آخر الأخبار
إلماعة أصولية في تغير الفتوى
تغير الفتوى بتغير الزمان والحال ليس قاعدة أصولية كما يتصور البعض ؛ لأن القاعدة الأصولية هي أصل إجمالي يُرجع إليه في فهم الأدلة التفصيلية النصية ؛ كقاعدة : الخاص مقدم على العام ، والعام حجة فيما لا يتناوله المُخَصِّص ؛ أو يرجع إليه في ضبط الأدلة غير النصية ، كقولهم : الطرد والعكس شرط في التعليل أو يُرجع إليه في تنزيل الأدلة غير النصية على الوقائع العملية ، كقولهم : شرط الاستصحاب انتفاء الفارق في الحال المستصحَب بين الزمن الأول والزمن الثاني .
وليست قاعدة فقهية أيضا ، لأن القاعدة الفقهية: وصف أغلبي استُفِيد من أحكام فقهية متعددة ؛ كقولهم : إذا ضاق الأمر اتسع ؛ وقولهم العادة مُحَكَّمَة .
فالقول بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والحال ، ليس قاعدة بهذا المعنى ؛ وإنما هو أشبه ما يكون بالتفسير الإجمالي لاختلاف بعض الأحكام الفقهية من زمن إلى آخر بالرغم من التشابه الظاهر بين أحوال بعض الوقائع ؛ كاختلاف الحكم النبوي في لحوم الأضاحي ، حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن ادِّخارها فوق ثلاثة أيام ؛ ثم أباح ذلك في عامٍ أخر ؛ وعلَّل ذلك الاختلاف بقوله:(إنما نهيتكم من أجل الدَّافَّة) أي من أجل كثرة الواردين إلى المدينة في ذلك العام ، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الادخار كي يأخذ هؤلاء الواردين حاجتهم من لحوم الأضاحي .
وكذلك الأمر في حد السُّكر حيث جلد النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين حين ظهر له شئ من الجراءة به بعد فتح الأمصار واختلاط الناس بالأمم الأخرى .
وجرى الأئمة المجتهدون على ذلك في كل العصور ؛ ولم يختلف الحال إلا عند العلماء المقلدين وفي العصور التي غلب فيها التقليد على الاجتهاد ؛ أما حين يظهر عالم مجتهد ، أو في العصور التي تغلب فيها كفة الاجتهاد على التقليد فإن هذا الوصف يعود إلى الحضور .
والقول بأن تغير الفتوى ليس قاعدة وإنما هو حكاية حال ؛ نستفيد منه أمرين : الأول : أن تغير الفتوى ليس حتمياً ؛ بمعنى أن الفتوى ليست خاضعة للزمان والحال بحيث يكونان محركين لها فتتغير دوماً بتغيرهما ؛ فالأصل أن الأعصار والأحوال كلها خاضعة للدين ؛ فالأصل أن الدين هو المحور الذي ينبغي أن تدور حوله الأحوال والعوائد ، وبالتالي تكون خاضعة لتكييفه لها وأحكامه ؛ لكن هذا الأصل قد يتغير لأسباب عديدة ، كتقهقر التدين ، أو الانحراف في فهمه ، أو خضوع المسلمين عموماً أو في بلد خاص لهيمنة ثقافية أو عسكرية من أمة أخرى ؛ فهنا ودون أدنى شكٍ لابد أن تُفرض أحوال وعوائد لم تكن من نتاج الدين أو متمحورة عليه ، ففي مثل هذه الأحوال ليس أمام الفتوى إلا أن تنسحب من الواقع ، وهذا محال لحاجة الناس إلى أحكام الشريعة في كل الأعصار مهما تغيرت ؛ أو تحكم على حوادث الواقع بما يُقَرِّبُ الناس من مقاصد الشريعة في حفظ كُلِّياتها الخمس بمراتبها الثلاث : الضروري والحاجي والتحسيني .
الآخر: أن هذا الوصف أو الحكاية ليست كُلِّية ؛ أي ليست كل فتوى تتغير بتغير الزمان والحال بل هناك شروط وجودية وشروط عدمية إذا توفرت في جانبي الوجود والعدم في الوقائع والأحداث جاز تغير الفتوى بتغير الزمان والحال ؛ وإن لم تتوفر في الجانبين : الوجودي والعدمي لم يجز تغيير الفتوى من أجل تغير الزمان والحال .
أما عن الشروط التي يمكن بها تغير الفتوى ، فهي شروط في الوقائع المُفتَى فيها وشروط في الفتوى ذاتها وشروط في المفتي ؛ وأهم ما ينبغي ذكره هو الشروط اللازمة في الوقائع ؛ أما ما سواها فهي الشروط التي ينبغي توفرها في كل زمان ومكان وحال في الفتوى والمفتين لا غير ، ولعل الحديث عنها ينفرد في مقال لاحق بإذن الله .
