في الإصلاح الإسلامي

تكبير الخط تصغير الخط

في الإصلاح الإسلامي

بالرغم من مرور ما يقارب الألف والأربعمائة عام على حدوثها فلا تزال حركة عبد الرحمن بن الأشعث ضد الدولة الأموية في حاجة ماسة إلى دراستها ، والاستفادة من نتائجها ؛وقد كان المسلمون الإسلاميون حقاً فيما بعد تلك الوقائع ،قد خرجوا بنتيجة فقهية جديدة،مستفيدين من آيات الله و أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ،التي تحض على الالتزام بطاعة الحُكَّام،ومُنْزِلِين تلك الأحاديث على حركة ابن الأشعث التي قُتِل فيها كثير من الخلق وضاعت جراءها كثير من الأموال وأهدر بسببها عدد من الفرص التي لو نُهِزَت ـ والله أعلم ـ لتغير تاريخ الدولة الإسلامية إلى ما هو أفضل ، لكن الأمر كان ، ولا نقول إزاء ما كان إلا لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ أما الإسلاميون في عصرنا الحاضر ،فليس لأكثرهم تجاه هذه الموقعة إلا عكس كلام الأوائل ، فإذا كان الأولون استفادوا من تلك الوقائع العملَ بأياتٍ وأحاديث الطاعة لولاة الأمر ، فإن المعاصرين قلبوا الأمر ورأوا أنها كانت حركة في الطريق الصحيح نحو الحرية ؛ وإذا كان الأولون رأوا في تلك الحركة ضياعا للأنفس والأموال دون حق ، فالمعاصرون يرون أن المنايا لاخيار فيها لأحد ، وأن الأموال ستضيع هنا أو هناك ، ولك أن تنظر في مسرحية ” شيخ وطاغية ” للقرضاوي رحمه الله التي تحكي مشهدا واحداً من مشاهد واقعة ابن الأشعث لتجد هذا النَفَس المستهين في الدماء مقابل محاولة لا غير وإن كانت فاشلة بل مميتة مذلة مرهقة  ؛ فبان أن قصد الأولين  الحفاظ على الدولة وقصد المعاصرين إضاعة الدولة ؛ واتضح هذا القصد من كون أهل السنة ممن مقاصدهم دينية محضة لم يشتركوا في أيٍ من محاولات التغيير التي جرت في العالم الإسلامي سواءًا منها التي نجحت أم التي فشلت ، فلم يكن لأهل السنة المتدينين محاولة من هذا النوع ،منذ حركة ابن الأشعث وحتى مطلع العصر الحديث ، ولكن الثورات والخروج على الحكام كان من قِبَل طوائف أُخَر غير أهل السنة كالزنوج والإسماعيلية والمماليك ، أما المرابطون فقد كان تأسيسهم لدولتهم في زمن لم تكن هناك دولة في منطقتهم ، فكان ذلك هو مشروعهم ؛ لكن الموحدين الذين ثاروا على المرابطين لم يكونوا من أهل السنة ، وكذلك دولة نور الدين زنكي وعماد الدين كانت من دويلات السلاجقة التي كما قلنا لم تنشأ نشأة دينية وإن كانت احتفظت لأهل السنة بقوتهم ومنعتهم ،ونَفَعَهُم الله بها ، وكان من ثمارها دولة صلاح الدين الأيوبي التي لم تُخَلِّف بعده حاكماً ذا صلاح ، هذا مع ما نتحفظ عليه من أشعريته ، وتقريبه لموسى بن ميمون الطبيب اليهودي الذي لا أشك – وهذا رأيٌ لي – أنه تسبب في قتله ، وهذه أمور يسيرة يغمرها في بحر محاسنة رحمه الله ، وكذلك الدولة العثمانية كانت في نشأتها قبلية ولم تكن سُنِّية ، بل صوفية محضة ، وإن كان غلاة المتصوفة يزعمون انتسابهم للسنة محتجين باتفاقهم معهم في مصادر التلقي ، ومع هذا فلم تقم على هذه الدول ثورة من أهل السنة ،ويصح لقائل أن يقول : وأين أهل السنة في زمن الدولة العثمانية ؟

وجواب هذا :أن نعم ،لم يكن السنة الحقيقيون إلا أفراداً في ذلك العصر ، وهنا أوضح أنني لا أعني بأهل السنة في هذا المقال السلفيين وحسب ، بل حتى الأشاعرة أعنيهم هنا ، لكن خلو الأشاعرة من الغلو في التصوف ومن دعاء غير الله والاستغاثة الشركية والتوسل بالمخلوقين كان نادراً بينهم ، ومن لي بأشعريٍ في ذلك الوقت لم تختلط فيه هذه اللوثات التي تكاد تذهب بعقل صاحبها ودينة .

