المخرج من فوضى الفتوى

تكبير الخط تصغير الخط
المجيب د.محمد بن إبراهيم السعيدي
السؤال

في بلدنا توجد مؤسسات كثيرة، وكلهم يصدرون الفتاوى لأتباعهم، مع أنه يوجد مجلس العلماء الرسمي للإفتاء..
فهل كل هذه المؤسسات لهم الحق في الإفتاء على الإطلاق؟ مع بيان الشروط التي يجب أن تتوفر في المفتي..
وفي حالة اختلاف الفتاوى الصادرة عن هذه المؤسسات ومجلس العلماء الرسمي للإفتاء في إثبات أول شهر رمضان وأول شوال، هل لكل فرد مسلم الحرية في الأخذ بإحدى هذه الفتاوى، وبذلك يختلفون في وقت أداء الصيام وصلاة العيد، بناء على اختلافهم في إثبات أول شهر رمضان وأول شوال؟ مع بيان آراء الفقهاء والأدلة المقنعة.

الجواب

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: 
فإن مسألة الأخ الكريم من أمهات نوازل الأحكام في أيامنا هذه، وذلك أن الحاجة إلى معرفة الحكم فيها متعدية إلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن المصيبة في ذهاب العلم بذهاب العلماء عامة في كل ديار المسلمين دون استثناء، بل يكاد الأمر أن يصل إلى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه (1/50) عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حتى إذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا” فاليوم وقد أصبح العلماء الجامعون لأطراف العلم العاملون بما عملوا أعز في بلاد الإسلام من الكبريت الأحمر، بدا للكثيرين أن المراكز العلمية التي يقوم عليها طلاب العلم الأكفاء قد تسد الثغرة التي أحدثها غياب العلماء الجامعين لأطراف العلم الشرعي، وخيرا فعلوا، فقد أدت المجالس التي أنشأها خيار العلماء وأفاضل طلاب العلم دورا مثمرا في أكثر البلاد التي نشأت فيها، إلا أن آفة أخرى نبتت وهي الجرأة من غير المتخصصين على إنشاء مثل هذه المجالس في كثير من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية وتبوءهم فيها مناصب مؤثرة، وخضوعها للتيارات السياسية والمذهبية والأهواء الشخصية، الأمر الذي أفضى بالمسلمين في بلاد شتى إلى تعميق النزاعات في المسائل الخلافية التي يسوغ أصلا الاختلاف فيها، بل وتتخذ هذه الخلافات ذريعة للتقادح فيما بين هذه المجالس وأعضائها تبعا لانتماءاتهم السياسية والفكرية كما هو الوضع في بلاد الأخ السائل وفقه الله. 
ومما زاد الطين بلة أن أصبح الفقه عتبة باب لا يتورع الأشقياء عن توطئها بأقدامهم وادعاء القدرة عليها، وكأن علم الشريعة بدع من العلوم لا تنطبق عليه أحكامها التي لا تجيز لأحد أن يتسورها تسور السراق، أو يندفع فيها اندفاع الغاصبين، فوجدنا ممن تصدى للإفتاء في دقائق الفقه أطباء ومهندسين وصناعاً، وهؤلاء وإن برز منهم نوادر رزقهم الله الفقه حقا بالرغم من كون الفقه ليس تخصصهم الأول، إلا أنهم يظلون نوادر، وتبقى الأكثرية من أمثالهم متسورين يخطئون ولو أصابوا. 
هذه الفوضى هي التي أوقعت عامة المسلمين في إشكالات كبيرة، وتركتهم في بعض الأحيان كالغنم في الليلة المطيرة، ولعل سؤال الأخ الكريم يعبر بصدق عما يعانون. 
هذه المقدمة أجد أنها ضرورية بين يدي تساؤلات هذا الأخ الكريم التي أولها: 
هل لجميع تلك المجالس الحق في الإفتاء مع وجود مجلس الإفتاء الرسمي؟
والجواب وبالله تعالى التوفيق: أن الفتوى في الإسلام ليست حكرا على أحد دون الآخر إذا كان الجميع يملكون أهلية إصدار الفتاوى فيحق للأفراد المؤهلين علميا وللهيئات الرسمية وغيرها إصدار الفتاوى، شريطة: أن يكون ذلك الفرد أو تلك الهيئة مؤهلين تأهيلا صحيحا لمثل هذا المنصب الجلل، ودليل ذلك: الإطلاق في قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” [النحل:43].
