إعلامنا المرئي بين الضعف والعلاج

تكبير الخط تصغير الخط

إعلامنا المرئي بين الضعف والعلاج

في تقرير وزارة الإعلام الذي تقدمت به لمجلس الشورى في العام26- 1427هـ جاءت فقرة في غاية الجرأة والصدق , الأمر الذي أثار استغراب جميع من قرأها , من الموافقين للتوجه الإعلامي والمخالفين له , ويحكى أن وزير الإعلام السابق حين سئل عنها في مناقشة مجلس الشورى له , قال ما يفيد معارضته لما جاء فيها .

تقول هذه الفقرة : ( والإعلام في المملكة العربية السعودية لم يكن طول تاريخه إعلاما متميزا أو مؤثرا أو حتى فاعلا كما يجب له , ورغم إدراك الجميع لذلك إلا أن تأثير بعض سلبيات هذا الإعلام كان له دور على الوضع الداخلي وعلى مواقف المملكة في سياستها العربية والإسلامية والدولية , وفي نفس الوقت حقق لإعداء المملكة فرصة ..ولم يكن ضعف الإعلام السعودي قاصرا على عدم قدرته للتصدي للهجمات الخارجية بل تعداه إلى ضعف داخلي … )

وعندي أن جزأ من الضعف الذي تتحدث عنه هذه الفقرة جاء من كون إعلامنا – وأخص المرئي – نشأ تمصيريا , بمعنى أنه ولد ليحاكي الإعلام المصري في أكثر سماته ’ ولما لم يكن لدينا بضاعة مرئية محلية فقد تجاوز الأمر حد المحاكاة إلى نقل المنتجات المصرية بكل سماتها لتدخل كل بيت وتغير فيه شيئا فشيئا .

ولا يخفى أن الإعلام المرئي المصري لم يكن هو أيضا معبرا عن مجتمع مصر بقدر ما كان أداة لتغريبه يشرف عليها الاستعمار الجاثم آنذاك على صدر الأمة الإسلامية , والذي لعب دورا كبيرا في استبقاء التبعية القيمية له بين الشعوب المسلمة .

نعم ليس معبرا عنه لأننا نتتبع التاريخ الاجتماعي في مصر في عشرينات القرن الماضي وما قبلها وما بعدها فلا نجد أن الصورة التي ترسمها السينما آنذاك هي صورة المصريين حقا , بل هي الصورة التي كان يتمناها لهم أصحاب هذه الصناعة .

وبالفعل نجح صناع السينما ومن بعدهم صناع المسلسلات التلفزيونية في ترويج القيم الدخيلة بين المصريين حتى أصبحت هي الأنموذج الذي تسعى المجتمعات الريفية لاقتفائه وشكلت الصورة النمطية عن المصري في خارج وطنه .

ونقل إلينا ذلك الإنتاج بكل ما فيه من مباينة لواقعنا , مضافا إليه وفي وقت متأخر نسبيا الإنتاج الكويتي الذي لم يكن أحسن حالا من نتاج مصر في كونه تغريبيا لا يعبر عن الكويت وأهله وإنما يرسم صورة الكويت كما يحبها أن تكون رواد الفن الأول والذين استطاعوا فعلا تحقيق جزء لا يستهان به منها في الواقع , ولا ينكر أحد أن استيراد ذلك الفن أحدث آثارا سلبية في إيجاد بيئة خصبة لزراعة التغريب في مجتمعنا المحافظ , وإن كان لم يحقق النجاح نفسه الذي حققه في مصر والكويت وبلدان عربية أخر لأسباب دينية واجتماعية وعلمية تمثل خصوصيتنا الثقافية التي أصبح البعض اليوم ينازع في وجودها .

وللأسف لم يلتفت أحد من صناع القرار في ذلك الوقت لهذه السلبية حتى جاء عام 1400 هـ حين أصدر الملك خالد بن عبد العزيز يرحمه الله قرارا يقضي بمنع أي رقص أو غناء نسائي في التلفزيون السعودي ومنع أي امرأة سعودية من الظهور في التلفزيون والاقتصار في المسلسلات على ما يحكي قصص قادتنا وتاريخنا وما يشابهه من الأمور المفيدة .

