أما أنا فأرى …

تكبير الخط تصغير الخط

الفقه الإسلامي من أصعب العلوم إن لم نقل إنه أشدها صعوبة على الإطلاق , وليس هذا القول مجازفة مني بل هو تعبير عن حقيقة علمية يعرفها كل من سبر علم الفقه من حيث ما يحتاج إليه الفقيه من أدوات علمية ومادة فقهية , وقدرات خاصة .

وكي أقرب الأمر للقاريء الكريم , أبين له : أن طالب الفقه يحتاج أن يعرف أولا النحو والصرف والبلاغة وقراءة القرآن الكريم , ثم عليه أن يدرك من آيات كتاب الله حفظا وفهما مواضع الاستدلال على الأحكام الشرعية منها , هذا أقل قدر ممكن أما أكمل قدر ممكن فهو أن يدرك جميع آيات القرآن الكريم حفظا وفهما , لأنه لا يوجد آية في كتاب الله تعالى إلا ويمكن أن تكون وسيلة للتعرف على حكم شرعي في مسألة فقهية , ولو لم تكن في أساسها مسوقة لبيان هذا الحكم , كما أن عليه أن يحصل من أحاديث الأحكام ما يحيط به بجميع أبواب الفقه , وبعد ذلك يمكنه أن يقرأ في مصنفات الفقه متدرجا فيها من الأيسر إلى ما هو أصعب منه , حتى يصل إلى المدونات الكبيرة التي تشرح خلافات العلماء وتبين أوجه استدلالهم , وفي هذه الأثناء تلزمه دراسة أصول الفقه والاعتناء بقواعده , ويداوم على تطبيقها على ما يتعلمه من مسائل فقهية .

وعلم أصول الفقه لمن لا يعرفه : هو العلم الذي يعتني بقواعد استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية , فهو يشتمل على بيان دلالات الألفاظ وتقسيمها إلى عام وخاص ومجمل ومبين وظاهر مفسر ونص ومؤول ومشترك ومنقول ومرادف ومطلق ومقيد , ويبين طرق أخذ الحكم الشرعي من كل قسم من هذه الأقسام , كما يبحث علم الأصول في تقسيم السنة ومكانة كل قسم منها في الاستدلال , ويبحث في النسخ وأحكامه , والإجماع وأقسامه والقياس وطرق الاستدلال به , كما يتحدث عن المفتين وشروطهم والمستفتين وآدابهم , والاجتهاد ودواعيه وشروطه ومتى يصار إليه والتقليد وأحكامه , ويتحدث علم أصول الفقه أيضا عن مقاصد الشريعة وأدلتها وفوائد معرفتها .

كما يقعد علماء الأصول للأدلة المساندة للكتاب والسنة , وهي أدلة ليست أصلية , بمعنى أن دلالتها ثبتت هي أيضا بالنص , وذلك نحو العرف والبراءة الأصلية وسد الذر ائع والاستقراء والاستصحاب .

بعد أن يحوز الطالب على هذه المعارف كلها , فهو حامل فقه , ومن الصعب أيضا أن يطلق عليه لفظ الفقيه , وذلك أن الفقيه هو من ثبتت لديه بعد استيعابه لهذه المعرف ملكة وفهم ثاقب يستطيع بهما أن يفهم عصره وحاجاته ويدرك إلى جانب الواقع مآلات الأمور ومصائرها , إلى جانب الدين والتقوى وتقديم الحق على الخلق وتجنب الشبهات والتجانف عن الهوى .

عندما يجتمع للطالب كل ما ذكرت يستحق بجدارة أن يشار إليه بالبنان ويسميه الخاص والعام فقيها .

ومن حقوق من تحصلت له كل هذه المعارف : أن تكون الفتوى في الدين وتبيين الحلال من الحرام حكرا عليه , وفي المقابل فإن من حقوق الأمة على من ولاهم الله أمرها أن لا يمكن غير هؤلاء من التقدم بين يدي الله ورسوله والقول على الله بغير علم .

كما أن من واجب الأمة أن تنظر في حلالها وحرامها إلى ما يقوله هؤلاء فهم حملة الرسالة وورثة الأنبياء , وهم الطائفة التي عناها الله تعالى بقوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }التوبة 122 وهم الأمة المعنية بقوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُ وْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }آل عمران104

ولا شك أن من بلاء الله تعالى لهذه الأمة في هذا العصر قلة أمثال من وصفت , وتشوف الجميع إلى القدح فيهم بدعوى حرية الرأي والتعبير, ومن ثم أخذ دورهم في التحليل والتحريم , فترى الكل يقول بملء فيه : أما أنا فأرى .. مبررا اعتلاءه هذا المنصب الشريف بأن الدليل ليس حكرا على أحد , وبما أن الدليل في متناول الجميع فلكل الحق أن يرى فيه رأيه وليس الدين ملكا لفلان ابن فلان .

وهذا القول يغفل صاحبه عن أن التعاطي مع أدلة الشرع يحتاج بالضرورة إلى كل ما أسلفنا ذكره من أدوات , ومن اقتحم مجال الاستنباط من الأدلة دون أن يقدم لذلك بتأهيل نفسه وتهيئة عقله وإدراكه فقد اقتحم أمرا خطيرا وتجرأ على غمس نفسه في النار بحمل آثام الناس مضافا إلى إثم نفسه , غفر الله لنا وله .

فهو من المعنيين بالنهي في قوله تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36

ومما جاء في التحذير من الفتوى بغير علم قوله تعالى ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ?[يونس: 59-60] ?وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? [النحل

ولا يخفى على أحد أن هذه الآيات أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم , وأول من خوطب بها صحابته الكرام رضي الله عنهم , وإن كان لأحد أن يتجرأ على الدليل ويزعم فهمه وفقه ما فيه فهم أولئك الرعيل الذي خوطبوا بهذه الآيات , وكانوا هم أهل اللغة وأقدر الناس على فهم مراد الله منها , إلا أن التحذير الإلهي من الجرأة على الفتوى لم يستثنهم بل دخلوا هم أيضا في جملة المحذرين , وقد كانوا رضي الله عنهم أعظم الناس امتثالا لأمر الله تعالى وأخوفهم من الفتيا , حتى إنهم رغم كثرة عددهم وتشتتهم في الآفاق لم يتجاوز من عرفت عنهم الفتوى منهم ثلاثين صحابيا , رضي الله عنهم وجعلنا من السائرين على نهجهم .

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.