بذور الاصطفاف في بلادنا

تكبير الخط تصغير الخط

فيما مر بي ويمر بي من كتابات لا أجد لمصطلح الاصطفاف شيوعاً أكثر منه في توصيف ما يحدث في المملكة العربية السعودية من تنازع بين التيارات الفكرية هنا ، وهو مصطلح يَقْصٍدُ به من يُطْلِقُه بلوغ الاختلاف في المجتمع حداً يجعل الأطراف في مواجهة بعضها، كتعبير عن حالة انعدام المواءمة والتوجه نحو الاصطدام واستحالة السير في طريق واحد .

هذا الشعور يجده كلُ من يكتفي في إعطاء الحكم عن الحالة الفكرية في بلادنا بالنظر إلى صحافتنا، وبعض مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يلمس المتابع لهذين المصدرين أن الحالة الفكرية في المجتمع السعودي قد وصلت حد التنازع والصراع من أجل البقاء .

لكن من يحاول قياس حالة الحراك الفكري عن طريق وسائل أخر ، كالمساجد والأنشطة الدعوية والاجتماعية والخيرية بل وحتى الرياضية ، والملتقيات الأسرية والعشائرية تتبدى له صورة معاكسة تماماً فالمجتمع يعيش توجها إيمانياً دينياً واحداً ويملك رؤية متقاربة في كل ما يعيشه وما يحيط به من أحداث اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية ، حيث لا يُشَكِّلُ المخالفون جذرياً في كل ذلك نسبةً يؤبه لها ، أما المختلفون جُزئياً فوجودهم هو الأمر الطبيعي وليس هو ما يُسَمَّى بالاصطفاف .

الاصطفاف هو:تناحر فكري تكمن خطورته في أنه يؤول حتماً _ما لم يتم تداركه_إلى تناحر من نوع أخطر ، حيث ينشطر المجتمع وتشيع العداوة بين أبنائه ، بحيث يصبح اختراقه واستقطاب أجزاء منه سهلاً من أي جهة معادية تكون لها مصلحة في إضعاف بنية المجتمع ومن ثَمَّ الدولة .

وقد شهدت دولتنا المباركة محاولات خطيرة للإسقاط من خلال دعم خارجي للنتوءات الفكرية التي تحاول فرض نفسها على الأمة وإحداث التغيير العقدي والفكري والاجتماعي والسياسي ، لكنَّ الوعي العظيم بخطورة النتوءات الفكرية وأبْعَادِ وجودها بين ظهراني أي شعب من قِبَلِ قياداتها المتعاقبة جعلها ولله الحمد تتجاوز كل تلك المخاطر وتمضي منها بشكل هادئ جداً ، استطاعت الدولة أن تقوم به دون أي ارتباك أو ضجيج .

فمع بداية السبعينات الهجرية استطاع الاتحاد السوفييتي إنشاء تجمعات شبابية ماركسية ذات طموح إلى ثورة حمراء في الجزيرة العربية ، سمَّت نفسها بادئ الأمر جبهة التحرير الوطني ثم تسمت بالحزب الشيوعي السعودي.

وقد اعتنقت هذه المجموعات أفكارها الناتئة الشوهاء عن طريق اختلاطهم بالموظفين العرب من حملة الفكر الماركسي الذين كانوا يفدون من فلسطين ولبنان والعراق والبحرين ، وقد وجد هؤلاء الوافدون في بعض الشباب السعودي صدمة حضارية شكلت مرضاً استطاع دعاة الماركسية النفاذ منه إلى قلوبهم وعقولهم وقاموا فعلاً ببعض الأعمال المُبَكِّرة تحت شعار المطالبة بالعدالة والمساواة وحاولوا عبر طرق عديدة التأثير في النشء إلا أن نتائج نشاطاتهم كانت ضعيفة ولله الحمد ، واستطاعت الدولة محاصرتها بسبل مختلفة حتى تآكل الفكر الماركسي ، لكن كثيراً ممن بقي من معتنقيه أو تلاميذهم انتقلوا إلى الفكر الليبرالي أو هكذا أظهروا للناس ، لعجز أفكارهم الماركسية عن البقاء بعد أن ثبت عملياً فشلها بسقوط الاتحاد السوفيتي .