ومع أن هذا القرار جاء متأخرا ومع أن تنفيذه أيضا لم يكن على الوجه المطلوب إلا أنه أسفر عن إيجابية كبيرة في تعزيز خصوصيتنا الثقافية وساهم في إبقاء النظرة الإيجابية من مسلمي العالم إلى بلادنا والتي لخصها أبو الحسن الندوي رحمه الله في كتابه كيف ينظر المسلمون في الهند والعالم إلى المملكة العربية السعودية والذي قدمه هدية إلى الملك فيصل يرحمه الله .

وصاحب الابتعاد الزمني عن تاريخ صدور هذا القرار ابتعاد تدريجي عن تنفيذه إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم .

يتلخص من كل ذلك أن من أسباب ضعف الإعلام السعودي والمرئي منه بشكل خاص كونه لم يكن معبرا عن مجتمعنا مما أحدث انفصاما بين شخصية الإعلام وبين المجتمع الذي يفترض أن يكون متوجها إليه .

ولعل وزير الإعلام الجديد الدكتور عبد العزيز خوجة قد تبين له هذا السبب الذي أشرت إليه فوفقه الله تعالى إلى مشروع القرار الذي تحدثت عنه المواقع الإخبارية وهو إلزام المذيعات في التلفزيون السعودي بلبس العباءة وعدم استخدام المساحيق وكشف أي جزء من الشعر , ومع أن هذا القرار ليس كافيا , إلا أننا نحمده للوزير حتى قبل صدوره ونشد على يده من أجل التعجيل به كخطوة أولى في طريق العودة للتنفيذ الكامل للقرار الملكي رقم 4185/2 وتاريخ:14/2/1400هـ .

تعود أهمية هذا القرار إلى أن التحدي الأكبر الذي تواجهه بلادنا هو تحدي إثبات الصدقية في العمل وفق مقتضيات الشعار الذي قامت عليه , وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفق فهم السلف الصالح .

فخصوم المملكة يؤكدون على مقدار نفاقها في انتهاج هذا المنهج مستدلين بإعلامها المرئي الرسمي أو الإعلام المملوك لمواطنين سعوديين ومنهم مقربون من الأسرة المالكة , بينما يعبر الإعلام الإيراني مثلا عن دولة شيعية لا تعاني من أية تناقضات بين الشعار والإعلام .

وإثبات التناقض بين الواقع والشعار يصيب أول ما يصيب مشاريع الدعوة في الخارج وهي جهود لا تقتصر أهميتها على كونها واجبا دينيا يمتثل قول الله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125 بل وفق معطيات السياسة الدولية هي أيضا دعامة بقاء واستمرار , كما أن الرابطة الفكرية بين الدولة وشعبها هي عمود استقرار أيضا يمكن أن يتربص الخصم بأوتاده .

فالسلاح العسكري كان وما زال ثانيا في احتراب الدول وليس أولا , أما السلاح الأول فهو الاحتراب الفكري الذي يضع في مقدماته : أن الدول الراسخة في ضمائر شعوبها إنما قامت في الأصل على فكرة تبنتها وآمنت بها الشعوب , فتكون النتيجة أن أيسر وسيلة لتقليص هذا النوع من الدول أو الإطاحة به : قطع الوشيجة الفكرية بينها وبين شعوبها , والقضاء على مدها الفكري الذي يعد ترسا أمميا لحمايتها .

قد يقول أحدهم : إن البرامج الدينية ما تزال تأخذ حيزا لا بأس به من خريطة البرامج , وقد يكون هذا صحيحا قبل سنوات أما لآن فنسبة البرامج الدينية في تقلص أرجو أن لا يكون مستمرا .

هذا مع أنني لا أطالب بحصة أكبر للبرامج الدينية بقدر ما أطالب بجعل الطابع الديني هو الغالب على القناة سواء أكان ذلك في برامجها الإخبارية أم الترفيهية أم الثقافية أم الموجهة للأطفال , والواقع اليوم أن طابع القنوات السعودية ليس طابعا دينيا بل هو طابع محافظ إلى حد كبير .

وهناك فرق كبير في تقديري بين الطابع الديني والطابع المحافظ , يتلخص في كون الطابع الديني يوجه في جميع تفاصيله رسالة تخدم الدين الذي ينبغي أن تكون مهمتنا هو تقديمه للناس , أما الطابع المحافظ فهو الملتزم بسقف من الأخلاقيات دون أن يكون مسئولا عن توجيه أي رسالة .

