رمضان والدراما

تكبير الخط تصغير الخط

التمثيل الهابط أو الداعي إلى قيم مرفوضة محل اعتراض الجميع لا يختلف في ذلك اثنان من ذوي الألباب، والتمثيل المنضبط بضوابط الشريعة في حاله ومأمون العواقب في مآله لا يخالف فيه سوى القليل، وهؤلاء القليل إنما يشككون في إمكانية تطبيق ضوابط الشرع على التمثيل في واقعه الحالي، ولا يعترضون على أصله هذا حال الغالبية منهم، أما المعترضون على أصل التمثيل الهادف فقليلون جدًا فيما أحسب. وليس كل ذلك محل نقاشي هنا، وإنما أناقش فكرة اتخاذ الدراما الجادة والهادفة والمنضبطة على فرض وجودها وسيلة لمزاحمة الفن الهابط في شهر رمضان أهله الله علينا بالخير والبركة والقبول، وهي فكرة كان يدعو إليها منذ زمن عدد من الكتاب ودعاة الإصلاح أحسب أن من آخرهم الدكتور عبدالعزيز قاسم الكاتب والإعلامي المعروف الذي نشر قبل أيام مقالًا زعم فيه أن الدراما الإسلامية عورة لم تستر بعد، ودافع فيه عن فكرة تبني الإسلاميين للإنتاج الدرامي المنضبط، وضرورة أن يحل في رمضان محل ما هو واقع من الغثاء الذي لا يرضى به العقل ولا النقل. والذي أتصوره أن الأخ قاسم بارك الله في جهوده لم يفرق في طرحه المتقدم بين أمرين كان يجب عليه التفريق بينهما، الأول: مشروعية الدراما الهادفة والحاجة إليها كوسيلة حديثة ناجحة في الدعوة والتبليغ ونشر الفضائل وتصحيح المفاهيم، والثاني: إشاعة الدراما الهادفة في شهر رمضان خاصة لتحل محل غثاء السيل الذي امتحنت به الأمة عبر قنواتها الهابطة. فإن التسليم المشروط بصحة المنطلق الأول وهو مشروعية الدراما المنضبطة لا يلزم منه صحة الأمر الآخر وهو إشاعتها في رمضان، والدكتور قاسم جعلهما متلازمتين، وهذا ما مالا أوافقه عليه. فإن المولى -عز وجل- عرف شهر رمضان تعريفًا جامعًا مانعًا حين قال عز من قائل عليم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }البقرة185 فقد نصت الآية على أن فضيلة شهر رمضان ترجع إلى كونه محلًا لإنزال الهدى، وأن الغاية من شرع صيامه أن يكون محلًا لذكر الله تعالى وشكره على نعمة الهدى، إذًا فرمضان شهر تجديد للعهد مع الله تعالى، وتزكية للنفوس، وأطر لها على طاعته -عز وجل- فيما تكرهه النفوس عادة، وهو التنعم بالطيبات من الأكل والشرب ومتع السمع والبصر والجسد، وليس نهاره في هذه الأحكام منفصلًا عن مسائه فكل أوقاته أوقات طاعة وعبادة، وليست أوقات تسلية وتندر وسمر ولهو حتى ولو كان في مباح، إذ المباحات في رمضان ليست كالمباحات في غيره من شهور السنة، فالأصل في رمضان هو ترك المباح إلى الطاعات، وتدريب النفوس على الجلد في العبادات. وأنا أعلم أن الدكتور قاسم وكثير ممن يوافقونه لا يخالفونني فيما أقوله من مكانة رمضان، وما هو الأصل في طريقة التعامل معه، لكنهم يرون أن هذا الغثاء في الدراما الرمضانية أمر واقع، وانصراف الناس إليه وتفاعلهم معه وتأثرهم به شيء مشاهد، وترك الناس إلى ما هو واقع بهم حال في دورهم غير منسجم مع مسلمات الدعوة التي منها تقديم البدائل عن المحرمات عند نهي الناس عنها، والدراما الإسلامية بديل ممتاز يمكن أن ينافس هذا الغثاء المنتشر حين تراعى في إنتاجه أصول المهنية الفنية، وتحشد من أجله الجهود التقنية والمالية، هذا ما يرونه، وهي في الحقيقة رؤية ناضحة بالعقل تظهر فيها مظاهر الحرص على القيم والغيرة على الدعوة من أن تبقى جامدة في زمان متحرك. وهذه الرؤية الطيبة العاقلة يمكن أن أسلم لها وأكون أحد الداعين إليها مع قاسم وإخوانه لو كانت هي الخيار الوحيد الذي لا خيار غيره والمنفذ الذي لا يوجد في المضيق غيره، لكننا ولله الحمد لنا خيار آخر هو أقل تكلفة وأكثر جدوى وأكثر مناسبة لحرمة هذا الشهر وحكمة الله تعالى في خلقه وشرع صيامه. أعني تسخير الوسائل المتاحة وغير المتاحة أيضًا لتربية الناس على مبادئ رمضان، وهذه التربية قد تأخذ وقتًا لا سيما في ظل الحرب الإعلامية الشريرة على القيم والأخلاق بل والأديان، لكنها هي الأضمن والأجدى والأكثر بقاء كما أنها هي العلاج الصحيح المباشر الذي يتناسب مع الحاجات التي يعلمها الله تعالى للنفس الإنسانية من وراء شرعه سبحانه لصيام هذا الشهر وقيامه. فإن مشكلة انصراف الناس إلى الدراما الهابطة مشكلة هي في الأساس دينية وأخلاقية لا مشكلة أهواء مجردة وأمراض نفسية صرفة وما دام الأمر كذلك فإن علاجه بإيجاد نوع آخر من الدراما ذات المستوى الأخلاقي المنضبط لن يكون ذا أثر كبير ما دامت أخلاق المتلقين منساقة إلى ما يتناسب معها نزوقًا وانحدارًا. أكرر أنني لا أناقش مبدأ الدراما الهادفة لكنني أناقش تسخيرها في رمضان لمحاربة الأعمال الهابطة المغرضة فأرى أن العلاج لا يبدأ من الدراما ذاتها بل ينبغي أن يبدأ من المستهلك لهذه الدراما حيث ينبغي تربيته لا علاجه، وهناك فرق بين التربية والعلاج، فالعلاج قد يكون بجرعات مخففة من نفس الداء المسبب للمرض، أما التربية فتكون بصرف النفس ونهيها عن الهوى. وعندما ننجح في تربية الأمة على حقوق الشهر، فإن النتائج التي نحققها لا تتوقف عند حل مشكلتنا مع الدراما الهابطة بل تتجاوزها إلى ما هو أبعد أثرا وأبقى، وأعني به تزكية النفوس بتجديد عهدها مع الله تعالى، وتحقيق مقاصد هذا الشهر الكريم، مما سيحيي فيها من نوازع الخير ما يحقق فيها حياة الإيمان ويقظة الضمير طيلة شهور العام.

التعليقات

التعليقات مغلقة.