ماذا بعد قرار الملك 1-2

تكبير الخط تصغير الخط

بعد عدد من الطوام التي أنتجتها فوضى الفتوى في بلادنا كتبت كغيري عددًا من المقالات نشرها ملحق الرسالة وعدد من المواقع الإلكترونية أتحدث فيها عن مخاطر هذه البلوى التي حلت في الأمة الإسلامية وكان مما كتبت: من مخاطر فيه قولان، والفتوى ومسألة الحرية، والفتوى والكهنوت، وقالوا هذا ما ندين الله به. وجاء سريعًا ولله الحمد علاج هذا الداء في التوجيه السامي إلى سماحة المفتي والذي لم يعد خافيًا على أحد. ولعلنا نفكر ولو بصوت مسموع فيما يمكن اقتراحه من التدابير على صناع القرار والفاعلين فيه كي نضمن الوصول إلى ما تحمله روح القرار من الرغبة في حماية المؤسسة الدينية من عوامل الضعف وحماية المجتمع من دواعي التفكك، وهي روح لم أجد أن أحدًا من الفرقاء المؤيدين والمتحفظين يشكك فيها، لكن شيم الناس في فهم أمثال هذه القرارات أن يغلبوا جانب العموم والإطلاق على التخصيص والتقييد، وهذا في زعمي ما جعل بعض المستهدفين بإصداره أو ربما كلهم يكونون أكثر الناس ترحيبًا به لأن شيمة الفهم العام أو المطلق تتيح لهم ابتكار القيود التي تدعوا لحملة على معارضيهم، وهذا بعينه هو ما حدث تجاه هذا التوجيه الملكي، حيث لم نسمع أحدًا ممن نظن أنهم معنيين بالنهي فيه قال سمعًا وطاعة وعزم على الكف عما نهي عنه، بل الكل يعتقد أن غيره هو المراد بما تم إقراره. وهذه الإشكالية في التفسير تنادينا أن نتوقف عن الجدال حول المشروعية لنتطلع إلى الأبعاد والبواعث فنقترح من خلالها ما يمكن أن يكون بعد ذلك. ولعل من ذلك شيء من المقارنة بين تاريخ المملكة مع الفتوى وتاريخ غيرها من الدول الإسلامية دفعني إلى التفكير فيه طريقة وكالات الأنباء العالمية في التعامل مع هذا التوجيه، حيث تلقته ودبجته بالكثير من التعريض بالمملكة العربية السعودية وما أصابها من اختلال في مفهوم الفتوى وضعف لنفوذها في المجتمع السعودي مع أن الحق الذي يثبته التاريخ والواقع أن المملكة العربية السعودية ليست هي البلد الوحيد من بين، بلاد المسلمين الذي ابتلي بعض أهله بالتطاول على منصب الفتوى والتقدم بين يدي الله تعالى ورسوله جرأة على الحق وبعدًا عن الورع سواء من متجرئة أهل العلم أم من الورقيين من كتاب الصحافة، لكن المشكلة في السعودية لها مرارتها الخاصة التي لا يتوقف أثرها عند الفم واللسان، بل يتعداهما إلى الكبد والطحال والأمعاء ليحدث في كل زاوية من تكوين الجوف السعودي التهابًا من نوع خاص لا يوجد مثله في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي. وأجزم أن السبب في ذلك يرجع إلى كون المملكة تكاد تكون هي البلد الوحيد من بين، بلاد المسلمين الذي ظلت الفتوى فيه أكثر نأيًا عن التأثر بضغط الواقع الثقافي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي الذي فرضته الحضارة الأوربية على، بلاد المسلمين، فالواقع عندنا في كل تلك المناحي لا زال محافظًا على نفسه من السقوط تحت سنابك خيل التغريب التي احتشدت عليه بعد فراغها من بقية أقطار المسلمين وكانت الفتوى سندًا قويًا له في هذه الممانعة الرائدة التي لم يشهد مثلها، بلد من البلاد التي اجتاحتها خيل الغريب في وقت مبكر بأسباب عدة لعل من أبرزها انهيار الفتوى الشرعية أمام دعايات التوافق الحضاري ومجارات المجتمعات الأخرى، الأمر الذي صير الفتاوى الشرعية دون قصد من أهلها بابًا من أبواب الاستغراب الحضاري في البلاد التي حولنا. فمن باب الفتوى دخل نزع الحجاب والاختلاط بين الجنسين في التعليم والحياة العامة والتعاون مع المحتلين في كل شيء وتحكيم العقل في نصوص الشرع وتأويل النصوص فيما يتعارض مع مخرجات الحضارة الأوربية من الدراما والمسرح والنحت، بل تجاوز الأمر التأويل إلى إهمال النصوص بالكلية فيما يتعارض مع المثل المزعومة للحضارة الأوربية كعقوبة الجلد والرجم والقتل، وكان ذلك منذ أكثر من مائة سنة أيام محمد عبده وعبدالعزيز جاويش وقاسم أمين وطنطاوي جوهري ومحمد مصطفى المراغي وغيرهم ممن تتابعوا على تقريب المسلمين من الغرب المستعمر بمثل هذه الفتاوى التي ساعدت في إجهاض الممانعة المجتمعية ضد المنتج الأخلاقي الأوربي وصناعة واقع جديد الأصل فيه الاختلاط الموغل في الحرمة والتعدي على الكثير من حدود الله تعالى في جانب المرأة والاجتماع والاقتصاد والسياسة، ومما يؤسف له أنه واقع وجد له آنذاك سندًا من فقهاء عصره الذين ساهموا في تشكيله وتبعهم آخرون اتخذوا ذلك الواقع أصلًا يحكمون عليه بالإباحة ويسمون الرجوع عنه إلى ماضيهم تشددًا وتزمتًا وحرورية.

التعليقات

التعليقات مغلقة.