قدرنا أن تكون دولتنا دولة فكرية وقدرنا أن نكون شعبا اجتمع على فكرة , فلا بد أن نستصحب وعينا بهذا القدر في تقديم أنفسنا للناس , وفي تقديم دولتنا لشعبها حتى ننأى بها عن أي انفصام فكري بيننا وبينها .

ومن الوعي بهذا القدر أن يراعى في إعداد جميع البرامج إيصال الرسالة الدينية بطريق مباشر أو غير مباشر ويختلف ذلك باختلاف البرامج من حيث نوعها والفئة المستهدفة بها , وذلك سيجعلها معبرة عن روح المجتمع قريبة منه محببة إليه كما سيجعلها درعا منيعا نواجه أعداءنا الفكريين , ومنبرا للفكر الذي نوقن أن من مهامنا في هذه الحياة إيصاله للآخرين .

وسوف أتحدث في القسم الآخر من المقال عن سبب آخر من أسباب القصور لازم إعلامنا طوال عقود من الزمن .

إعلامنا بين الضعف والعلاج (2)

ذكرت في الجزء السابق : أن عدم تعبير إعلامنا المرئي عن مجتمعنا كان عاملا من عوامل ضعفه المتمثل في إحداث انفصام بيه وبين الأمة واستغلاله ليكون شاهد قطيعة بين الدولة وشعارها

وأكمل اليوم ذلك السرد قائلا :

قد يستدرك أحدهم بالسؤال عن كيفية نجاح الإعلام المصري مع أنه يعاني من المشكلة نفسها التي أشرت إلى كونها أحد أسباب ضعف إعلامنا المرئي وهي عدم تعبيره عن الأمة ؟

وصاحب هذا الاستدراك يخالفنا في مفهوم النجاح للإعلام الرسمي , فحين ننظر إليه على أنه: الوصول إلى تلبية احتياجات الأمة من الوعي والاستقلالية والاعتزاز بالهوية الدينية والتراثية والرقي بفكرها وأخلاقها وفق مثلها العليا والدفاع عنها تاريخا وقيما وواقعا والدعوة إلى منهجها , ينظر إليه هو على أنه الوصول إلى تحقيق أهداف أجنبية عن المجتمع ومحاولة مسخه وإذابته في غيره تمهيدا لقتل ما يمتلكه من مقومات استقلال ثقافي وهوية خاصة , ولهذا يعد هذا المستدرك الإعلام المصري ناجحا ونعده فاشلا إلا إن قصدنا النجاح في السقوط من الهاوية .

وحتى هذا النجاح السلبي إنما تحقق بخدمة عوامل كثيرة تضامنت لتصل به حيث نراه , ولو انفرد الإعلام المصري بالأمة مجردا عن تلك العوامل لواجه سقوطا مبكرا أو موتا مفاجئا دون أن يكون له أي أثر في مصر فضلا عما وراءها , ولعل من هذه العوامل : كونه محلي الصناعة وأنه ولد وترعرع في ظل استعمار ثقافي وسياسي وغياب أو تغييب للدعوة العملية والتوعية ضد التغريب ومخاطره .

والمتتبع المنصف لأحداث التاريخ المعاصر يجد أن هذه العوامل وُجد ضدها في المملكة العربية السعودية زمن ورود الإعلام المرئي إليها .

فالتوعية ضد مخاطر التلفاز وُجدت قبل وجود التلفاز ذاته وواكبت مسيرته حتى يومنا الحاضر –بصرف النظر عن مدى الموافقة على أساليبها التي بدأت بها – الأمر الذي كان له أبلغ الأثر في بطء حركة التغريب في تلفزيوننا وتمسكه بطابع المحافظة الذي أشرنا إليه سابقا .

بل منعت التوعية ضد مخاطر التلفاز في بلادنا من اتخاذ أبطال منتجاته المستوردة أبطالا في ذهنيات المتلقين من شبابنا , بل وظلوا –أي أبطال الإعلام – زمنا طويلا رمزا للاستنقاص والتصغير عند الحديث عن منطلقاتهم وقيمهم الأخلاقية , وإلى حد بعيد ساهمت تلك التوعية في صرف المستهدفين بالإعلام المرئي عن الإيمان بصدقيته أو حتى الحرص على متابعته .