ولم يكن الخروج على السلاطين في كل التجارب السالفة يأتي بوضع أفضل مما مضى، سواء أقام به من ينتسب إلى السنة أم من ينتسب إلى البدعة ، فكانت دولة بني أمية خيراً من دولة بني العباس وهذه خير مما قام في داخلها من دول كالطاهرية والإخشيدية والأغلبية والإدريسية ، وهذه جميعها خير من الدولة العُبَيدية التي جاءت بعدها ، ولا شك أن الصلاحية جاءت بعد العبيدية وفضل صلاح الدين على العبيديين كفضل الوجود على العدم ، لَكِنه لم يأت إلى الحكم في مصر بثورة ، بل ظل وزيراً إلى أن هلك سلطان بني عبيد .

وظل الخروج على السلاطين محرماً عند أهل السنة وعند الأشاعرة والماتريدية حتى عصر عبد الرحمن الكواكبي [ت١٣٢٠]ألذي ألف كتاب طبائع الاستبداد وكتاب أم القرى ، وكان شيخاً دارساً لعلوم الشريعة ، وكان أول من نظَّر لمسألة الخروج على المستبد ، ولعل من جاء بعده تأثر به ، وهم حسن البنا ومعه جماعة الإخوان ، ومن شابههم ، إذ لم يكن لرأي العلماء في هذا الشأن أي أثر في رأيهم ، بل لم يلتفتوا إليه وظل موضع سخرية عند كثير منهم .

ولعل من أسباب عدم التفاتهم إلى ما قاله العلماء عدم وجود حديث عن الطريقة الشرعية للتغيير ، فلم ينه الله عن الخروج على أولياء الأمور إلا وهناك سبيل لدرء الفساد الممكن من جهتهم ، وتصحيح الأخطاء وإنقاذ الأمة مما ينبغي أن تنقذ منه ، فهذه الأمور لم تكن موجودة في كلام العلماء سوى ابن تيمية ، ولم يكن ابنُ تيمية عالِماً مُحَبَّذَاً عند الكثيرين ، كما أن مؤلفاته التي تكلم فيها عن لزوم الطاعة لم تكن قد طبعت ، فأدى الفراغ في هذا المجال إلى أن يقصُر هؤلاء عقولهم على الخروج ،وعلى التكفير ،وعلى الحلول الثورية التي هي أقرب إلى التفكير السطحي ، وإلى التأثر بتاريخ الغرب ، من أن توصف بأنها إسلاميةٌ كما ينبغي . ومنهم من يصف الحل الشرعي الذي يطرحه ابن تيمية بأنه طويل الأمد ولذلك لا يرونه عملياً ولا يلبي الاحتياجات الراهنة ، لأنه يتمثل في ضرورة انشغال أهل العلم وأهل الخير والدعوة ، بدعوة الناس إلى توحيد الله والعمل الصالح والبر وصلة الأرحام والرحمة ومكارم الأخلاق من أجل الله تعالى وابتغاء سبيله ، فإذا صَلُحت الأمة يسر الله لها حاكما يُصلُح به شأنها .

فهذا العمل الجهيد سيأخذ زمناً ، وقد ينجح وقد يفشل ، ولهذا يسارعون في الحلول التي تُسارع بهم في ظنهم إلى ما يبتغون .

والذي ينسونه في تسارعهم هذا هو توفيق الله للمصلحين ووعده لهم بالاستخلاف والتمكين حين يلزمون الإيمان وعمل الصالحات كما قال تعالى ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ [النور: ٥٥]

وهنا أنتهي إلى موعظة للذين يسارعون إلى هدم الدول فأقول لهم اتقوا الله تعالى فليس ما ترومونه هو وسيلة الإصلاح ، وقد جربتموها منذ مائة عام وأكثر فما كانت نتائجها ، بعد تلك السنوات إلا أماني لا تغني من الحق شيئا .

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.