آخر الأخبار
فتاة القطيف والقديس أوغسطين
د. محمد بن إبراهيم السعيدي:
في القرن الخامس بعد ميلاد المسيح عليه السلام أسس القديس أوغسطين نظرية الحرب العادلة , وهي النظرية التي تبيح الحرب للمسيحيين شريطة أن تكون عادلة, وللحرب العادلة في نظر المسيحيين الذين اعتنقوا فكرة هذا القديس ثمان صفات ينبغي أن تتوفر فيها منها أن تكون معلنة من السلطة الصحيحة وأن تكون لرفع الظلم وأن يكون نجاحها محققا وأن لا يتضرر منها سوى المذنبين, ومن ذلك الوقت والدول المسيحية تخوض الحروب ضد بعضها وضد غيرها لكنها تجعل المبررات الأخلاقية سابقة لأي حرب لتكسب الشرعية الدينية في تحركاتها العسكرية, وليس مهما أن تكون هذه المبررات صحيحة أم كاذبة ألمهم هو أن توجد هذه المبررات وحسب.
والمراقب لحروب الغرب في العصر الحديث يجد أن صانعيها حريصون دائما على تقديم المبررات الأخلاقية قبل شنها, وليس كذلك وحسب بل نجد أن دول الغرب تصنع هذه المبررات أو تفتعلها , ويمكن أن نقول إن حرب الأفيون التي شنتها بريطانيا على الصين هي من أقدم حروب التاريخ المعاصر ومضت بريطانيا ما يقرب من أربعين عاما وهي تعد المبررات الأخلاقية لشنها وفي النهاية شنتها تحت مظلة حماية حرية التجارة, وأحدث الحروب الغربية المعاصرة هي حرب العراق ولا يخفى الجميع أنها شنت بمبرر أخلاقي وهو إزالة أسلحة الدمار الشامل وتحرير الشعب العراقي من الدكتاتورية.
وتحتفظ المخابرات الغربية وأجهزة صناعة القرار في دول الغرب بمبررات من هذا النوع لاستخدامها وقت الحاجة ضد جميع الدول كوسيلة ضغط سياسية لفرض ما يخدم مصالحها في تلك الدول.
بل أقدم من ذلك كانت حروب الدولة الرومانية وحروب الدول الصليبية قامت كلها بمبررات من هذا النوع.
ولا أظن الرواج البشع لقصة فتاة القطيف , وإظهار التعاطف معها عالميا إلا لرصدها كملف يستخدم في الضغط اللا أخلاقي لتحقيق المآرب الاستعمارية من المملكة العربية السعودية .
فلم تعد القصة شغل الرأي العام السعودي كما هو المفترض في أمثالها من القصص , بل شغل وزارة الخارجية الأمريكية ومحط اهتمام وسائل إعلام الغرب و قبل انعقاد مؤتمر فرض الاستسلام في انابولس.
ولا أعني أن قصة فتاة القطيف سيكون لها وحدها كل هذا الأثر على الدولة وليست الدولة ولله الحمد من الهشاشة بحيث تؤثر عليها قصة من هذا النوع, ولكنها قصة واحدة يمكن أن يضم إليها عشرات القصص وبشكل متتالي وبصياغة تخدم وجهة نظر واحدة لتكون المملكة في الذهن العالمي اسما مقززا مقترنا بالعشرات من القصص السيئة التي تجعل من أي قرار يتخذ ضدها قرارا مبررا لدى الرأي العام العالمي .
إنني أعلم أن ما لحق بالفتاة هو حكم تعزيري, والتعزيرات عقوبات ليست مقدرة شرعا , وبذلك يمكن أن يكون رأي أحدنا في تقدير العقوبة أنسب من رأي القضاة, هذا من حيث المبدأ لكن من حيث التطبيق فإن القاضي ألصق بالقضية وأكثر سبرا لخفاياها ولذلك فإن من المنطقي أن يكون حكمه فيها أقرب لتحقيق مقاصد الشريعة من التعزيرات وهي الزجر والتطهير والاعتبار.
ومع ذلك فمهما قلنا عن حرية الرأي في غير القطعيات ينبغي على كل إعلامي وقد أصبح الناس كلهم إعلاميين أن يعرفوا جيدا متى يتكلمون وكيف وأين , ومتى يتوقفون عن الكلام, فلم تعد الكلمة في غير محلها تضر بصاحبها وحده كما كانت قديما, ولا داعي لأن أن أقول كيف أصبحت الكلمة الصادرة دون دراسة لأبعادها ذات أثر مدمر.
قد تختلف مع القضاء أو الهيئات أو التعليم أو الداخلية لكن كن في خلافك متهما نفسك أولا, وقدم حين تقرر النقد مصلحة وطنك على إعلاء رأيك الذي لا بد قبل نصرته من أن تسأل نفسك وتتأنى في جوابها: ما هي المصالح المحققة التي تستفيد منها الأمة لو جرت الأمور على وفق ما تراه؟, وهل معك على هذا الرأي عقلاء الناس من أهل الاختصاص في المسألة التي هي محل رأيك؟, وكم هي إمكانية أن يستغل رأيك من لهم مآرب دنيا يريدونها من الأمة؟, وكما يكون الجواب عن هذه الأسئلة يكون مقدار القوة والحشد التي ينبغي أن تعدها لنشر رأيك وتأييده .
فإن كانت المصالح التي تظنها في رأيك غير محققة , أو لا يوافقك فيها عقلاء أهل الاختصاص, فلا ينبغي أن تعطي رأيك هذا أكثر من كونه وجهة نظر لا ينبغي أن تسرف في محاولة نشرها أو التقليل من الرأي الذي له السيادة من أجلها والاستهتار بأهله.
أما حين تلحظ أن رأيك مما يشتهيه أعداؤك وأعداء أمتك ليكون ذريعة لهم للتمكن منك فإن الدين والعقل ينهيانك جميعا عن إذاعته فضلا عن المغالاة في تسويقه.
ويكون جرمك أعظم حين تساهم بدافع من حب المغالبة أو غيرها من الدوافع في استجاشة الأعداء ليكونوا عونا لك في بلوغ مقصدك وتتغابى عن ما يرمون إليه من مصلحة لأنفسهم أبعد ما تكون عن مصلحة دينك ووطنك وأمتك.
التعليقات