ولم يكن لدى القائمين على الإعلام المرئي عندنا عناية كبيرة بتغيير الصورة التي رسمها المحذرون من مخاطر الإعلام بقدر ما كانوا يراهنون على إمكانية تغير هؤلاء المحذرين مع الزمن بفعل استمراء المجتمع لما يقدمه الإعلام من مخالفات وبفعل إعطاء المشايخ حصة من خارطة البث تتسم غالبا بالتقليدية وتعتمد جاذبيتها على مدى جاذبية الشيخ فقط.

ومع أن برامج المشايخ هؤلاء نجح بعضها في اجتذاب المشاهدين نجاحا لم تحققه المسلسلات الأسبوعية آنذاك ولا البرامج الغنائية إلا أن ذلك النجاح لم يكن شافعا للعمل المشايخي كي يحظى بأوقات أفضل أو بشيء من العناية بتطويره الإنتاجي , مع أن القائمين على الإعلام كانوا لا ينفكون عن استيراد برامج عن القرآن والإيمان ذات كفاءة إنتاجية جيدة من تلفزيونات عربية أخر .

والسبب في هذا الانصراف عن تطوير العمل الإعلامي الديني المحلي في تقديري قناعة القائمين على الإعلام المرئي عندنا منذ نشأته -وربما حتى اليوم- بأن المنهج السلفي الذي ينطلق منه المشايخ والمتدينون لا يمكن أن يكون منهجا للإعلام بحال من الأحوال , إذ إن الإعلام في نطرهم تكمن جاذبيته في وجود المرأة والغناء وهما محظوران سلفيا .

ومن منظورهم هذا خرجت المرأة السافرة مذيعة ومغنية وممثلة في التلفزيون السعودي منذ بداياته وبذلت الأموال في استيراد البرامج التمثيلية والغنائية والعلمية كي يتحقق التفوق لإعلامنا المرئي بالاستيراد الثقافي, لكن هذا التفوق ظل وما يزال حلما .

يقول بعضهم : إن القائمين على الإعلام آن ذاك كانوا محقين في تصورهم مجافاة السلفية لمتطلبات الإعلام المعاصر , ويرون أن الضغط الديني على الإعلام السعودي هو سبب تخلفه عن ركب الإعلام العربي الأقل منه قدرة مالية , وقد بلغ ضغط العلماء على التلفزيون أن كانت الرقابة تحذف من الأفلام والمسلسلات حتى القسم بالنبي والأولياء فكيف تريدون لمثل هذا الإعلام أن ينجح في ظل مثل هذه الرقابة المتزمتة ؟.

والجواب أن هذه الرقابة التي يسميها المعترض متزمتة لم تكن مراعاة للعلماء الذين لم يكونوا يشاهدون التلفاز أصلا , بل شيء من المراعاة أو محاولة الجذب أو المخادعة للمجتمع الذي كان شديد التقطيب عند كل أمر يخدش الحياء أو العقيدة , وكان متكفلا بتأليب العلماء على الإعلاميين متى تجاوز الأمر حده فهو مجتمع سلفي التصور جدا , وليس صحيحا أنه استمرأ بسرعة ظهور المرأة مذيعة وممثلة ومغنية , لكن أسلوب التدرج في الطرح كان أسلوبا ناجحا في تمرير كثير مما يريده القائمون على الإعلام المرئي ولا يريده المجتمع .

ومما يؤسف له : أنه مع فشل إعلامنا داخليا في اجتذاب المشاهد رغم منهجه التدرجي في الانفلات من قيود المجتمع السلفية ومع تعثر التدرج مرات عديدة بفعل رقابة المجتمع إلا أن سياسة التدرج في فرض هذا الانفلات ربما مازالت تعبر عن قناعات بعض المسئولين عن التلفاز حتى وقت قريب , ولم يصلوا بعد إلى القناعة بأن ارتكاز التلفاز الرسمي على العمود السلفي هو الذي سيضمن له النجاح داخليا وخارجيا .

أما داخليا : فلأن الإعلام حين يعبر عن منطلقات الأمة ومفاهيمها الخاصة والعامة سيكون محل ثقتها ولا شك أن الثقة تعد عاملا مؤثرا من عوامل الانجذاب الجماهيري .

