آخر الأخبار
ليست مجرد تهنئة النصارى بأعيادهم
الواقع اليوم أننا نعيش عصراً مختلفاً عن كل ما مضى من العصور وذلك في علاقات الأمم والشعوب بعضها ببعض فبينما كانت العلاقات تمضي تلقائيةً وفق سُنن كونية استطاع علماء الاجتماع سبر كثير منها وتوصيفه كقاعدة أن المغلوب يُقَلِّد الغالب وقاعدة أن الشعوب المدنية تسود أخلاقُها وآدابها ، القاعدتان اللتان تحدث عنهما ابن خلدون ،وقاعدة أن الشعوب ذات الجذور الحضارية تعمل لكي تستعيد ماضيها ، التي تحدث عنها توينبي ، وغيرها من قواعد التي كانت العلاقات بين الأمم تسير وفقها ، أصبح الحال اليوم يختلف كثيراً فالغرب بمؤسساته الأممية التي يسيطر عليها ومؤسساته المدنية والثقافية يعمل بعيداً عن تلك القواعد على عولمة العالم ، أي فرض جميع قِيَمه واستغلال علوه السياسي والإعلامي والعسكري والتجاري في ذلك ، مع أن كثيراً من هذه القِيَم ليست أصيلة لديهم وإنما هي انحرافات خطيرة وصل إليها الغرب بسبب سيادة اللادينية وخلو النصرانية من الشرائع التي تحفظ حياة الإنسان من الانزلاقات.
ومصداق ذلك حجم الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تصوغ الأديان والعلاقات العامة والخاصة والعادات والسياسات والقيم في النظر إلى الكون والحياة بمفاهيم أفرزتها الحضارة الأوروبية وحدها ، وحجم الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية التي تُمارَس على الدول التي تختلف مع الغرب في هذه المفاهيم .
ولا يبعد عن الجميع العمل على فرض مفهوم الجندر وتطبيع القذارات الجنسية ، وكان له وقع شعبي أكثر مما سواه لأنه أحقر متطلبات العولمة التي يُريد الغرب فرضها ، ضمن حزمة كبيرة جداً تتضمن التغيير الكلي للعالم كي يكون عالماً ممسوخاً بلا هوية ولا تاريخ ولاسِمات خاصة به ، يستورد من أوروبا والولايات المتحدة كل شيء في سياسته ومفاهيمه وأخلاقه ورؤيته للدين والحياة والاقتصاد وحتى رؤيته لنفسه ، بل يستورد كذلك طريقته في الكلام واللباس والاغتسال ، ينظر الغرب إليه وينظر هو إلى نفسه على أنه عالةٌ ليس في الصناعة والتقنية وحسب ، وإنما عالةً على الغرب في كل شيء ، حتى مناسباته ومواسمه الرسمية والدينية و الرياضية لا تكون إلا غربية المولد .
في أجواء الاستعمار الثقافي هذه لا ينبغي علينا النظر إلى أي دعوة لتكثيف المشترك الإنساني ، أو التقارب بين الأمم بأي قدر من البراءة في الحكم عليها ، لأنها في الحقيقة دعوات استعمارية من نوع آخر مدروس في علم الاجتماع المعاصر وفي علم نفس الشعوب ، فالشعوب التابعة ثقافياً تبقى تابعة اقتصادياً وسياسياً ، وأي أمة تسعى حقاً للاستقلال الاقتصادي والسياسي لابد أن تستقل ثقافياً ، وقد كان تنبه الصين لهذا الأمر مواكباً لتنبهها الاقتصادي والسياسي ، فمنذ ظهور الإعلام الاجتماعي الحديث وهي تعمل على الاستقلال بمحركاتها البحثية وتطبيقاتها الحوارية ، هذا رغم أن ثقافتها الوثنية وثقافتها الإلحادية ليست بعيدة عن الغرب ، والمشترك بينهما كبير جداً ، وسقف المباح في الخلافات بينهما عالٍ كثيراً، ومع ذلك تعمل الصين بجدية على الاحتفاظ بما تبقى لها من خصوصية ،لتحول دون الاستعمار الثقافي وتُعِدُّ نفسها لتكون هي المستعمر الثقافي الجديد للعالم .
فدعوة النسويات في العالم العربي والإسلامي ليست دعوةً لرفع الظلم الاجتماعي عن المرأة وإنما هي ضمن المشروع العولمي لإحلال المرأة محل الرجل ، والدعوة إلى التقارب بين الأديان ليست دعوة للسلام وحرية المعتقد وإنما حركة عالمية مدعومة دولياً للانمحاء في توجهات الإلحاد العالمية والقضاء على الأديان ، والدعوات الدولية للديمقراطية ليست نُصرة للشعوب المضطهدة وإنما سيف للمساومة السياسية وإذلال الحكومات .
ولعل هذه القضايا الثلاث ، النسوية ، والتقارب بين الأديان ، والديمقراطية ، هي من أمهات ؛ بل أبرز أمهات قضايا مشروع العولمة ، وتحت هذه القضايا الأمهات قضايا كثيرة فرعية تثار في كل حين لخدمة هذه القضايا الأمهات ،وعلى ذلك شواهد كثيرة جداً يجدها المتابع في كثير من الكتب والمقالات واللقاءات المبثوثة للكثير من المفكرين والسياسيين .