وأول شرط يلزم في الواقعة التي تتغير الفتوى فيها : أن لا يكون الحكم فيها ثابتاً بنص لا يحتمل التأويل مطلقاً ، أو لا يحتمل إلا التأويل المرجوح ؛ فالأول كالربا فإن النص في تحريمه لا يحتمل التأويل مطلقا في عدد من الآيات والأحاديث ومنها قوله تعالى:﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَروا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾والآخر :كانحصار مصارف الزكاة في الثمانية المنصوصة بقوله تعالى﴿إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلفُقَراءِ وَالمَساكينِ …﴾فلفظ الصدقات محتمل لمعنى عام وهو كل ما سُمِّي صدقة ، فيكون معنى الآية : لا يجوز إخراج المال مطلقاً إلا في الأصناف الثمانية ، وهذا معنى الأخذ به في هذه الآية مرجوح لا يقول به أحد ؛ بدلالة النصوص الكثيرة التي أجازت مطلق الصدقات في غير هذه الأصناف ؛ وإن كان في غير هذه الآية قد يكون راجحاً ، كقوله صلى الله عليه وسلم :(ما نقص مال من صدقة) فالصدقة هنا تشمل كل مال تُبُرع به على سبيل الإحسان ، سواءً أكان للأصناف الثمانية أم لغيرهم .
فالوقائع التي تدخل تحت هذا النوع من النصوص لا تتغير الفتوى فيها ، وإن تغير الزمان والحال إلا للضرورة المُلْجئة كأكل الميتة ؛ وأما إن كانت الضرورة غير ملجئة ؛ أي أنها حاجة بلغ من إلحاحها أن تُنَزَّل منزلة الضرورة فقد يُفْتِي بعض العلماء بجواز تنزيل الحاجة الملحة منزلة الضرورة إذا ترتب على ذلك مفسدة عامة كما أفتى بعض العلماء في المجلس الإسلامي الأوربي الأعلى للإفتاء بجواز تملك من لا يستطيع شراء البيوت من المسلمين في أوربا لمساكنهم بقروض يدخلها الربا ؛ وذلك لأن هذا النوع من القروض هو المتاح في بلادهم ، ولأنهم لو لم يفعلوا ذلك ما استطاعوا التملك أبداً ، ولأن عدم تملكهم قد يؤثر على مستقبل أبنائهم العقدي والأخلاقي في بلد هم فيه أقلية ؛ هي فتوى غير متفق عليها بين العلماء وإن كان لها من المسبِّبات ما يجعل إنزال الحاجة الملِحَّة فيها منزلة الضرورة فقهاً معتبرا.
فإن كان النص غيرَ المحتملِ للتأويل مُفَصِّلاً لأحوال متعددة لم يكن الانتقال من حال إلى حال واردة في النص من باب تغير الفتوى ، بل من باب إعمال النص فيما ورد فيه ؛ وذلك كحد قطاع الطريق ، فليس الانتقال من العقاب بالقتل إلى العقاب بالقطع سوى إعمالاً للنص .
الشرط الثاني :أن تكون العِلَّة التي تمت الفتوى من أجلها بالتحريم أو الإباحة في الواقعة الأولى قد تخلفت في الواقعة الأخرى ؛ وذلك كاشتراط معاينة المبيع لصحة العقد ؛ فإنها إنما كانت لدرء الغرر ؛ فإذا اندرأ الغرر بالوصف المغني عن المعاينة صح البيع ؛ وبذلك يُفتى بصحة بيع السيارات المجلوبة من الأماكن البعيدة في زمننا الحاضر لإمكان الوصف أو الصورة التي تندفع بها دعوى الغرر ؛ بينما لم يكن مثل هذا العقد صحيحاً قبل عقود حينما كان اندفاع احتمال دعوى الغرر صعباً أو محالاً.
والشرط الثالث : أن تكون المصلحة ظاهرة غالبة في الفتوى الثانية ، والمفسدة على البقاء على الفتوى الأولى ظاهرة غالبة أيضا ؛ فإن كانت الفتوى الثانية غير مشتملة على مصلحة ظاهرة أو مؤديةٍ إليها ، والبقاء على الفتوى الأولى غير مشتمل على مفسدة ظاهرة أو مؤدٍ إليها؛ فلا يصح عند ذاك تغيير الفتوى ولو تغير الزمان والحال .
وما تقدم من التلخيص الأصولي يمكن أن يُخَرَّج عليه أكثر الوقائع التي تغيرت الفتوى العامة فيها في زمننا الحاضر من التحريم إلى الإباحة ؛ أو من الإباحة إلى التحريم لمن تأمل الأمر بعلم وإنصاف ورغبة في الحق .
د.محمد السعيدي
التعليقات