ودوليا : لأن الجماهيرفي العالم الإسلامي وغيره تريد إعلاما صادقا في توضيح رؤيته مهما كانت هذه الرؤية مخالفة له, وحين تحس هذه الجماهير تناقضا بين منطلقات الدولة ومظهر إعلامها فلا شك أنها ستنزع عنه وصف الصدقية , فيجمع بذلك إلى عيوب الأداء في الإنتاج عيب النفاق في العطاء .

نعم : سوف يواجه الإعلام المرئي صعوبات كثيرة في الإنتاج حين يقرر أن يكون سلفيا خالصا , وذلك لا لكونه سلفيا وحسب , بل لأنه حينذاك إعلام فكري , أي أنه يريد أن يصل إلى أهدافه عبر الفكر , والإعلام المؤدلج بشكل عام إذا لم يستخدم الغرائز والأهواء وسيلة له, يحتاج إلى مجهود أكبر في إنتاجيته كي يحقق الكسب الجماهيري .

فهي مشكلة لا تخص الإعلام السلفي بل يعاني منها كل إعلام فكري موجه .

ومع ذلك هي إشكالية ليست عامة في جميع النشاطات الإعلامية بل هي خاصة بالنشاط الدرامي , وكانت مشكلتنا في إعلامنا المرئي الاعتقاد السائد بأن الدراما هي وحدها القادرة على جذب المشاهد , ومع أن التلفزيون السعودي بث عددا من البرامج الحوارية والتعليمية لقيت من القبول أكبر مما تلقاه البرامج التمثيلية إلا أن هذا الاعتقاد لم يتزعزع .

فقد كان مشاهدوا نور وهداية ومن كل بحر قطرة والكلمة تدق ساعة ومنكم وإليكم والعلم والإيمان وبرنامج البادية والحياة الفطرية , قطاع عريض من المجتمع أغفله المنسقون للعمل التلفزيوني السعودي حين لم يقوموا بأي إجراء لتطوير الإنتاج في البرامج الثقافية المتماشية مع المنهج السلفي , وكأنهم يرسلون رسالة بالخط العريض : جمهورنا الحقيقي هو من يطلب الدراما والغناء فقط .

ولعلي أتحدث فيما بعد عن ضعف الإعلام المرئي في مواجهة اتحديات الخارجية

إعلامنا المرئي بين الضعف والعلاج (3)

ناقشت في الحلقة السابقة بعض الأسباب التي تصرف الجمهور السعودي عن متابعة إعلامنا المرئي , ولعل انصراف الجمهور المستهدف بالوسيلة الإعلامية عنها من أهم العوامل التي تحدث فشلا لهذا الإعلام في مواجهة التحديات الخارجية والذي نص تقرير وزارة الإعلام على أن إعلامنا فشل في مواجهتها , , وذلك أن صرف المواطن أيا كان جنسه عن إعلامه يعد مطلبا للقوى المتربصة ببلاده داخليا وخارجيا , وقد أغنى إعلامنا تلك القوى عن بذل أي جهد في سبيل الوصول إلى هذا المطلب , فكان إعلامنا المصدر الأخير والأقل صدقية في نفوس المواطنين السعوديين .

ففي جانب الأخبار : ظل قياس الأهمية بعيدا كل البعد عن المواطن , فما تراه وزارة الإعلام مهما فهو المهم الذي ينبغي أن يصدر وأن يناقش , أما ما يراه المواطن مهما فليس من الضروري أن يكون مهما لدى وزارة الإعلام ولذلك ليس ضروريا أن يكون موضع تفصيل بل ولا ذكر أيضا .

ومثال ذلك أخبار الاستقبالات والتوديعات المراسمية , وهي مثال اشتهرت به النشرات السعودية حتى أصبح علامة عليها , فعند استقبال رئيس دولة ما , يستغرق معد النشرة في ذلك تفاصيل المراسم من صافح من ومن عانق من ومن حيا من , لكنه عند الحديث عن سبب وجود الضيف وما دار في اللقاء يقول : وتبادل الضيفان الأحاديث الودية واستعرضا العلاقات بين البلدين .

مما يجعل المتلقي السعودي يذهب إلى إذاعة لندن ومنتكارلوا وصوت أمريكا , ليجد فيهن الحديث المعمق عن الزيارة وأسبابها ونتائجها , الأمر الذي يهيئه ليكون رهينة لوجهة نظر تلك الهيئات الإعلامية التي كانت حتى وقت قريب هي المشكلة للرأي العام السعودي والعربي .

