آخر الأخبار
مادلين أولبرايت والمعضلة السعودية
المعضلة السعودية هذا هو العنوان الذي وضعته مادلين أولبرايت لأحد فصول كتابها الجبروت والجبار والذي ألفته بعد انتهاء عملها وزيرةً للخارجية الأمريكية في الفترة الثانية من رئاسة بيل كلينتون بين عامي ١٩٩٧و٢٠٠١ ؛ يوحي لك عنوان الفصل أن الكاتبة ومِن واقِعِ عملها وزيرةً للخارجية ستتحدث عن الصعوبات التي كانت تواجهها العلاقات الاقتصادية أو العلاقات السياسة بين السعودية والولايات المتحدة خاصة وأن تلك الفترة كانت تشهد توجهاً سعودياً قوياً في سياسة تنويع مصادر التسلح كما شهدت مبادرةَ بيل كليتنون “أبوديس مقابل الاعتراف بالقدس” وكذلك شهدت الحصار الاقتصادي للعراق ،إلى غير ذلك من الأزمات التي يوحي هذا العنوان بأن الكاتبة ستتحدث عنها .
أولبرايت لم تتحدث مطلقاً في هذا الفصل عن شيءٍ من ذلك ، بل تحدثت عن أشياء بعيدة وبدا كلامُها غريباً متناقضا غير متَّسق يُهمني أن أُعَرِّف القارئ به لأنه يبين لنا كيف يفكر وزراءُ خارجيةٍ أمريكيون من الوزن الثقيل كأولبرايت بنا نحن السعوديين وبلادنا.
في مستهل الفصل نقلت كلمة نسبتها لامرأة سعودية تقول فيها :إنها خائفة من وضعنا الراهن فنحن نريد أن ندرك أوروبا ،وخطباء الجمعة يقولون إن الغرب سيذهبون إلى جهنم.
وهو استهلال مختار بعناية يقدم رسالة للقاري بأنها ستتحدث عن دولة وشعب مليئَيْن بالتناقضات ، مع أنه لا تناقض بين أن نؤمن بالمصير الأخروي لغير المسلمين وبين أن نسعى للأخذ بالجميل من حضارتهم ؛ والكاتبة نفسها خرجت من دين والديها اليهودي وانضمت للكنيسة الأسقفية التي تؤمن بأن الخلاص الدنيوي والأخروي محصور في من يؤمنون بالمخلِّص.
ثم تسير الكاتبة على هذا النسق من ترسيخ فكرة التناقضات السعودية فتنقل نصاً تنسبه للملك عبدالعزيز رحمه الله يتحدث عن دولته التي أقامها بأنها ستبقى بلداً صعب المنال لا مكان فيه للأجنبي إلا ريثما ينتهي من مهمته التي أَتَى أو أُتِيَ به من أجلها.
ثم تنقل جزءًا مما زعمت أنه بيان للأسرة المالكة يذكرون فيه أنهم لا يمكنهم أن يبقوا متفرجين والعالم يتقدم ؛ وأشارت إلى أن بيان الأسرة الصادر في بداية القرن الواحد والعشرين يناقض كلام والدهم.
والحقيقة أن التناقض هو في طريقة تفكير الكاتبة إذ لا مانع أن نحمي بلادنا من الأجانب حتى تنقضي الحاجة إلبهم ومع ذلك نسعى للتقدم ولا نبقى متفرجين ، ومعلوم أن الملك عبد العزيز كان يتحدث عن الأجنبي المحتل لا عن مطلق التعامل مع الأجانب.
وتحدثت الكاتبة عن أحداث١١/ ٩ وعن غزارة الكتابات الغربية التي اتهمت السعودية بكونها محضن الإرهاب ، ثم أعقبته بالحديث عن إنه لا يوجد بلد حاول القفز بسرعة إلى العصر الحديث كما فعلت المملكة ، ومع هذا تستكمل المقطع نفسه بأن المملكة تتبع مذهباً متزمتاً يمنع الرقص وإظهار العلاقات العاطفية وتغزر العناية فيه بدراسة الدين ونشر كتبه وتُظْهِر الدولة نفسها كخادمة للحرمين ومع ذلك هي دولة ثرية أصبح بعض مترفيها يرتادون النوادي الليلية الأوربية بعد أن كانوا يسكنون بيوت الطين.