ومع نشاط حزب البعث العراقي والسوري وبعد الانقلاب الناصري على حكم محمد نجيب في مصر أوائل منتصف السبعينات الهجرية  ظهرت في المملكة تجمعات قومية بعثية وناصرية ، كلها معادية لوجود الدولة السعودية ، وتضامنت مع التحركات الماركسية وتورطت في علاقات خارجية مناهضة للوطن بل وتورطت أيضا في أعمال عنف ، وقامت أجهزة الأمن في المملكة بتتبعها ومحاصرتها فكرياً وأمنياً ، وكانت انتكاسة ١٩٦٧ بالنسبة للقوميين الناصريين ، أما البعثيون فكان أثرهم ضعيفا من الأساس ، وذلك لأن المجتمع كان أكثر رفضاً لهم بسبب محادتهم الواضحة للدين بعكس القوميين الناصريين الذين لم يكونوا يَرَوْن تعارضاً بين الدين والقومية حسب رؤيتهم .

وبعد انحسار الفكر القومي وظهور تهافته تبنى كثير ممن بقي من هؤلاء القوميين ومن تأثر بهم الخطاب الحقوقي والليبرالي كما حصل مع بقايا التيار الماركسي .

وفي الثمانينات الهجرية ارتفعت موجة الاضطهاد ضد الإخوان المسلمين في كل من مصر والعراق ومن ثَمَّ ليبيا فكانت المملكة العربية السعودية هي الملاذ الآمن لهم، حيث لم يكن الطرح الإخواني في عمومه سوى مطالبة برفع الظلم وتحكيم شريعة الله سبحانه وتعالى ، وكان ذلك متوافقاً مع ما تدعو إليه السعودية وجعلته مشروعاً لها تنشره في العالم العربي والإسلامي ، وكان الإخوان لاسيما في مصر يُشَكِّلون طاقات علمية وفكرية رأت المملكة إمكانية الاستفادة منهم في مشاريعها العلمية والدعوية ، ووجد الإخوانيون في مؤسسات الدولة بيئة مناسبة لنشر الفكر الإسلامي  فالتقت الرغبتان واستفاد الطرفان من هذا التلاقي كل بحسبه .

إِلَّا أن لغة المظلومية السياسية  في الخطاب الإخواني وما ينتج عنها من أفكار ومصطلحات كثيرة يمكن الاستفاضة فيها في مقالات استطاعت أن تؤثر على عدد من طلبة العلم الأذكياء السعوديين وتنسحب على خطابهم هم أيضا ، فوقف قليل منهم في مواجهة الدولة بخطاب تشعر أنه يحمل أنَّات المسجونين في سجون عبد الناصر من الدعاة والعلماء في مصر منذ الستينات ، وكأنها إنما حدثت في بلادنا وكان خطاباً لدى عدد من رموزه وليس كلهم متشككاً مُحَرِّضاً ، ينظر إلى هذه الدولة كما ينظر إلى أي نظام عربي آخر، ويُثبِت مصداقيته لدى المتلقي البسيط بوضع المجهر على السلبيات التي كانت حينذاك موجودة حقاً لكن تأثيرها كان ضعيفاً بسبب قوة أهل العلم وما كان لهم من مكانة عند الدولة وقدرة على التغيير ، وكان ذلك الخطاب قليل المراعاة للمحاسن الكبيرة و ما تمتاز به من تقديم أهل العلم الشرعي وتحكيم شريعة الله ونشاط لا مثيل له في العمل الخيري الإسلامي والإغاثي ودعم الحركات الجهادية كما كان في أفغانستان والبوسنة.