وأهل الذكر هم أهل العلم بالقرآن قال تعالى “ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ” [آل عمران:58]. وقال سبحانه “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” [الحجر:9]. وهي تدل على أن المراد بالذكر أعم من أن يكون خاصا بالتوراة والإنجيل، وأن أهل القرآن من أهل الذكر. 
ومن الأدلة أيضا: أن الصحابة رضي الله عنهم بالرغم من تفاضلهم في العلم وتدافعهم على الفتوى إلا أنه لم يكن أحد منهم ينكر على الآخر تصديه للفتوى في مسألة معينة، مع وجود من هو أعلم منه من الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك سار على نهجهم تابعوهم والأئمة من بعدهم، فلم ينكر أحد منهم تصدي غيره للفتوى، بالرغم من أن المدينة الواحدة كان يفتي فيها الفئام من العلماء (وارجع في ذلك إلى إعلام الموقعين (ج1 ص14) وما بعدها). 
أما إذا كان لا يملك أهلية الإفتاء فيحرم عليه الاجتراء على هذا الأمر؛ لأنه قول على الله تعالى بغير علم، وقد ورد من التغليظ فيه ما يجعل العاقل ينكفئ عنه صيانة لنفسه ومن ذلك قوله تعالى: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ” [الأنعام21]. “وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ” [الأنعام:119]. “قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ” [الأنعام:140]. “فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” [الأنعام:144]. “وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ” [الحج:3]. “وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ” [الحج:8]. وهذا الوعيد لمن يتكلم في آيات الله بغير علم هو ما جعل الصحابة وتابعيهم رضي الله عنهم يشتهر عنهم تدافع الفتوى والخوف منها في وقائع كثيرة ذكر منها ابن القيم في كتاب إعلام الموقعين شيئا كثيرا (1/14) وما بعدها، بل ذكر العلماء أن من لم يكن أهلا للحكم والفتوى فهو مأزور عير مأجور وإن وافق كلامه الحق، قال النووي في شرح صحيح مسلم (ج12/ص13): قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران، أجر باجتهاده وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده، وفي الحديث محذوف تقديره: إذا أراد الحاكم فاجتهد.. قالوا فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقه ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك. أ هـ.
ثانياً: سؤال الأخ عن الشروط التي يجب توافرها في المفتي، أقول إن العلماء قديما قد ذكروا أن المفتي إما أن يكون مجتهدا أو مقلدا، فمن شروط المجتهد ما ذكره ابن تيمية في المسودة (ج1/ص487): (فالمستقل المجتهد المطلق وهو القائم بمعرفة أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل وهي مفصلة في كتب الفقه العالم بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالاتها وكيفية اقتباس الحكم منها، وذلك في أصول الفقه الذي يعرف من علم القرآن والحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، والنحو واللغة، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك عالما بالفقه ضابطا لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها، فهذا هو المفتى المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية، ولا يكون إلا مجتهدا مستقلا وهو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد) أ.هـ كلام ابن تيمية. 
أما المقلد فذكروا له شروطا أخف من هذه الشروط، لكننا في وقتنا الحاضر لو اشترطنا هذه الشروط التي كان الأولون من أسلافنا يشترطونها، لوقعت أمتنا في حرج شديد، لكن يكفي من هذه الشروط إن شاء الله ما يلي: 
1- أن يكون عالما بمظان الأدلة من الكتاب والسنة. 
2- أن تكون لديه آلة الاستنباط من المعرفة بقواعد اللغة والبلاغة وأصول الفقه.
3- أن يعرف المعتبرين من الأئمة في تصحيح الحديث وتضعيفه.
4- ولا يشترط أن يكون عالما بجميع مسائل الفقه، لكن يكون لديه ملكة البحث ومعرفة مصطلحات أهل العلم في فتاواهم. 