ومادلين هنا تمثل التوجه المسيحي الأوربي العام الذي يفهم جميع الأديان وكأنها الدين المسيحي في أوروبا ما قبل القرن السادس عشر والذي لم يستطع الغرب المضي في العلم والحضارة حتى تخلصوا منه ، فهي تستشعر التناقض بين طموح السعودية إلى الرقي وبين مذهبها الديني الذي تصفه بالتزمت لكونه لا يسمح بالرقص ولا بممارسة العلاقات العاطفية في الأماكن العامة.
انتقلت لتتحدث عن تاريخ التطرف في السعودية ، ومع أنها في البدء وصفت السعودية بأنها وهابية متزمتة إلا أنها أوحت للقارئ بأن البداية كانت من الثورة الإيرانية التي دعا مرشدُها السعوديين إلى التمرد على السلطة وأن حركة جهيمان جاءت استجابةً له ، وتتحدث بامتعاض عن تطبيق حكم القتل عن طريق قطع الرأس في حق المعتدين على الحرم المكي ؛ثم تتحدث بمعلومات غير صحيحة مطلقاً بأن الدولة أعطت المؤسسة الدينية صلاحيات لم تكن لها في التعليم ومراقبة الشأن العام ؛ لكنها عزت نشوء الفكر المتطرف في السعودية إلى دخول السوريين والمصريين الفارين من اضطهاد حكومتيهم العلمانية إلى السعودية متبعين نهجا يساوي بين السعودية وتلك الحكومات ؛ فهي في كل ذلك تنفي أن تكون السعودية هي مصدر التطرف الفكري.
وقد صرحت بذلك بعد أن تحدثت قليلاً عن سخاء الدولة على شعبها إثر فورة النفط وكون هذا السخاء لم يدم بسبب سوء التخطيط ،فسردت ما ترى أنه عوامل ظهور التطرف في السعودية وهي:
١-التباين بين نمطي الحياة الغربي والإسلامي اللذين بديا واضحين في نظرها للجميع ٢-انتشار الفضائيات التي أدت إلى مزيد من الاطلاع على معاناة المسلمين وبسببها تفشت ظاهرة الكراهية للغرب ٣-تصورات أسامة بن لادن بأن دخول القوات الأمريكية في حرب تحرير الكويت تدنيس للأرض.
وبالفعل نفت الكاتبة صراحة وبقوة أن تكون السعودية وراء أحداث ١١/ ٩ وقالت بالحرف:”وفقاً لللجنة المستقلة للتحقيق في أحداث١١/ ٩والتي وجدت أن مكتب التحقيقات الفيدرالي تفحص كل راكب وأنه لم يغادر أحد ذو ارتباط بالإرهاب على متن هذه الرحلات” ولكنها رأت أن هذه الأحداث كانت سبباً لمزيد من الضغوط على السعودية لتحديث موقفها من المرأة ومن رجال الدين والمشاركة السياسية ، وأن على السعودية أن تقدم في كل ذلك إجابات مقنعة للغرب دون أن تُشْعِر القاعدة بأن ذلك استجابة لها .
ثم أكدت بأن الملك فهد”رحمه الله” كان يثير أعصابها ، وللقارئ أن يتصور مالذي كان يثير أعصاب وزيرة الخارجية الأمريكية من الملك فهد؟
الجواب : هو افتخار الملك برعاية حكومته للعمل الإسلامي في الخارج بما في ذلك أكثر من ٥٠٠مسجداً و٢٠٠جامعة و٢٠٠٠مدرسة ، وأن المسؤولين السعوديين كانوا يرون أن دينهم هو الحق ويخدمونه ويدعون إليه في الخارج فيما يمنعون ممارسة أي دين في بلادهم.
