ماذا يريد المواطن العربي؟

تكبير الخط تصغير الخط

د. محمد بن إبراهيم السعيدي:

قبل ثلاثين عاما أو أقل من ذلك لم يكن المواطن العربي يطالب قادته إذا التقوا أو يأمل منهم أكثر من شيئين اثنين لا ثالث لهما، الأول: التنمية المتكاملة، وضع تحت التنمية ما تشاء من شروحات. الثاني: حل مشكلة فلسطين.
وبعد ثلاثين عاما -وهذا من دواعي الأسف- لم يبق هذان المطلبان على صورتهما الأولى, بل تفاقم ما كان من السوء في هذين المطلبين, كما استجدت بالأمة العربية بلايا أخر لم تكن على بالها بالحسبان، وإذا كان القائد العربي قبل ثلاثين عاما يحضر إلى القمة وفي حقيبته ورقتان فهو يحضر اليوم بالعديد من الأوراق، بل لا يأمن أن تلحق به أوراق جديدة إلى مقر القمة. وأصبحنا اليوم في وقت لا يتمكن القادة فيه من استيعاب النظر في قضايانا خلال جلسات القمة، ذلك أن القضايا تزيد والجلسات على حالها لا تزيد.
ولن آخذ هنا بتعداد القضايا التي ستبحثها القمة، والتي يأمل المواطن العربي في حلها؛ لأن هذه القضايا هي اليوم بمثابة المعلوم بالضرورة، بل سأتحدث عن أمر لا يقل أهمية عن تلك القضايا، ومع ذلك أجده غائبا عن ذهن المواطن العربي، ألا وهو جواب السؤال التالي: كيف نوقف هذا التنامي الخطير في مشكلاتنا التي أصبحت تتوالد بكثرة، وتتكاثر على العقلاء حتى صار بيت خراش المشهور مثلاً لا يفتر من تكراره لسان عاقل:

تكاثرت الظباء على خراش *** فما يدري خراش ما يصيد

الأمة اليوم في ظرف عصيب لو اقتصر القادة فيه على حل المشكلات العالقة لما انتهوا ولما انتهت المشكلات؛ لأنها كما قدمت مثل السرطان الذي ليس له حل سوى استئصاله من جذوره، وإذا لم تعثر على جذوره ظل في داخلنا يتورم ويتورم ويتورم حتى يقضي على نفسه وعلى حامله.
وقد آن لنا أن نعلم بعد التجارب المريرة أن علاج هذا الورم لم يعد بأيدي القادة وحدهم كما كنا نظن قديما، بل أصبح واجبا مشتركا بين القادة والأمة، فعلى الأمة أن تغير، وعلى القادة أن يمكنوا لهذا التغيير.
وليس هذا علاجا موسميا أو علاجا لا يصلح إلا عند تفاقم الداء، بل هو العلاج الذي فرطت الأمة فيه بالأمس، ولو التفتنا إليه آن ذاك لسعدنا يومنا هذا أيما سعادة, وينبغي اليوم أن لا نفرط فيه كما فعلنا قبل.
إلى أي شيء تتغير الأمة وأنى لها ذلك؟
سؤال هذا موضعه، وهنا موضع جوابه.
بين الأمة وبين ربها سبحانه وتعالى عقد وعهد أخذه الله على نفسه، ولن يخلف الله وعده، ومن أصدق من الله حديثا “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” [النور:55] . أليس كل ما تريده شعوب الأمة العربية يتلخص في هذه الآية الكريمة:
1- الاستخلاف في الأرض.
2- التمكين للدين.
3- الأمن بعد الخوف.
بل إن ذلك هو كل ما تريده شعوب العرب والعجم والبشرية جمعاء، ومن تأمل صراعات الأمم وما يراق بينها من دماء من الأزل وحتى يومنا هذا وجد أن كل هذا الصراع الذي أرخصت فيه البشرية أنفسها وأموالها إنما كان سعيا وراء هذه المطالب التي لخصتها الآية.
والعجيب غفلة البشرية عن هذا الثمن الذي صرحت به الآية لمطالبهم، رغم أنه أقل تكلفة في الأنفس والثمرات مما بذل لأجلها حتى عصرنا الحاضر.
إن الإيمان وعمل الصالحات والإخلاص في العبادة هي الأدوات المثلى للحل الشامل، وهي أدوات ليست بأيدي الحكام، بل هي بين أيدينا نحن وإن كان الحكام قادرين ولو لبرهة من الزمن على الحيلولة بين شعوبهم وتلك الأدوات, فإن قدرتهم هذه ليست بالقمع والتضييق كما يظن الكثيرون؛ لأن القمع والتضييق طالما قربا بين العبد وربه, بل بإشغالهم عن تناول هذه الأدوات أو إضلاهم الطريق إليها؟ هذا ما يستطيعه الحكام تجاه هذه الأدوات لا غير، ولو أن الشعوب آمنت بهذا وعملت له لما انشغلت عن أدوات عزتها بشيء ولاستدلت إليها دون الحاجة إلى دليل.
ظلت الشعوب حقبا من الزمن لا ترى سوى حكامها وسيلة لتحقيق ما تصبو إليه في حياتها، وكلما بعدت الأمة عن غاياتها كلما زاد سخطها على هذا الحاكم الذي لا ترى سواه سببا لشقائها، وكلما تمكنت لديها هذه الرؤية كلما عظم لديها الأمل في التغيير، وكيف لا وهي ترى آمالها قائمة أمامها لا يحول بينها إلا الحاكم وأعوانه، والحاكم يموت أو يقتل، أما أعوانه فينقلبون أعوانا عليه.
هذه النظرة القاصرة إلى أسباب التغيير جعلت من الحكام أعداء لشعوبهم يتبارون في خنقهم، ووأد نتاجهم، وتكسير أيديهم، ما دامت هذه الأصوات وهذا الناتج وتلك الأيدي لا تبحث إلا عن عرض الحاكم ومكانه ورقبته.
وقد تنجح الشعوب في تغيير هذا الحاكم المتسلط لنضع مكانه آخر كان هو منها بالأمس، ويعرف لا كغيره ما وعدهم به، وما أرادوه لأجله، لكنه يصدم بعالم جديد عليه، وهو اليوم أعجز ما يكون عن التعبير عنه يتلخص في أن أمر الإصلاح الموعود أكبر من الحاكم وحده، وأن هناك شركاء في عمل الإصلاح لم يعرفوا دورهم بعد.
وبالتالي لم يقوموا به, فيعود هذا الجديد ليتقمص دور سلفه من أمته.
وتعود الأمة إلى سابق عهدها مع سلفه.
لقد كان على هذه الأمة المغامرة أن تحقق شرائط التمكين الذي وعدها الله به، يقودها إلى ذلك مفكروها وأهل الرأي والرشاد فيها، بدلا من أن تزعم لنفسها القدرة على تحقيق ما اختص الله سبحانه وتعالى بتحقيقه, حين تقف الأمة من تفريطها في جنب الله تعالى موقف المتفرج المستسلم منشغلة عن الاستعباد له اختيارا كما هي مستعبدة له اضطرارا, فإنها لا تستحق وعد الله لها بإبرام أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية.
