حجية خبر الواحد بين بُعد الهوى وبعد السياسة

تكبير الخط تصغير الخط
ليس غريباً أنَّ مسألة حجية خبر الواحد تبرز دائما وفي كل عصر مع اشتداد الحملة على الإسلام جملة أو الحملة على بعض تفاصيله وذلك تمهيداً للقضاء عليه جملة ،فلم يكن غريباً أن يكون أولَ ظهور لها مصاحباً لفتن الزنادقة ومن أبرزها تلك التي قامت على أَثَر مقتل أبي مسلمٍ الخراساني ، فتنةِ سنباذ ،وفتنة أستاذ سيس ،وفتنة يوسف برمة ،وفتنة المقنع الخراساني ،ثُمَّ فتنة بابك الخرمي، وغيرها.
وقد مَثَّلت تلك الفتن الجانب العسكري من نشاط الزنادقة لإسقاط الدولة الإسلامية من جهة المشرق ابتداء من ١٤٠هـ حتى ٢٢٣هـ.
أما الجانب الآخر لنشاطهم فهو الجانب الثقافي الذي سبق النشاط العسكري وتمثل في ظهور الجهمية أولاً حيث إن القول بإنكار حجية أخبار الآحاد لازم من لوازم التجهم ، إذ كان نفي الصفات عن الله تعالى من أبرز أفكار جهمٍ بن صفوان مناظرته للسُّمَّنِيَة ونفي الصفات لا يُمْكن ترويجه بين المسلمين إلا بإنكار حجية أخبار الآحاد؛ وهذا ما نص عليه عثمان الدارمي[٢٨٠هـ] في كتابه”الرد على الجهمية” إذ ذكر مراتٍ عديدة:أنهم يزعمون قبول الاستدلال بالقرآن ولا يرون السنة.
وقد قُتِل جهم في حدود قيام دولة بني العباس[١٢٨هـ] حيث دخل الزنادقة في مرحلة ترجمة كتبهم ونشرها بين الشباب تحت مسميات عدة منها حكمة الأوائل ، وكانت أكثر كتب الزندقة التي تُرجِمت في عهدي الخليفتين المنصور والمهدي منقولة عن الهند والفرس من ديانات البراهمة والسمنية والزرادتشبة والمانوية؛ ومعظم هذه النحل تُنْكر أن تكون الأخبارُ مطلقاً مصدراً من مصادر العلم حيث لم يكونوا يؤمنون سوى بالحس ، فكانت كثير من المناظرات بينهم وبين الناشطين في الرد عليهم تستلزم الحديث في حجية الأخبار ؛
وذلك قبل أن ينشط النقل عن اليونانيين والرومان في عهد المأمون حيث أصبحت ترجمة علوم الأوائل دون انتقاء مشروعاً تدعمه الدولة ، وقد ذكر علي سامي النشار في كتابه “نشأة الفكر الفلسفي”: أن ترجمة المأمون للتراث اليوناني كان من أهدافها الاستفادة من طرئق الجدل خ الثقافية القادمة من فارس والهند، وسواء أصح رأي النشار أم لا
فهذه الترجمات أدت إلى ظواهر ثقافية كثيرة منها :انحرافات فكرية كبيرة بين الشباب المسلم في العراق وبلاد فارس وما جاورها شرقاً ؛ومنها أيضا:شيوع الجدل بين الزنادقة ومن يستبطن فكرهم ويعمل على نشره عن طريق طرح أسئلة تشكيكية بين أوساط الشباب ؛ كل ذلك أنتج الظاهرة الثالثة وهي انتشار مذاهب مُبْتَدَعَة في الدين كالتجهم والاعتزال وما نتج عنهما ؛وانتشار مذاهب مرتدة عن الإسلام كالمذهب الراوندي.
كل هؤلاء الزنادقة الذين كانوا يجادلون المسلمين ؛ أو المسلمين الذين دخلوا في البدع نتيجة جدالهم للزنادقة بطريقة تنازلية وانهزامية ؛ كل أولئك كان من أعظم موادهم الجدلية التي يلقونها في وجوه أبناء المسلمين: مدى حُجِّية الأخبار؛ إذ كان تجريد الدين الإسلامي من السنة إحدى مراحل العمل على تدميره ؛ لأن سواد السنة الصحيحة والذي بنيت عليه معظم أحكام الشريعة إنما هي أخبار.
ولما كان إنكار الأخبار جملة وتفصيلاً سيكون مرفوضاً لدى المسلمين ؛بل ستكون الدعوة إليه عملاً مفضوحاً يؤدي إلى عقوبة قائله أظهروا أن الإشكال لديهم إنما هو في أخبار الآحاد لأن صاحب العقل السطحي مع ضعف الإيمان ومع أمراض نفسية كغلبة الهوى والغرور المعرفي قد تنطلي عليه حججُ القادحين في أخبار الآحاد .