أقَرَّت أولبرايت بأن بعض الكتاب في الغرب و[إسرائيل]يشوهون الإسلام والسياسة السعودية ويتحدثون بتعالٍ عن الثقافة الغربية ، لكنها قدَّمت نصحاً للسعودية بأن تبدأ في محاربة تلك الجماعات المتطرفة التي تم تشويه الإسلام في السعودية عبرها .
وتتحدث الكاتبة عن إن السعودية ظلت زمناً تنفي انتشار الفكر المتطرف داخلها حتى وقعت عدة أحداث إرهابية شنيعة فيها ، وأظهرت استطلاعات رأي داخلية خاصة أن ٤٩٪من العَيِّنَة يدعمون أفكار بن لادن ، وعلى فرض صحة تعبير العَيِّنة عن الرأي العام السعودي كان ينبغي أن تطرح الكاتبة أيضا فرضية أن للسياسات الأمريكية دور في ذلك.
وقد أقرت الكاتبة بأن الدولة قامت بما ينبغي عليها من نشر للوعي الديني عبر الكثير من البرامج وأن علماء السعودية فعلوا الشيء نفسه ؛ لكن أولبرايت بدت منزعجة من بيان كتبه عدد من الأساتذة يدينون فيه احتلال أمريكا للعراق سنة٢٠٠٣ويحثون الشعب العراقي على المقاومة .
والغريب هو أن تستنكر مادلين بيان أولئك الأساتذة وتربطه بالإرهاب مع أن احتلال العراق كان هو العمل الإرهابي الذي لم يحض بدعم دولي ولا أخلاقي ؛بل لم يحض بتأييد أولبرايت نفسها في حينه وانتقدته بشدة في كتابها ،ومقاومةُ المحتل حق تكفله المواثيق الدولية.
نعم أنا لا أؤيد صدور مثل هذا البيان ، ولكن لاعتبارات أخر ليست مما تفكر فيه الكاتبة.
عادت أولبرايت لتتحدث عن همها الذي ابتدأت به الحديث وهو المرأة السعودية وحقها في الانتخاب وحقها في العمل ، وأشارت إلى الانتخابات البلدية التي كانت قيد الإنجاز أثناء مشاركتها في المنتدى الاقتصادي بجدة، ويجدر هنا التذكير بأن مادلين أولبرايت أو أي من المسؤولين الأمريكيين لم يعد يتحدث عن الاقتراع في السعودية بعد أن أفرزت الانتخابات البلدية الأولى فوز أكثرية من الملتحين ، مما يعني أن حرية الاختيار لديهم مطلوبة فقط حين لا تكون في صالح المتدينين ، وهذا ليس استنتاجاً بل صرحت به الكاتبة في الفصل الخامس عشر من الكتاب .
مشكلة مادلين مع النظام الاجتماعي في السعودية هو في إفراطه حسب تعبيرها في حمايته للمرأة ، والعجيب أنها تُشَبِّه هذه الحماية المفرطة في زعمها بحماية والدها لها حين كانت في مراهقتها تواعد الشباب الذين يملكون سيارات ويصر والدها على اللحاق بها بسيارة العائلة ؛ هنا يتبين أن الكاتبة تذهب بعيداً في رؤيتها للحقوق التي تريدها للمرأة السعودية حيث تصل إلى حقها المزعوم في المواعدة ، وهذا الأمر قد أفهمه من امرأة تنتمي للكنيسة الأسقفية التي تبيح الزنا والإجهاض وزواج المثليين ، لكني لا أفهمه من امرأة تحترم الدين الإسلامي وتحترم واقع المرأة في السعودية كما تقول ، وتقر بأن الغرب ليس لديهم الجواب عن كل شيء وأن المرأة السعودية قد تختار الوضع الذي هي عليه لو مُكِّنت من الاختيار.