مثال آخر : أخبار التاميل والخمير الحمر من متمردي سيريلانكا ظلت زمنا طويلا تتصدر الأخبار السياسية في جميع النشرات مع أن القضية برمتها لم تكن محل اهتمام المواطن السعودي , وفي مقابلها لا نجد أخبارا عن مناطق أخرى من العالم للمواطن السعودي عناية أكبر بها , كأخبار المسلمين في شيننغ يانج , وقد يقال إن حساسية العلاقات السعودية الصينية ربما تكون مانعا من نشر مثل هذه الأخبار ؟.

وهذا في ذاته يعد عيبا لازم الأخبار في إعلامنا حتى هذا اليوم حيث تجعل علاقات الدولة معيارا لما يمكن نشره على اعتبار أن نشر الأخبار ربما يؤثر على العلاقات السياسية بناء على تصور أن العلاقات الدولية مطلقا ودون تفصيل أهم من شعور المتلقي بصدقية الإعلام , وهو تصور خاطئ وعكسه هو الصحيح , وحين نجد أن خبرا قد يؤثر على العلاقات السياسية فإننا ينبغي أن نقيس هذا التأثير فإن كان مما يعالج بطرق دبلماسية أخرى فالخبر هو ما ينبغي تقديمه , بل إن تأثيره السياسي ينبغي أن يستغل ليكون مكسبا لشعبية الإعلام وزيادة الثقة به , وإن كان تأثير الخبر فادحا لدرجة تجعل الدولة في حرج شديد وكان من الأخبار التي يعتني المتلقي بها فيمكن اللجوء إلى الذكاء في الصياغة إضافة إلى إعلان استقلالية الإعلام للخروج من الحرج السياسي على أن يبقى الخبر هو المقدم حتى يظل المتلقي معنا .

ومن أوضح وأقرب التحديات التي فشل الإعلام في مواجهتها قضية التطرف أو الإرهاب , وهي قضية خطيرة جدا وحية ولذلك أحبذ أن أخرج عن عنوان المقال قليلا وأعمم الحديث فيها على مختلف وسائل الإعلام السعودية.

فإنه غير خاف على أحد منا ما للتطرف من خطر على الأمة في هذا الزمان وفي كل زمان , وغير خاف أيضا أن الإعلام بمختلف وسائله هو المعول عليه في الوقاية من التطرف بجميع أنواعه قبل وقوعه كما يعول عليه في مكافحته بعد الابتلاء به , وهذا مما لا نحتاج إلى كثير قول لإثباته .

ولكن المتتبع للإعلام السعودي بجميع قنواته يلاحظ أن التوعية الجادة المدروسة والمؤثرة ضد التطرف والإرهاب من أقل ما يمكن مشاهدته أو سماعه أو قراءته في وسائل إعلامنا , فلا يوجد برنامج تلفزيوني أو إذاعي مخصص لمناقشة الأفكار التي يعتنقها الإرهابيون وتعد خطرا على شبابنا .

وكأن الحاجة إلى مناقشة هذه الأفكار مناقشة صريحة والتوعية الجادة في مواجهتها ما تزال خافية على القائمين على هذه الوزارة رغم شديد الابتلاء بها في أوساط أبنائنا وعالمنا الإسلامي .

بل إن الإعلام من أبعد الأجهزة الحكومية عن النوازل المعاصرة والتي حلت بالأمة إن لم نقل إنه يقف على الطرف المؤثر سلبا في هذه القضايا .

وقبل أن أذكر نبذا من التقصير في كل قضية على حدة أشير إجمالا إلى أن الندوات العلمية الدينية التي كان التلفزيون السعودي متميزا بها –وذكرت في الحلقة الأولى من هذا المقال: أنها رغم كثرتها لم تكن تحضى بالتوقيت الجيد ولا عوامل الإنتاج الجيدة أيضا – هذه البرامج انقطعت انقطاعا شبه كلي منذ زمن, مثل برنامج في رحاب الإسلام الذي كان يقدم بشكل يومي , وكنت حينها قد تقدمتُ إلى إدارة البرامج الدينية في تلفزيون المملكة العربية السعودية _القناة الأولى _ بمقترحات لتطوير هذا البرنامج حتى نصل إلى مزيد من النفع به بإذن الله تعالى لكن إلغاء هذا البرنامج كان أسبق من مناقشة مثل هذه الاقتراحات , وكذلك غيره من برامج الندوات التي كان يمكن أن تستغل بشكل متميز في التوعية الفكرية ضد الإرهاب .