ومن عظيم حكمة الله سبحانه وتعالى ونعمته أن هذه النبرة غير المتزنة في الخطاب الفكري والسياسي وافقت حياة عدد من العلماء الذين لم يكن لأي فكر إسلامي قدرة على تجاوزهم إن أراد تزكية في نفوس الشعب والشباب ، لاسيما الشيخين ابن باز وابن عثيمين اللذين كان لهما الفضل الكبير في عدم تعدي أضرار هذا الخطاب ووقوفها عند حد معين .

عادت الراية بعد خفوت هذا الخطاب الحاد  إلى الأصل المتزن بقيادة هيئة كبار العلماء والعديد من العلماء والدعاة الذين لم تفرغ الساحة منهم ولله الحمد يوما من الأيام .

إلا أن التيار الليبرالي بدأ في الصعود مُستغِلاً أخطاء من اصْطَلَح على تسميتهم دعاة الصحوة ، ومستفيداً أيضاً من تجارب رموزه السابقين في طورهم القديم ، وبدأ في العمل لا على نقد الدولة ومؤسساتها كما كان سلفه التيار الماركسي والقومي ، بل على نقد الخطاب الديني حسب تعبيرهم ولكن بطريقة جديدة جداً تنطلق من إظهار احترام الدين نفسه وزعم الانطلاق منه والتشكيك في صحة الفتوى السائدة في كثير من القضايا التي يهتم بها التيار الليبرالي كالمرأة التي يبدو أن التركيز عليها ناتج من كون التغيير المجتمعي يرتكز على تغيير المرأة وما حول المرأة .

ومن داخل التوجه الديني ظهر فريق آخر نشأ كردة فعل للخطاب الدعوي الحاد الذي قدمنا الحديث عنه وقد جعل عنايته الغالبة منصبة على نقد توجهات الدعاة المتأثرين بالمنهج الإخواني ولم ينفك عنهم وظل حتى اليوم متشككا فيهم ويضع كثيراً من تصوراته للإصلاح مبنية على وجوب اجتثاثهم فكرياً.

هذا مرور سريع ، أو كما يقال:بانورامي على جذور الاصطفاف في بلادنا أزعم أن التعريف بها ونقدها بعدل قد يسهم في غلق ملف الاصطفافات التي هي دون شك مؤثر سلبي  إذا لم يتم تداركها وعلاجها بهدوء وحسم أيضا على المستقبل الفكري لأبنائنا ، وآمل أن أتمكن من إلحاقه بمقالات أخر تفصل كثيراً مما تم إجماله

د. محمد بن إبراهيم السعيدي   

التعليقات

7 ردود على “بذور الاصطفاف في بلادنا”

  1. تحليل عميق وربط متجانس
    شكر الله لك يا دكتور

  2. السلام عليكم
    جزاك الله خير
    وبالفعل …. كما اشرت في اخر المقال .. كان هذا مرور سريع…. هذا ملف حري بالكتابه عنه منكم بشكل اكثر. ..ننتظر ذلك منك بارك الله فيك

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بارك الله في علمك وعملك ومقالك هو افضل مقال قرأته في مجال تحليل اﻻفكار التي مرت على بلدنا
    وهو تحليل في رأيي منصف وغير متحيز لأي تيار وهذا الحياد نادرا ما نجده عند من يتصدى لتحليل الحالة الفكرية السعودية وهو ﻻشك توفيق من الله

    تحياتي لك يادكتور محمد

  4. مقال الشيخ محمد السعيدي، حفظه الله وبارك في علمه، توصيف دقيق للفترات السابقة والفترة الحالية وبادرة موفقه لجمع الكلمة وتوحيد الصف والإستعداد لمواجهة الأخطار المحدقة بدولتنا خاصة والعالم الإسلامي عامة.

  5. جزاك الله خير ، بإنتظار المقالات المفصلة

  6. وفقك الله شيخنا الكريم

  7. يقول الدعجاني:

    جزيت خير ا وبارك الله في علمك وعملك ومالك وأهلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.