وحاول الزنادقة تقوية حججهم باختلاق أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم وبثها بين المسلمين ليُعزِّزُوا فرضية عدم حجية خبر الواحد كما فعل عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي اعترف بوضعه الأحاديث من أجل تدمير الدين .
إلا أن المُحَدِّثين وقفوا في وجوههم وذلك من جهتين:
الأولى :الكشف عن الأحاديث التي وضعها الزنادقة من وقت مبكر.
الثانية:بث القول بوجوب العمل بخبر الواحد وتعظيمه في النفوس والاحتجاج له نقلاً وعقلاً ، والاحتجاج به في جميع الدين وليس في بابٍ دون باب.
ومن باب العدل فإن المتكلمين المعتزلة ومن تولد عنهم من الأشاعرة والماتريدية مع أنهم قد أثر فيهم نقاشهم للزنادقة فقالوا بعدم حُجِّية خبر الواحد في العقائد ، وكذلك فقهاء الرأي الذين نشأت مدرستهم في الكوفة حيث كان فيها لوضاعي الحديث من الزنادقة وجود قوي جعل فقهاء الرأي يُشددون في نوع الحكم الثابت بخبر الواحد في بعض القضايا كخبر الواحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد المخالف للقياس وخبر الواحد الزائد على النص القرآني فيثبتون بهذه الأحاديث الواجب دون الركن.
أقول مع انحرافهم فيما ذهبوا إليه إلا أن مذهبهم كان له أثر كبير في إيقاف فكرة رد خبر الواحد التي كان الزنادقة يسعون لها ،عند حدٍ معين لم تستطع تجاوزه طيلة التاريخ الإسلامي.
فلم يَقُل أحد برد خبر الواحد في الأحكام الفقهية من أبواب الطهارات والعبادات وأحكام العورات والبيوع والشركات والربا والصرف والأنكحة والآداب والجنايات والقضاء والعتق ؛ فالجميع متفقون على قبول خبر الواحد فيها ، لأن المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وإن اختلفنا معهم في عدد من أبواب العقائد إلا أنهم لم يُفَرِّطُوا في عبادات الله وأوامره ونواهيه التي ثبتت بأخبار الآحاد وهي ركيزة أعمالهم في يومهم وليلتهم ؛ لذلك بقي الفقه الإسلامي منذ نشأته قوياً متماسكاً في مرجعيته إلى الكتاب والسنة بأقسامها المقبولة للاحتجاج متواترةً ومستفيضةً وآحاديةً؛ فلم يظهر في الفقه الإسلامي قول بِرَدِ خبر الواحد كاملاً بالرغم من العواصف العظيمة التي اجتاحت الأمة من السيادة السياسية الكبيرة للفكر الباطني ذي الأصول الزندقية ، والتي تُعد سيادتها في القرنين الرابع والخامس الهجريين ثمرة الجهود الطويلة العسكرية والثقافية التي تحدثنا عن بدايتها في عهد أبي جعفر المنصور وقبله بقليل ؛ لكن بالرغم من سيادتها لم تستطع أن تشق الفقه الإسلامي السني في مصادره الخاصة والرصينة لتلقي الأحكام .
كان نجاح الزنادقة – لونجحوا- في الإسقاط المطلق لخبر الواحد العدل كفيلاً بإسقاط قبول الدين كله كتاباً وسنةً متواترةً ،وليس خبر الواحد وحسب ؛وذلك أن الزنادقة كانوا يحتجون على بطلان دين المسلمين بأنه ثبت بخبر واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل جميع رسالات الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه إنما ثبتت بأخبار الآحاد .
والحجة العظيمة للأنبياء على أقوامهم هي أنهم صادقون لم تعهد عليهم أقوامهم كذباً إضافة إلى قرائن أُخَرَ تُثْبِت صدقهم وهي المعجزات ، فإذا كانت الرسالة بأسرها ثابتةً بخبر واحد عدل أخبر عن ربه عز وجل من فوق سبع سماوات فما المانع العقلي أن تثبت فروع الشريعة بخبر الواحد العدل عن هذا النبي الصادق.
قال تعالى يُعَلِّم نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام الاحتجاج على الكافرين بمعرفتهم صدقَه من قبل النبوة : ﴿قُل لَو شاءَ اللَّهُ ما تَلَوتُهُ عَلَيكُم وَلا أَدراكُم بِهِ فَقَد لَبِثتُ فيكُم عُمُرًا مِن قَبلِهِ أَفَلا تَعقِلونَ﴾ [يونس: ١٦]فأمر الله نبيه بالاحتجاج على قومه بحالِهِ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من الصدق، قال ابن كثير عند تفسير الآية:”وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل ، لا تنتقدون علي شيئا تغمصوني به “
وأنزل الله مع نبيه عدداً من القرائن التي توصل إلى اليقين بصدقه ومنها أُمِّيتُه صلى الله عليه وسلم مع عظم هذا الكتاب الذي أنزل إليه من البلاغة والإتيان بالحجج وأخبار الأولين التي لا يمكن أن يأتي بها أمي ، إضافة إلى أعلام النبوة العديدة التي سبقت بعثته وصاحبتها وتلتها .
