إلماعة حول المادة الأولى من بيان وزارة الداخلية

تكبير الخط تصغير الخط

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين. وبعد :

كثيرٌ من القرارات الدولية أو الحكومية تشتمل خيراً كثيراً يمكن الانتفاع به والمطالبة بتطبيقه ، بل والدخول من خلاله لتحقيق مصالح عديدة قد لا تكون منصوصة في ثناياه ، إلا أن نظرنا إليها بعين الشَّاك أو المُكَذِّب والمُخَوِّن أو الغاضب أحياناً ، أو بعين الرضى المُطلَق والانتصار المحبب أو الشماتة المُتَوَقَّعَة ، أحياناً أخرى ، كل ذلك يجعل أبصارنا لا تقع منها إلا على موضع الخلل الدي أزعجنا أو الهوى الذي أسعدنا ، فنطير بتلك القضية وحدها أيما طيران ذامِّين أو حامدين ، غافلين أو متغافلين عمَّا سواها مما يتضمنه ذلك القرار من أمور لو وقفنا عندها وعمِلنا على الاستفادة منها لحمدناها وحمدنا غِبَّها .

أقرب مثال لذلك هو بيان وزارة الداخلية السعودية المستندُ إلى الأمرِ الملكي بتشكيل لجنةٍ وزارية لتحديد الجماعات والتنظيمات التي يعاقب النظام على الانتماء إليها …

فإن أكثر من كتب عن هذا البيان أو علَّق عليه لم يلتفت منه إلا إلى ما تضمنه من تصنيفٍ لجماعة الإخوان المسلمين ، ما بين طائرٍ به فرحاً ، أو مستطيرٍ منه غضبا أو فَرَقَا، مع أنَّ هذا التصنيف في تقديري ليس أكثر ما أهمني في البيان ، بل هو كما ببدو لي أقل ما تضمنه من الأمور أهميةً على الأقل بالنسبة لي كمواطن ، ومع ذلك سار به الإعلامُ بأنواعه ،ومعظمُ الأخبار والتحليلات بكل أشكالها ، والأغربُ أنهم جعلوه عنواناً لهذا البيان فقالوا: الداخلية تصدر بيانا يصنف الإخوان جماعة إرهابية ، مع أن الإخوان لم يُشَكِّلوا من البيان أكثر من كلمتين ، وقرأتُه أكثر من مرة فلم أجد فيه ما يؤكد كون الجماعة مصنفة كإرهابية إلا على سبيل الحَمْل والإلزام، وهذه الطريقة- أي طريقة الحمل والإلزام – في فهم البيانات قابلة للتشكيك أو النقض .

البيان بأكمله بيان أمني بالدرجة الأولى سياسي بالدرجة الثانية ، وما كان كذلك فالأصل فيه التغيُّر بِتَغَيُّر منطلقاته وبواعثه [إن كانت قابلة للتغيير] ، ولا شك أن من الخطأ والخلط أن يُبْنَى على المُتَغَيِّرات مواقف حاسمة ، وهذا هو ما يحصل في عالمنا العربي بأسره حيث يُعامِل المواطنون وكُتَّاب الرأي المتغيرات من القرارات السياسية والأمنية معاملة الثوابت فيُخَاصِمُونها أو يُخَاصِمُون عنها وكأنها حُكم نهائي غير قابل للنقض .

وهذه الطريقة في تقدِير المُتغيِّرات عموماً والقرارات الأمنية والسياسية خصوصاً ، من الأمور التي تُساهم في تعميق الفجوات بين نخب المجتمع التي من الطبعي أن تكون منقسمةً حيال كل قرار ، ما بين مؤيدة له ومعارضة ، وكذلك يعمق الفجوة بين متخذ القرار وبين النخب المعارضة لهذا القرار بدلا من التقريب المُفْتَرض ، وكل ذلك ليس في صالح أحد .

يبدأ البيان بسرد عدد من المحظورات التي سوف تتم عقوبة من يرتكبها ويجعل على رأسها :الدعوة للفكر الإلحادي بأي صورة كانت ، أو التشكيك في ثوابت الدين الإسلامي التي قامت عليها هذه البلاد.