وحين ينصرف الحكام عن واجبهم في تمكين الإنسان من إعمار الأرض بالإصلاح كما كلفه الله فإنهم أيضا ليسوا أهلا للتمكين والاستخلاف، وسيستبدل الله بهم غيرهم “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً” [الأحزاب:62] .
قد ينظر من لا يعطي النص القرآني حقه من التأمل إلى ما سلف من القول على أنه تشريع للسكوت عن الظلم بأفكار جبرية تستخدم القضاء والقدر لتخدير الناس لصالح حكام غلاظ الأكباد ينهضون على أجداث شعوب طالما خدرها القضاء والقدر والقسمة والنصيب، حتى ألقي بها خارج الحلبة كسيرة منهزمة ليس منها ترمق حلبة الأقوياء، وتصفق لهذا تارة ولذاك أخرى.
كلام قيل كثيرا ومازال يقال:
والحق أن السكوت عن الظلم لا يمكن أن يشرع , لكن الاحتجاج عليه لا يمكن أن يكون له طريقة واحدة وحسب, ونحن لا نطالب هنا سوى بالتأمل في أكثر الطرق نجاحا لرفع الظلم والتمكين في الأرض، وأقلها تطبيقا في العالم الإسلامي حاضرا وتاريخا, ألا وهي تحقيق شرائط التمكين التي أخبر الله بها.
وهذه هي المرحلة الأولى والضرورية لتطبيق الشريعة، وبإغفالها لن يتحقق ما بعدها.
لقد دأبت الجماعات الإسلامية في طول وطن المسلمين وعرضه منذ أكثر من خمسين عاما على المطالبة بالحكم، والسعي لذلك بمختلف أشكال السعي، ولم يجد أحد منهم سوى الفشل بمختلف أشكاله.
ولا أجد لذلك سببا إلا أن الأمة الإسلامية التي تسعى الجماعات الإسلامية إلى تطبيق أحكام الشريعة عليها لم تطبق بعد أحكام الشريعة في أنفسها، ومن لا يطبق الشريعة في نفسه لا يمكن أن يرضى عمليًّا بتطبيقها عليه، وإن كان من حيث النظر يدعي محبتها ويتباكى عليها.
أنا لا أصدق الشعوب الإسلامية عندما تدعي الرغبة في أن تكون محكومة بالإسلام وهي بعيدة عن تطبيقه في حياتها اليومية كما ينبغي, لأن من يرغب في تطبيق الإسلام كنظام للحكم وسياسة الأمة رغبة حقيقة لا يقصر في تطبيقه على نفسه وأسرته ومحيطه القريب, سواء أكان في مجال العبادة أم المعاملة أم الاعتقاد,
وما تردده الشعوب والجماعات الإسلامية من مناداة الحكام بتطبيق الشريعة
أفسره بحب موروث لهذا الدين، لكن محبة هذا الدين نظريا لا تعني تحمل أعباء تطبيقه، والدليل على ذلك من أوضح الأدلة، وهو عجز الأفراد ومنهم كثير من المتدينين عن تطبيق الدين على أنفسهم كما ينبغي.
نظريا كل المسلمين دون استثناء يتمنون أن يحكمهم رجل مثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكن من حيث التطبيق لو تولَّى هذا الرجل لن يكون مصيره بين المسلمين -وهم على ما هم عليه من البعد عن الإسلام- أسعد من مصير علي رضي الله عنه في عصره.
والسبب في ذلك: أن الشريعة ليست أمرا هينا, ليست قانونا يلبي رغبات الناس واحتياجاتهم، ويحمي حرياتهم وحسب؟ بل هي نسيج من الأنظمة التي تغطي حياة الفرد من ولادته وحتى وفاته, وتحكم تصرفات المجتمع والدولة, نسيج من الأنظمة أعدى عدو لها الهوى والشهوة والأنانية وحب الذات, نسيج من الأنظمة لا تقبل أن يعترض عليها معترض من منطلق العقل وحده، أو منطلق المصلحة وحدها، ما لم يكن العقل والمصلحة منضبطان بضوابطها، أي أنها أنظمة لا تقبل الاعتراض عليها إلا بها.
هذه هي حقيقة الشريعة الإسلامية، والحكم الإسلامي المحض، فهي في ظرف الأمة الراهن أثقل من قدراتها.
إن شريعة هذا وصفها لا بد أن تنشغل الأمة بكل فعالياتها بتربية الناس تربية طويلة المدى على القدرة عليها، بدلا من المطالبة بها وهم عاجزون عن تحملها.
كما ينبغي على الحكام أن لا يحولوا بين الأمة وبين تربية نفسها.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.