تحقيق رأي العلَّامة القرافي في المجسمات

تكبير الخط تصغير الخط

تحقيق قول القرافي في حُكم المجسمات

المعلوم أن علماء الإسلام أجمعوا على حُرمة عمل المجسمات ذوات الظل التي على هيئة ذوات أرواح  تامات الخِلقة ،ولم يكن ذلك خاصاً بمذهب من مذاهب أهل السنة دون  مذهب، وليس خاصاً بالسلفيين أو مدرسة ابن تيمية وابن عبد الوهاب ، كما يُثيره البعض ، قال النووي الشافعي:وأجمعوا على منع ما كان له ظلٌّ، ووجوب تغييره، قال القاضي: إلا ماورد في اللعب لصغار البنات والرخصة في ذلكوقال ابن العربي المالكي رحمه الله:فإنهاأي: الصورمحرمةٌ إذا كانت أجسادا بالإجماع“.

إذن فالأمر المجمع عليه هو الصورة التي تحمل الصفات التالية :

١أن يكون تمثالاً لذي روح .

٢أن يكون مجسماً وعبروا عنه بكونه ذا ظل .

٣أن يكون كامل الخلقة .

فإذا لم يحمل التمثال المجسم هذه الصفات فاختلف العلماء فيه ، فمنهم من حرمه ومنهم من كرهه ولم يُحَرِّمه .

وقد استشكل بعض الإخوة الكُتَّاب ما كتبه العلامة شهاب الدين القرافي رحمه الله في كتابه نفائس الأصول في شرح المحصول :أنه صنع شمعداناً هو عبارة عن آلة منبهة لأوقات الصلاة ووضع فيها مجسماً لآدمي ومجسماً لأسد، وأن هذين المجسمين ينبهان لدخول أوقات الصلاة.

 وطلب الكاتب أن يُدرس هذا النص ؛لأنه يدل برأيه على أن المسلمين لم يكونوا مجمعين على تحريم المجسمات ،وأنهم لا يمنعون منها إذا كانت ذات فائدة ، واستأنس لرأيه بما ذكره من كون الصحابة لم يهدموا التماثيل أو يَتَعَدَّوا على الرسوم التي مروا بها في فتوحاتهم .

وتوضيحاً لما استشكله الأخ الكريم أُبَيِّن أن القرافي رحمه الله لم يخرج عن الأمر المجمع عليه في تحريم المجسمات ، وقد بَيَّن ذلك في كتابه الذخيرة ، وفَصَّل فيه أبْدع تفصيل ؛ وسوف أنقل نصَّه بعد قلبل ، وأُعَلِّقُ عليه ، لكني قبل ذلك أنتقل إلى جواب سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان ، وهو : هل  خالف القرافي فتواه بأن عمل بما يراه مُحَرَّماً ؟

أم أن هناك شيئاً غير واضح في فتواه في كتاب الذخيرة ، أو في حكايته صنيعَه في كتابه نفائس الأصول ؟

والجواب : أما عن الشق الأول فهو غير المظنون في عالِم مثل القرافي أن يعمل بخلاف ما يفتي به ، فضلاً عن أن يجاهر بهذه المخالفة ، ولو حدث ذلك عند القرافي أو عند غيره من العلماءفمع أن الأصل إحسان الطن بهم ،إلا أنهم ليسوا معصومين من الخطأ والزلل ، فيبقى المُعَوَّل عليه هو  فتواهم إذا تعارضت مع عملهم .

لذلك علينا أن نقرأ نص ما قرره القرافي في كتاب الذخيرة حول التماثيل، قال رحمه الله :لَايَجُوزُعَمَلُالتَّمَاثِيلِعَلَىصُورَةِالْإِنْسَانِأَوْشَيْءٍمِنَالْحَيَوَانِ لِقَوْلِهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم

(إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَال لَهُم أحيوا مَا خلقْتُمْ)وَقَولهصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ

(إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ) وَالْمحرم من ذَلِك بِإِجْمَاع ، مَاله ظلّقَائِم على صفة مَا يحيى مِنَ الْحَيَوَانِ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الرُّسُومِ فِيالْحِيطَانِ وَالرُّقُومِ فِي السُّتُورِ الَّتِي تُنْشَرُ أَوِ الْبُسُطِ الَّتِي تُفْرَشُ أَوِالْوَسَائِدِ الَّتِي يرتفق بهَا مَكْرُوهَةٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ فِي صَحِيحِ الْأَقْوَالِلِتَعَارُضِ الْآثَارِ وَالتَّعَارُضُ شُبْهَةٌ وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ يَحْرُمُ الْجَمِيعُ مَرْسُومٌفِي حَائِطٍ أَوْ سُتُرٍ أَوْ غَيره وَإِبَاحَةُ الْجَمِيعِ وَإِبَاحَةُ غَيْرِ الْمَرْسُومِ فِيالْحِيطَانِ وَالرُّقُومِ فِي السُّتُرِ الَّتِي تُعَلَّقُ وَلَا تُمْتَهَنُ بِالْبَسْطِ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهَاوَالَّذِي يُبَاحُ لِلَعِبِ الْجَوَارِي بِهِ مَا كَانَ غير تَامّ الخلفة لَا يحيى مَا كَانَصُورَتُهُ فِي الْعَادَةِ كَالْعِظَامِ الَّتِي يُعْمَلُ لَهَا وُجُوهٌ بِالرَّسْمِ كَالتَّصْوِيرِ فِيالْحَائِطِ وَقَالَ أَصْبَغُ الَّذِي يُبَاحُ مَا يُسْرِعُ لَهُ البلا قَالَ فِي