وهذه القضية في تقديري ينبغي أن تكون هي أهم ما يشتمل عليه البيان ، فتجريم الإلحاد ربما لا يكون جديداً على النظام في المملكة العربية السعودية ، لكن كلمة : الفكر الإلحادي هي الجديدة والمفيدة ، فالفكر الإلحادي أوسع بكثير من الإلحاد لأنه يشمل التوجهات الفلسفية والأدبية والاجتماعية والعقائدية المؤدية إلى الإلحاد أو التي كانت نتيجة للإلحاد ، وعليه فإن أي دعوة إلى فكر فلسفي مؤدٍ إلى الإلحاد أو ناتجٍ عنه ، أو مذهبٍ أدبي أو اجتماعي أو اعتقادي بهذه الصفة يعتبر جريمة تجب المعاقبة عليها .

ثم يأتي وصف الدعوة بالقول :بأي صورة كانت ،وهي أيضا إضافة جديدة لا تجعل الدعوة للفكر الإلحادي مقتصرة على الأساليب التقليدية المُبَاشرَة ، بل يدخل فيها كل أسلوب يُمكِن أن يفهم على إنه تزيين وتحسين لهذا الفكر ولو لم يكن مناداةً مباشرةً به ، وذلك كعقد الندوات للتعريف بكبار فلاسفته أو تدارس نظرياتهم ، أو الترويخ لروايات أو لأفلام سينمائية أو كرتونية ترْمز لفكرهم .

أما عبارة ( أو التشكيك في ثوابت الدين الإسلامي ) فهي كلمة قد يدخلها التنازع في الفهم ، بسبب أن هناك من ينازع فيما هي الثوابت ، لولا العبارة التي جاءت بعدها ، وهي وَصْفٌ مُقَيِّد ، ( التي قامت عليها هذه البلاد) فلا أحد يُمْكِنُه أن يُنَازع في أن هذه الدولة قامت على التوحيد ونبذ كل ما يخُل به من استغاثة بغير الله ، أو توسل بأحد من خلقه ميْتاً مهما كان قدره ، أو حياً فيما هو من خصائصه عز وجل ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى ، ولا يُنازِع أحدٌ أيضاً في أن البلاد قامت على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ، فالتشكيك في التوحيد أو تقريرُ شيءٍ مما يُخِل به ، أو التشكيك بالكتاب أو السنة أو شئٍ مما ورد فيهما أو أحدهما ، وكذلك التشكيك بسلف الأمة ونفي منهجهم الاستدالالي أو التطاول عليه ، كُلُّ ذلك يُعّد جريمة يستحق صاحبها العقوبة ، كما هو نص البيان .

أرى أن من المؤسسات الإعلامية ومشاهير الكُتاب من ملأوا الأسماع إشادة بتلكما الكلمتين الواردتين في حق الإخوان المسلمين ، وفي ظني أن هذه الإشادة لم يكن دافعُها عداوة الإخوان بقدر محاولة صرف الأذهان والأبصار عن المادة الأولى محل حديثنا .

لذا أرى أن الانسياق وراء من يحاولون اختزاله في شئ مما ورد فيه ، سيساهم إما عمداً أو غفلةً في إماتة مثل هذه الجوانب التي أراها مميزة ومفيدة لو تم التأكيد عليها والمطالبة المستمرة بتطبيقها ،أما عدم الحديث عنها أو إبرازها بالشكل المطلوب والاقتصار على الاصطفاف حول جزئية الإخوان مابين مؤيد ومعارض فأمر لن يخدم أحداً.

من هنا أطالب وزارة الداخلية ووزارة العدل ووزارة الثقافة والإعلام بالجدية التامة في العمل بالمادة الأولى من هذا البيان ، وأن يكون تعاملهم معها مساوياً لتعاملهم مع ما بعدها من مواد هذا إن لم يكن متفوقاً ومقدما عليه .

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.