أما القضايا المطروحة من قبل المتطرفين على التفصيل فكان تعامل الإعلام السعودي معها في منتهى السلبية ومن نماذج ذلك :

1- قضية الجهاد في العراق والتي تعد من البلايا العظيمة التي نزلت بالشباب , لم يناقشها الإعلام إلا لمدة أربعة أيام عند صدور فتوى المفتي جزاه الله خيرا.

وفي هذه المناسبة استضافني برنامج من منبر الحرم في قناة الإخبارية عبر الهاتف وذلك في يوم 24رمضان 1428 ووجه مقدم البرنامج الأستاذ عبدالله العيدي لي سؤالا نصه : هل الإعلام يودي دوره في التوعية في مسألة الخروج إلى العراق
فأجبت : إن دور الإعلام للأسف في هذه القضية محدود جدا إن لم يكن معدوما , وإنما نشط بعد بيان سماحة المفتي وكان نشاطه جيدا من حيث الكم , أما من حيث الكيف فعليه ملاحظات نأمل من القائمين على وسائل الإعلام التنبه لها وهي :

أولا : المقصود هو توجيه الشباب إلى عدم الخروج إلى العراق لا معاندتهم وتبكيتهم ولذلك ينبغي أن يصاغ خطابنا بحيث يقبله الشباب ويثقوا به , ولأجل أن يقبل الشباب منا , لا بأس من تأجيل الإعلان عن بعض قناعاتنا المصادمة لهم إن لم نفل التنازل عنها حين لا تكون ضرورية , لأننا نعلم تربويا : أنه لا يبعد الشباب عنا مثل مصادمة فكرهم , وقد كان هذا هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل عن رأيه في البقاء في المدينة يوم أحد إلى رأي الشباب .

ثانيا : ومما ابتلي به الإعلام في معالجة هذه القضية أنهم يصفون من يتقبل فكرة الخروج إلى العراق بالسذاجة والبساطة والتهور ولا يمكن أن نسمي الشاب ساذجا ومتهورا ثم نطلب منه أن يسمع منا .

ثالثا : يجب علينا أن لا نصوغ خطابنا بطريقة يفهم منها مصادرة حق إخواننا في العراق – وأخص علماءهم – في الحكم على واقعهم وما يحتاجه هذا الواقع .

فكما أننا في المملكة لا نرضى من أحد أن يحكم نيابة عنا فيما ينزل بنا من أحداث فكذلك لا نرضى نحن أن نقوم مقام غيرنا في الحكم على واقعهم

ومن مصادرة حقوق علماء العراق : القطع بأنه لا يوجد جهاد في العراق أصلا , والمتصور عقلا وشرعا أن نفوض العلم بذلك إلى أهل العلم والحل والعقد في العراق ونقول هم أعلم بواقعهم وما عندهم , أما القطع بنفي الجهاد في العراق فإضافة إلى أنه مصادرة لحق العراقيين هو مصادمة أيضا للشباب تجعلهم يفقدون الثقة بنا ونحن في أمس الحاجة لأن يثقوا بنا

رابعا : عدم صياغة الخطاب إلى الشباب بطريقة وأسلوب يفهم منه التهوين من شأن مأساة العراق , أو الثناء على رموز الاحتلال ووصفهم بالشرعية وإضفاء صفة ولاية الأمر عليهم , ونحن حتى لو كنا-على أسوأ تقدير – نعتقد كونهم أولياء أمر أو شرعيين فليس من الحكمة التصريح بذلك , إن اختيار أوقات التصريح بالأفكار والآراء أهم من الأفكار ذاتها .

خامسا : ينبغي أن لا نجلب للحديث في هذا الأمر الخطير والحساس إلا من يثق الشباب بهم من العلماء والدعاة والكتاب .

فلا ينبغي أن تأتي بكتاب وصحفيين عرفوا لدى الشباب بمواقفهم من العمل ضد الدعوة بشكل عام أو ضد النشاط الإسلامي ثم نطلب من الشباب أن يصدقوهم أو يأخذوا عنهم , إن مثل هذا الأمر سيشعر معه الشباب أننا نسخر منهم أو نتشفى بهم , وقد كانت قناة الإخبارية غير موفقة أبدا حين استضافة عند وقوع عدد من الأحداث كتابا ليبراليين ليعلنوا تشفيهم بالصحوة والتدين من خلال هذا الحدث .