ولعل من القضايا الفرعية والتي تخدم القضية الكبرى “التقارب بين الأديان” ما يثار في كل رأس سنة ميلادية في عالمنا الإسلامي ، وهي قضية تهنئة النصارى بأعيادهم الدينية ، فالعلماء الأوائل في الشريعة الإسلامية من المذاهب الأربعة مجمعون على حرمة ذلك لاقتضائه الإقرار بما ترمز إليه هذه الأعياد من أمور كفرية ، ونَظَرَ إليها بعض المعاصرين ومنهم علماء ، وأكثرهم من التيارات الليبروإسلامية ، نظروا إليها نظرة مصلحية ومقاصدية وبنوها على القاعدة الأصولية “الأصل الإباحة” .
وأنا هنا لا أتفق مطلقاً مع المُجَوِّزين المعاصرين فيما ذهبوا إليه من تعليلات ، لكنني لن أُناقشهم في استدلالاتهم بقدر ما أرغب في لفت أنظار القراء إلى أن هذه التهنئة لن تُفضي إلى إرضاء النصارى أو تأليف قلوبهم ، لأنهم في واقع الأمر لن يقبلوا هذه التهنئة ،إلا إذا كانوا كافرين بدينهم ، أما إذا كانوا مؤمنين بدينهم حقاً ،فلن يقبلوها منك إلا وهم يَزُمُّون شفاههم سخريةً مما تقول ، فأنت تهنئهم باعتبار عيد رأس السنة مثلاً ذكرى لمولد النبي عيسى عليه السلام ، وهذا هدم لعقيدتهم لا يقبلونه أبداً لأنه عندهم يوم تجسد الإله في الناسوت ، لاسيما والمجيزون لهذه التهنئة يشترطون أن يختار المسلم وهو يهنئ النصراني عبارات لا تدل على الإقرار بدينه ، أي يُهنئهم ويُكذبهم في الوقت نفسه ، فكيف يقبلون تهنئته!.
فالتأليف والاستقطاب لن يحدث من هذه التهنئة ، وإنما الذي سيحدث حتما ولو تدريجياً لدى المخالطين للنصارى هو ضعف البراءة من الكفر في نفس المسلم المهنئ ، بل ضعف الإيمان بكفر النصارى ، وهذا أمر وُجِد فعلاً حيث نرى من يُحاجج في كفر النصارى ، ونرى مؤسسات رسمية تجاوزت مسألة التهنئة إلى الموافقة على الاحتفال معهم بميلاد الرب يسوع تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً .
وهذه النفسية التي تُقلل من خصوصية التوحيد الإسلامي وتميز المسلمين بهذه العقيدة الخالصة يُراد تعميمها من خلال مشروع كبير لعولمة المسلمين ، تُشَكِّل مسألة التهنئة بالأعياد الكفرية إحدى مفردات أو إحدى وسائل أو لوازم هذا المشروع .
ولذلك لم تظهر هذه القضية بهذا الشكل الصارخ إلا في العصر الحديث عصر العولمة ، أما العصور السابقة فقد عاش النصارى بين المسلمين قروناً طويلة وهم يعاملون بالبر والإقساط الذي أمر الله تعالى به ولم يكن المسلمون يوما ما في حاجة لتهنئتهم بأعيادهم الدينية ، لذلك بقوا ولازالوا يتكاثرون بين المسلمين في حين أُبِيد المسلمون في إيطاليا وإسبانيا، ولم يتوقف مشروع الإبادة في شرق أوروبا إلا قبل ثلاثة عقود من الزمن والجميع يتذكره .
وحقيقةُ من أيقظ هذه الفكرة هم أصحاب الفكر الليبروإسلامي ، والذين يقصدون لتعميم ليبراليتهم المتأسلمة عبر هدم خصوصيات الإسلام التي حفظ الله بها هذا الدين كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذه القرون ، فهم ينكرون أخبار الآحاد ومنهم من ينكر السنة مطلقاً وينكرون الإجماع وينكرون القياس وينكرون سد ذرائع الفساد وينكرون حد الرجم ومنهم من ينكر أيضا حد السرقة وحد شارب الخمر ، وكثير منهم ينكر الربا في المعاملات المصرفية وأشياء كثيرة تشعر معها أن الإسلام لديهم دين صلصالي يتشكل وفق المصالح والأهواء .
ومن تتبع كتاباتهم من مؤلفات ومقالات وتغريدات يجد أن الثابت العظيم عندهم والذي ببنون عليه كثيراً من آرائهم التي يزعمون أنها فتاوى هو كيف يرضى عنا الغرب لا كيف يرضى عنا الرب ، لذلك فالدعوة إلى تهنئة النصارى بأعيادهم الدينية يتماشى مع هذا الثابت شبه الوحيد عندهم ، أو عند كثير منهم .
بارك الله فيك ونفع بك
بارك الله فيك ونفع بك المسلمين
“الثابت عند علماء الليبروإسلامية هو كيف يرضى عنك الغرب وليس كيف يرضى عنك الرب”.
وفقك الله دكتور السعيدي لما يحبه ويرضاه.. آمين آمين