الْبَيَانِ وَإِنَّمَا اسْتُخِفَّ الرُّقُومُ فِي الثِّيَابِ لِأَنَّهَا رسوم لَا أجاسد لَهَا وَلَا ظلّشبه الْحَيَوَان وَلَا يحيى فِي الْعَادَةِ مَنْ هُوَ هَكَذَا وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى مَايُمْكِنُ لَهُ رُوحٌ فَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَجَازَ لَعِبُ الْجَوَارِي بِهَذِهِ الصُّوَرِالنَّاقِصَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َكَانَ يَعْلَمُ بِلَعِبِ عَائِشَةَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِهَا وَبِسَيْرِهَا إِلَيْهَا فَيَجُوزُ عَمَلُهَا وَبَيْعُهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَتَهْذِيبُ طِبَاعِ النِّسَاءِ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ كَمَا أُلْهِمَ كُلُّ نَبِيٍّ فِيصغره رِعَايَة الْغنم ليتعود سِيَاسَةِ النَّاسِ لِأَنَّهُ فِي الْغَنَمِ يَمْنَعُ قَوِيَّهَا عَنْضَعِيفِهَا وَيَسِيرُ بِسَيْرِ أَدْنَاهَا وَيَرْفُقُ بِصِغَارِهَا وَيُلِمُّ شَعَثَهَا فِي سَقْيِهَاوَمَرْعَاهَا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِأُمَّتِهِ عِنْدَ نُبُوَّتِهِ

الذخيرة 13/286

نستفيد من هذا النص : أن القرافي رحمه الله يُثبت تحريم صناعةالتماثيل التي على هيئة إنسان أو حيوان حي ، ويحكي إجماع العلماءعلى ذلك ؛ ويُثبت أن العلماء مع إجماعهم على هذه المسألة مختلفين فيماسواها من مسائل التصوير بين التحريم والكراهة والإباحة ؛ وأجاز  الصور الناقصة للحاجة وهي ما كانت تحاكي التماثيل وليست تماثيل ،ومَثَّل لها بما كانت تصنعه عائشة رضي الله عنها من اللعب بالأعوادتُحاكي بها البشر ، وذكر أن الحاجة قائمة لذلك لتعليم الأطفال ولاسيماالبنات منهم .

وبهذا التقرير يمكننا الجمع بين ما ذكره القرافي في نفائس الأصول منصناعته لتمثال آدمي وأسد ، وبين تحريمه لصناعة التماثيل في كتابهالذخيرة ، بأن التماثيل التي صنعها في الشمعدان ليست تماثيل كاملة؛بل وجوه مطموسة المعالم أو ترمز للإنسان وليست على هيئة إنسانحقيقي .

كما أننا ينبغي أن نلتفت إلى تقييده رحمه الله ذلك بالحاجة ، وهو ماذكره الكاتب حفظه الله في سؤاله عن إمكانية إباحة التماثيل للحاجة ،فيجاب بنعم وفق فتوى القرافي على أن لا تكون بمثابة إنسان قائم .

أما سؤاله : هل كان المسلمون في ذلك الزمان بصدد صناعة ريبوت ،فالجواب : نعم ، لقد كان علم الميكانيك ، وكانوا يُسَمُّونه عِلْمَ الحِيَل ، أوعلم القُوَى المحرِّكة ،متقدما عند المسلمين وفي وقت مبكر ، ولا تخفى علىأحد تلك الساعة العظيمة التي أهداها هرون الرشيد لشارلمان ملكفرنسا ، والتي ركَّبها مهندسون عرب في ديوان شرلمان بعد أن أحضرواأجزاءها معهم من بغداد ، وتتكون من اثني عشر صندوقا على هيئة مانسميه اليوم [دولاب ملابس] وعلى رأس كل ساعة يخرج من أحد هذهالصناديق فارس يخبر عن الساعة ، وقد ذكر المؤرخون الفرنسيون أنشارلمان أمر بتكسيرها لأنه خاف منها وظن أنها تتحرك بفعل الشياطين .

وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست وحاجي خليفة في كشف الظنونالعشرات من كتب الميكانيكا ؛ وكلها تؤكد أن المسلمين لم يكن ينقصهملتطوير هذا العلم سوى اكتشاف الطاقة  ، والمؤسف أن مؤلفات المسلمينفي هذا العلم وغيره من العلوم كالفيزياء والرياضيات لاتزال حبيسةمكتبات المخطوطات ولم يتم تحقيقها ونشرها ، بل إن كثيراً منها سطاعليه الأوربيون وترجموه ونشروه بأسمائهم ، وهذه دعوة لجامعاتناالسعودية لفتح باب تحقيق التراث العلمي في الرياضيات والفيزياء وعلمالحيل والهندسة والطب ليعلم شبابنا مقدار وقيمة التراث الذي خلفهآباؤنا ، لا لننطلق منه ، بل لنحفظ حقبة علمية تاريخية مهمة من حياتنا.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.