أثر التغريب في تحولات الأخلاق الاجتماعية في آخر العهد العثماني

تكبير الخط تصغير الخط

أثر التغريب في تحولات الأخلاق الاجتماعية في آخر العهد العثماني

للأخ الأستاذ شعبان صوان

ميزان الأخلاق في آخر العهد العثماني

جاء في المادة رقم 170 من مجلة الأحكام العدلية، وهي القانون المدني العثماني الذي صدر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: “يشترط أن يكون الشاهد عدلاً، والعدل من كانت حسناته غالبة على سيئاته، بناء عليه لا تقبل شهادة من اعتاد حالاً وحركة تخل بالناموس والمروءة كالرقاص…”.

وفي شرح هذه المادة عدّد سليم رستم باز ما يبطل عدالة الشاهد ومن أطرف ما ذكره:

من كانت عادته شتم الدواب “الشتّام للحيوان كدابته”.

“من يأكل في السوق بين الناس ومن أكل فوق الشبع سقطت عدالته عند الأكثر”[1].

بعد قراءة المادة السابقة نرى فرقاً شاسعاً بين زمن ردت فيه شهادة الرقاص وزمن أصبحت فيه الراقصة هي النموذج المحتذى والأم المثالية، كما نرى الفرق الشاسع بين الانسجام الاجتماعي في العهد العثماني والذي جعل وجيهاً مسيحياً يعلّم المسلمين قانونهم من كتب فقههم، وبين التوترات الطائفية الدموية زمن دولة التجزئة حيث لا يتقبل المسلمون بعضهم بعضاً.

وبعد قراءة مسقطات العدالة آنفة الذكر يحق لنا التساؤل ببراءة: كم واحد منا تقبل شهادته وفقاً لموازين العثمانيين، وإذا كانت تلك هي موازين الأخلاق في زمن التراجع والهزيمة، فما هي موازين زمن القوة والانتصار (؟!)

وبالطبع لا نتوقع أن يكون الناس في ذلك الزمن منطبقين على هذا المثل الأعلى، ولكن كيف تحول هذا المثل فيما بعد؟ وما الذي أتت به تطورات التغريب؟

شهادة السير مارك سايكس على أيام الانقلابيين على السلطان عبد الحميد (1913)

زار السير مارك سايكس عاصمة الخلافة الإسلامية مرات عديدة بعد ثورة جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد (1908)، وقبل أن يتورط في تقسيم المشرق العربي مع زميله الفرنسي جورج بيكو، ومع الفائدة التي يمكن تحصيلها من آرائه، فإنه يجب الحذر أثناء القراءة، وهذه بعض أقواله عن سنوات الانقلاب:

“بدلاً من الحكومة الدينية، والهيبة الامبراطورية والتقاليد، حل الإلحاد والتطرف والمادية، وبذهاب النظام القديم ذهب القصر وجواسيسه ومؤامراته وإرهابه وسريته، ومع النظام الجديد أتت الجمعيات السرية، والمحافل، وأيمان الولاء، والاغتيالات، والمحاكمات العسكرية، والسياسات الغريبة والغامضة.”

“في ساعة من الزمن، تغيرت القسطنطينية، انتهى في لحظة الإسلام كما يفهمه علماء الدين وكما يوعظ به في المساجد، وأيضاً كما كان دعماً أخلاقياً للناس، وحافزاً وملهماً للجيش، أما الخلافة ورجال الدين والقرآن، فقد توقفوا عن السيطرة والإلهام.”

“وقد أصبح التركي الرزين يشرب الخمر، والجندي المخلص أصبح متمرداً، وصار الدين عرضة للسخرية والاحتقار، وكل فكرة غير أخلاقية التقطها منفيو عبد الحميد من قيعان الأحياء الفقيرة في عواصم أوروبا تفجرت وتفشت وانتشرت، العروض السينمائية الرديئة والخليعة والكفرية، وبيوت الدعارة امتلأت حتى فاضت، والنوادي التي تختلط فيها السياسة بالرذيلة، والمطبوعات البذيئة والصور غير المحتشمة غمرت المدينة (أي اسطنبول).”

“الفوضى المتحررة من الأخلاق على طريقة قطاع الطرق في حي الفنانين في باريس، الإرهاب الشرير للكاربوناري في البرتغال، المثالية المدمرة للثورة الفرنسية، النظريات غير المفهومة لسبنسر ونيتشة وهارتمان، والهيمنة المضرة للماسونية المنحرفة، اختلطت وتخمرت معاً لتنتج خليطاً غريباً من السلبيات التي حلت محل نفوذ الخلافة المنهارة.”

النتيجة: هذه هي قيمة التغريب في نظر سادته الغربيين ومازال منذ بداياته يلتقط نفاية الحضارة الغربية ويجلبها إلينا، فهل سيكذّب المتغربون معلميهم الذين ربوهم وأرضعوهم وأرسلوهم إلى بلادنا؟

“من السهل فهم السبب في أن القسطنطينية تغيرت جوهرياً وليس سطحياً، فقد انتهت الشرور القديمة، هذا صحيح، ولكن شروراً جديدة أتت، بالإضافة إلى أن الفضائل القديمة تموت، اذهب حيثما شئت في المدينة فلن تجد علامة على الأمل أو النماء”[2].

ومازال هذا دأبنا منذ ذلك اليوم إذ يتم التغيير، نعم، ولكن إلى الأسوأ وليس نحو الأفضل ، وللتغريب في سبب ذلك النصيب الأوفر.

الهوامش

[1] – المرجع: سليم رستم باز اللبناني، شرح المجلة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1986، ص 1039-1041.

[2] – Sir Mark Sykes, The Caliphs’ Last Heritage: A Short History of the Turkish Empire, Garnet, UK, 2002, p. 508- 509.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.