ومع ذلك فالرسالة كلها خبر واحد ولم يمنع ذلك من أن يُفيد اليقين .
والمؤسف أن عصرنا الحاضر اتخذت بدعة القول برد خبر الواحد وعدم الاحتجاج به منحىً جديداً لم تشهده الأمة طيلة أربعة عشر قرناً وهو القول برد خبر الواحد في الفقه ، وهذا القول بدأ يظهر مع دخول فكر ما يُسمى بالتنوير الأوربي إلى مثقفي المسلمين ، ولذلك سببان ذكرهما محمد أسد رحمه الله في كتابه:”الإسلام على مفترق الطرق”الأول: حيلولة خبر الواحد بين هؤلاء التنويريين وبين أهوائهم إذ هم لا يطيقون أن يكون الدِّين متحكماً في تفاصيل حياتهم ؛ الثاني: الجهل بحقيقة خبر الواحد ، فهم يظنون أن خبر الواحد مجرد حديث رواه رجل عن رجل ولا يعرفون حقيقة الجهد الذي بذله العلماء في تصفية الأحاديث التي يُحتج بها في الأحكام ، وقِيمة القرائن المحتفة بها والتي توصلها في كثير من الأحيان لدرجة أن تكون يقينية الثبوت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا الذي ذكره محمد أسد قاله قبله وبعده كثيرون من المسلمين لكن أهميته من هذا الرجل تفُوقُ أهميته من غيره ؛إذ هو رجل إضافة إلى أصله اليهودي قبل أن يعتنق الإسلام أعرَفُ منا جميعاً بالحضارة الغربية وخطر تأثيرها على المسلمين كما أنه ينتمي إلى المدرسة العقلانية الأقرب للاعتزال، وفق بعض كتاباته ، ومع ذلك يرى أن منزلة خبر الواحد في الفقه كمنزلة القرآن وأكَّد على أنه لا يُشترط أن نفهم الغاية من هذا الأمر أو النهي حتى نكون ملزمين بتنفيذه لأن الشرع الإلهي كثيراً ما يكون مبنياً على أصول غيبية يعجز عنها إدراكنا[انظر:الإسلام على مفترق الطرق٩٣وما بعدها،تـ الحصين].
والذي لم يذكره محمد أسد هو بُعدٌ ثالث ظهر حديثاً ربما بعد وفاته رحمه الله للحرب على خبر الواحد وهو البعد السياسي ؛ إذ إن أحاديث السمع والطاعة لولاة الأمر ،والنهي عن منازعتهم والأمر بالصبر على جورهم ،ثابتة بطريق الآحاد ، ولذلك يجد بعض دعاة الثورات فرصتهم في القول بعدم حجية خبر الواحد ليتوصلوا إلى إنكار هذه الأخبار التي ثبت أن الله عصم بها كثيراً من الناس عن الخوض فيما خاض فيه غيرهم من الفتن ،كما أن معظم من ابتُلُوا بهذه الفتن هم ممن انطلت عليهم فكرة رد هذه الأخبار أو تأويلها.
ولهذا يمكنني القول بأن العمل بخبر الواحد العدل عصمة بإذن الله لديننا من الانزلاق إلى هاوية التفريط في الدين وعصمة لدنيانا من الانزلاق إلى هاوية الشقاق والتنازع ومنازعة الأمر أهله.
وما أشار إليه محمد أسد من عناية العلماء وتمحيصهم لأخبار الآحاد يُضاف إليه أن أكثر أخبار الآحاد المُحتج بها في الأحكام مُحتفة بها قرائن أُخَر تؤكِدْ صحتها غيرَ غلبة الظن بصدق المخبِر ؛ كرواية الخبر بطريقين أو ثلاثة لا يتصور تواطُؤ رواتها على الكذب ،وكتلقي الأمة للخبر بالقبول ،وكعمل الصحابة أو بعضهم وعمل الأئمة على وفقه ؛وغير ذلك من القرائن التي ذكر الأصوليون أنها تجعل خبر الواحد مفيداً لليقين كما نص على ذلك السبكي في جمع الجوامع.
والكلمة الجامعة في هذا الباب أن خبر الواحد العدل هو الدين الذي تُحرَسُ به الدنيا فالحفاظ عليه حفاظ على الدين والدنيا وتضييعه تضييع لهما.
د.محمد بن إبراهيم السعيدي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.