لكن السؤال المهم في هذا المقام: كيف يستطيع المسلم العامي تمييز من تنطبق عليه هذه الشروط حتى يلجأ إليه؟ 
والجواب: أن الفتوى أمانة، ومن تؤخذ عنه الفتوى مؤتمن، ولا شك أن من أراد أن يأتمن إنسانا على ماله أو أهله لا بد أن يتحرى في هذا المؤتمن صفات تجعله يوقن أن هذا المؤتمن محل الثقة على المال والأهل، وكذلك من أراد أن يسأل عن أمر دينه مكلف بالتحري فيمن يأخذ عنه كما جاء عن ابن سيرين رحمه الله في مقدمة صحيح مسلم (ج1/14) قال (إِنَّ هذا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ)، فيجب على المستفتي أن يتحرى صاحب الديانة والعمل بما يعمل، ويبتعد عمن ظهرت منه الأمور المفسقة والبعيد عن العمل بعلمه فإن أولئك في الغالب يغلب عليهم الإفتاء بهواهم، والتحرج من الاعتذار فيما لا يعلمون، وهذا ما جعل العلماء من قديم يقولون: (أدب المفتي والمستفتي ج1/ص107): “لا تصح فتيا الفاسق وإن كان مجتهدا مستقلا، غير أنه لو وقعت له في نفسه واقعة عمل فيها باجتهاد نفسه ولم يستفت غيره”. 
أما من ظاهره العدالة والثقة فليس المستفتي مكلفا بالبحث في بواطنه، فإن من ظاهره العدالة والالتزام والعمل يكفي في الثقة به في طلب الفتوى. 
ويجب على المستفتي أن يبحث عمن كان متخصصا في علوم الشريعة، وقد عرف عنه التصدي والممارسة لأمور الفتوى، فإن تسور كثير من غير المتخصصين على الفتوى أدى إلى كثير من المفاسد، لأن غير المتخصص ينقصه أمور في الفتوى لا يشعر هو بنقصها فيه فكثير منهم ليس عنده معرفة بقواعد الاستنباط، وهي قواعد أصول الفقه التي يفهم بها الدليل، ويميز بها بين عامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه، ومعاني الحروف ودلالات الألفاظ، فتحري المتخصص في الشريعة مطلوب من المستفتي، إلا إذا كان هناك من غير المتخصصين من شهد له أهل العلم بمجالستهم والأخذ عنهم، فهذا موجود لكنه قليل بالنسبة إلى عيره. 
كما يتميز من هو أهل للاستفتاء بقرن فتواه بالدليل، فإن من حق المستفتي أن يعرف دليل ما سأل عنه من الكتاب والسنة، وإن كانت المسألة مما لا يوجد لها نص خاص في الكتاب والسنة فينبغي على المفتي أن يبين ما تدخل فيه هذه المسألة من عمومات الشريعة، ثم يبين له وجه الاستدلال الخاص لهذه المسألة من قياس أو مصلحة مرسلة أو غيرها. 
وبعض من يتصدى للفتوى –وهذا مما يؤسف له– قليل العلم بالأدلة من الكتاب والسنة، ولذلك تجدهم يكثرون اللجوء إلى الاستدلال بالتيسير والمصلحة، وربما استدلوا بالمصالح والتيسير عليها أدلة خاصة من الكتاب والسنة، لكن عجلتهم وإقدامهم وضعفهم أمام الهوى جعلهم يبادرون إلى الإفتاء بهذه الأمور، فعلى المستفتي: أن يتجنب من يقل منه ذكر أدلة الكتاب والسنة، ويكثر عنده ذكر التيسير والمصلحة ومقاصد الشريعة، فإن هذه الأمور وإن كنا لا نعترض عليها في كونها معرفات للحكم، وأمارات واضحة عليه، فإننا نعترض على ما كثر عند البعض من اتخاذ هذه الأمور أصول في الاستدلال وتهوين أمر الدليل الصحيح، جاء في أدب المفتي والمستفتي (ج1/ص117): وبلغنا عن أبي الحسين ابن القطان أحد أئمة المذهب أنه كان لا يفتي في شيء من المسائل حتى يلحظ الدليل، وهكذا ينبغي لمن هو دونه، ومن لم تكن فتواه حكاية عن غيره، ولم يكن له بد من استحضار الدليل فيها والله أعلم.
ومما يميز المؤهلين للفتوى عدم عجلتهم في الإفتاء في النوازل المعاصرة، وترويهم وطلب المهلة من المستفتي حتى يتحققوا، فمن كان هذا شأنه، فهذه دلالة إن شاء الله على أهليته وورعه. 
