراد.

نعم لا يخفى على أحد شراسة التيارات الحداثية وتغولها في الدول التي وُجِدَت فيها حتى إنها أصبحت هي المتحكمة في سياساتها ، وهكذا خطورة هذه التيارات فإنها  تتغول حتى تصبح البلاد بمثابة المستعمرة التي تحركها دول الغرب وتجعلها ضعيفة مشلولة الإرادة ، لكن إضعاف هذه التيارات لا يكون بالتنازل لها واسترضائها على حساب الدين والجماهير المتعطشة لهيمنته في حياتها .

التعليقات

رد واحد على “من أسباب فشل الأحزاب الإخوانية في الحكم”

  1. يقول غير معروف:

    أحسنت جزاكم الله خيرا .. أصبت موضع الخلل .. وعسى الله أن يستبدل لهذه الأمة قوما يعملون بدينه يلتزمون منهج السلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.