بل إن هناك مشايخ لا يثق بهم الشباب , وهؤلاء المشايخ نحن نعلم أن الشباب على خطأ في عدم الثقة بهم , لكن لا أعتقد أن هناك ما يمنع أن نستبعد هؤلاء المشايخ الذين للشباب منهم موقف في هذا الظرف تحديدا .

وينبغي أن نركز على العلماء والدعاة الذين يحبهم الشباب أو على الأقل ليس للشباب موقف منهم فإن ذلك أحرى لأن يستمعوا إلينا .

ألا ترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى قريش عثمان بن عفان ولم يرسل أبا بكر وعمر, وعلي بعث إلى الخوارج عبد الله بن عباس ولم يذهب هو .
إن المتحدثين في هذه القضية هم سفراؤنا لدى الشباب وانتخاب السفراء بحيث يلائمون مهام السفارة أمر شرعي .

هذا ما قلته في تلك المداخلة التي أبديتها بناء على اتصال القناة بي حول الجهاد في العراق , وحين يقرر الإعلام العودة إلى توعية الشباب في هذه القضية أرجوا أن يلاحظ ما ذكرته آنفا .

2 – قضية التفجيرات الداخلية لم تناقش في وسائل الإعلام مناقشة علمية بل على العكس نوقشت مناقشة سيئة جدا, فيها الكثير من العناد والاستفزاز, مثال ذلك : أن قناة الإخبارية أنتجت فيلما تقدمه مذيعة سعودية نسأل الله لها الشفاء تحذر فيه من مخاطر الإرهاب ,وتقديم المذيعة لهذا البرنامج في ذاته يعد استثارة للشباب المتدين لا مناقشة لهم , كما أن المذيعة ظهرت في البرنامج وهي سافرة الوجه مبدية لخصلات من شعرها مزدانة بالأصباغ وهذا أمر محرم , وإذا قلنا إن إبداء الوجه فيه خلاف فإبداء الشعر والمكياج لا مبرر له أبدا , ولم تنتج القناة بعد ذلك برنامجا آخر في هذا الموضوع واكتفت بإعادة البرنامج مع كل حادثة .

3- قضية التكفير والولاء والبراء , لم تحض بأي تغطية علمية لها طابع الاستمرار بل يقف الإعلام السعودي ضد الحديث في هذه القضايا من قبل المشايخ و يترك الحديث عن الولاء والبراء لمن ليس لهم صلة بالعلم الشرعي فيتوسعون فيه توسعا عظيما , أو ينكرون نسبة هذه العقيدة , مما يجعل حديثهم غارقا في الولاء المنهي عنه .

4- في الإعلام بجميع أنواعه نفس من التشفي ضد الشباب الملتزم يلاحظ في كثرة استكتاب من لهم مواقف مشهودة من الدعوة وحجب غيرهم ويكتبون عند كل حديث بنفس فيه من الشماتة بالتوجه السلفي أكثر مما فيه من التوعية , وكذلك الأمر في استضافتهم في القنوات السعودية عند الحديث عن القضايا الفكرية المعاصرة .

5- لا يوجد في الصحف السعودية عمود واحد متخصص في مناقشة الأفكار المتطرفة لأحد من المشايخ المؤصلين المقبولين لدى الشباب , وملحقا الرسالة والدين والحياة , حافلان بالكثير من القضايا الإسلامية ولكن قضايا التطرف لا تأخذ منهما حيزا كبيرا , كما أنهما يفتقران إلى المناقشة الصريحة في هذه القضايا ولو بالقدر من الصراحة التي يناقشون بها مسائل كقيادة المرأة للسيارة والاختلاط .

وأختم هذه السلسلة من المقالات بالقول : إنها ليست إحصاء لجميع جوانب القصور في الإعلام السعودي , كما أنها ليست بحثا متخصصا , لكنها انطباعات متلقٍ للإعلام ومشارك فيه أقدمها بين يدي القائمين عليه في عهده الجديد الذي تفاءل به الجميع وما زالوا ينتظرون منه . وأسأل الله تعالى أن ينفع بها .

 

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.