وهناك مسائل تتعلق بالعرف السائد في بلد ما، سواء أكان هذا العرف لفظيا أم عمليا، فينبغي على المستفتي تحري المفتين من أهل بلده ولغته ممن يعرفون الأعراف اللغوية والعملية في مثل هذه الأمور، قال (في أدب المفتي والمستفتي ج1/ص115): لا يجوز له أن يفتي في الأيمان والأقارير ونحو ذلك مما يتعلق بالألفاظ إلا إذا كان من أهل بلد اللافظ بها أو متنزلا منزلتهم في الخبرة بمراداتهم من ألفاظهم وتعارفهم فيها لأنه إذا لم يكن كذلك كثر خطؤه عليهم في ذلك كما شهدت به التجربة والله أعلم) أ.هـ كلامه. 
كما ينبغي على المستفتي: أن يبتعد عمن شاع وذاع وكثر منه الإفتاء بشواذ المسائل، حتى أصبح ذلك سمة له، فإن الغالب على هؤلاء: أنهم إما أن يكونوا يتبعون في فتاواهم أهواءهم، أو أنهم يتبعون أهواء الناس، وكلا الأمرين شر، فإن الأولى بالاتباع شرع الله تعالى وتوخي القرب منه.
ثالثا: ما ذكره السائل من أن المجالس في بلده تختلف في تحديد دخول شهر رمضان والعيد، ويسأل أي هذه الفتاوى يأخذ؟ والجواب: أن الصوم والفطر من شعائر الدين التي ينبغي فيها اجتماع الناس في البلد الواحد وعدم تفرقهم، كما أن المسلمين مطالبون فيها بما تحصل عندهم ظن الصحة فيه، ولم يطالبوا بالقطع بدخول الشهر أو خروجه، والدليل على أنهم لم يطالبوا بالقطع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل في دخول شهر رمضان شهادة واحد، وفي خروجه شهادة اثنين، ولا شك أن الواحد والاثنين ممكن متصور منهما الخطأ، وهذا من نعمة الله وفضله، وعدم تحريجه على أمة نبيه، ولما كان الأمر كذلك فلا يحرج على العلماء الاختلاف في القاعدة التي يضبط بها دخول الشهر، هل هي الرؤية أم الحساب، لكن الحرج عليهم في الاختلاف في العمل بالصوم والفطر، فيشرع الناس في الصيام في بلد واحد في يومين ويصلون العيد في يومين، وقد كان العلماء من قديم يختلفون في الرؤية والحساب كما يختلفون في صيام يوم الشك، لكنهم فيما عدا هذا الخلاف النظري لم يكونوا في الغالب يختلفون في التطبيق، فكانوا يصومون يوم صيام سواد الناس، ويفطرون يوم فطرهم، وعلى ذلك تضافرت فتاواهم، ففي بلد السائل ينبغي على المسلمين بجميع مجالسهم أن يصوموا يوم الصيام الذي تحدده الجهة الرسمية، ومن خالف هذه الجهة في الأسلوب الذي يحدد فيه دخول الشهر فيبقى خلافه خلافا فقهيا محترما، لكنه لا يصل إلى أن يكون ذريعة لتفريق الناس في عيدهم وصومهم، لأن اجتماع الناس في الشعائر مطلب، وما دام جميع المتخالفين ليس مع أحدهم قطع بصحة ما ذهب إليه، وإنما الجميع يظنون ذلك هو الحق فليس لهم جعل ظنونهم مجالا للتشغيب على المسلمين. 
ولمن يريد الرجوع إلى كتاب نيل الأوطار للشوكاني (3: 383)، وتحفة الأحوذي (ج3/ص312) وذلك عند شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والذي رواه الترمذي والدارقطني وغيرهما، وهو أصل في هذا الباب وعليه المعول في الفتوى فيه، ونصه كما في سنن الترمذي (ج3/ص80) عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصَّوْمُ يوم تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يوم تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يوم تُضَحُّونَ.. قال أبو عِيسَى هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هذا الحديث فقال: إنما مَعْنَى هذا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مع الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ الناس.. 
هذا والحمد لله أولا وآخر.. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.