وكأنما يبدو لي وأولبرايت تتحدث وبالرغم من كلامها المفعم بالمطالبة بالحرية :أن منتهى ما تريده من حرية للمرأة في السعودية أن يصل الحال لما وصل إليه في بلاد أخرى أدخل الغرب فيها قِيَمَه وأصبح الآباء يمضون متحسرين وهم لا بستطيعون حماية بناتهم من الشباب الذين عندهم سيارات كما كان عليه حال والد الكاتية ؛ وجميل جداً ما أدلت به إحدى الفتيات المحجبات حجاباً كاملاً حين التقت الكاتبة بمجوعة منهن وسألتهن عن المشكلات التي يواجهنها ، فأجابت بأنها دخول أمريكا في مشاكلنا .
نعم فلدى الساسة الأمريكيين تصور بأنهم هم النموذج الصحيح للأخلاق والعادات والحريات وأن من واجبهم نشر ذلك في الأمم الأخرى ، ولذلك لا تكاد تخلو لقاءات سياسييهم بنظرائهم من العالم الإسلامي والسعودية بشكل خاص من أسئلة تصل حد محاولة الضغط في اتجاه التغير نحو الاقتراب من القِيَم الأمريكية ، مع أن الساسة المسلمين والسعوديين لو حملوا الهم نفسه وقدموا تساؤلات مضادة في لقاءاتهم مع المسؤولين الأمريكيين لاتضح لهم ما يحاولون إخفاءه أو يجهلونه فعلاً من مشكلات عصيبة من ظلم يقع على النساء الأمريكيات والأطفال والشباب والفقراء بسبب هذه القِيَم التي تريد أمريكا تصديرها إلينا ، والأمر ليس صعباً فهناك كتب كثيرة تتضمن إحصائيات دقيقة تتعلق ببطالة النساء واستغلالهن واغتصابهم وامتهان كرامة الأطفال والمراهقين بالإمكان تقديمها في شكل نصائح للأمريكيين حينما يريدون الضغط علينا في اتجاه قيمهم.
فأولبرايت حتى في زيارتها لولي العهد ،الملك عبدالله فيما بعد جعلت هذا هو محور حوارها معه ، وركيزت ثنائها عليه رحمه الله بعد أن صار ملكاً .
وفي ختام الفصل أوصت الكاتبة الغربَ بمواجهة هذه المعضلة في السعودية ومساعدتها على التغيير ، وأنه ليس من ذلك مفر بسبب ثقل وزن السعودية الاقتصادي .
ولعل أولبرايت وكثير من القادة الأمريكيين يعون أن وضع السعودية الديني والأخلاقي لم يَحُل يوماً ما بينها وبين إقامة أعمق وأعرق علاقة اقتصادية مع الولايات المتحدة على الخصوص التي اختارها الملك المؤسس لتكون شريكا للسعودية في استخراج النفط وبيعه ، وكان لذلك أثر كبير يتجاهله الساسة الأمريكيون في تَقَدُّم الولايات المتحدة على منافسها السوفييتي ومنافسيها الأوربيين ، في وقت كان الفكر الذي تسميه الكاتبة الوهابي في أقوى مظاهره في التأثير على العلاقات السعودية الشعبية والحكومية .
القضاء على التطرف الديني الذي تهتم أولبرايت به يكون ببقاء السعودية على قِيَمِها التي نشأت عليها ؛ أما العمل على إفراغ شعوب العالم من خصائصهم كي يقتربوا أكثر من الغرب فلن يولِد إلا أمثال أولئك المتطرفين الذين وُلدوا وتربوا في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والمغرب العربي ثم كانت خاتمتهم التفجير في بلادهم أو الانضمام إلى داعش والقاعدة.
ينتهي الفصل بالتناقض الأخير حيث تطالب هي السعودية بالتغير من أجل محاربة الإرهاب مع أنها في صدر الفصل ذكرت أن الوهابية والسعودية ليستا وراء الإرهاب.
د.محمد بن إبراهيم السعيدي
كلما قرأت لك كلما استفدت شيئا جديدا دكتور محمد حفظك الله ورعاك.
سلمت يمينك فضيلة الشيخ
ارى مطالبات اولبرايت تُطبق نسبياً الآن ، وهذا ما لا اتمناه .
دمتم بحفظ الله ورعايته