من واقع الاصطفاف في بلادنا

تكبير الخط تصغير الخط

بِسْم الله الرحمن الرحيم
كتبت فيما مضى مقالاً بعنوان جذور الاصطفاف في بلادنا، وها أنا اليوم أُكمل تلك القصة التي بدأتها هناك باستعراضٍ سريع لحال جانب من هذا الاصطفاف اليوم وكيف تم تكوينه، وغاية ذلك: البحث عن طريق الخروج من هذا الاصطفاف الذي يُشَكِّل في نظري أزمة فكرية قد تنتقل إن لم يتم تداركها إلى الصعيد الاجتماعي أو السياسي .
فأبدأ بأن الله تعالىى شرَّف بلادنا الغالية بأن تكون مُنطلق رسالة الإسلام إلى العالم أجمع على يد نبي الهدى ﷺ ثم على يد حملة علمه ودعوته من بعده وهم صحابته الكرام ، ثم شَرَّفَها في مطلع العصر الحديث بأن انطلقت منها الدعوة إلى تجديد ما اندرس من معالم الرسالة المحمدية، والعودة بالدِّين إلى ما كان عليه في زمنها وزمن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، وقد نجحت الدعوة نجاحاً منقطع النظير فاق بمراحل كلَّ النجاحات التي حققتها الدعوات التجديدية في سائر القرون ما بعد الثلاثة ، حتى إن منهج السلف لاقى قبولاً وانتشاراً في كل بلاد الدنيا حيث يعيش المسلمون .
وظلَّت السعودية فيما يتعلق بالعمل الإسلامي بمعظم جوانبه تسير سيرة طيبة مثمرة متمثلة منهج السلف في التعليم والدعوة في الداخل والخارج والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة قضايا المسلمين، وأهم من ذلك كله في علاقة العلماء بالحكام ، حيث كانت للعلماء كلمتهم العليا عند الحكام حيث تُقَدَّرُ آراؤهم الخاصة وفتاواهم الشرعية ونصائحهم المتوالية وتتم المسارعة بتنفيذ أكثرها ، كما كان للحكام قدرهم عند أهل العلم ، إذ كانوا يرفعون من مقامهم عند الرعية ويحرصون على النأي بالناس عَمَّا يجلب المُشَاقَّة والفرقة في غير طاعة في معصية أو معاونة على مُنْكَر .
وعاشت البلاد ذلك الوقت عصراً مثالياً يندر وجوده، حيث يتعاون العلماء والحكام على المضي بالبلاد قُدُماً ،وتجاوزوا سوياً العديد من الأزمات إذ بتوفيق الله لهم جميعاً وتعاونهم معاً تمَّ الانتصار على المد الماركسي ثم من بعده المد البعثي والقومي والعلماني الذي كان هذا التيار مع وجوده ضعيف الأثر جداً، وكل ذلك لصالح التضامن الإسلامي والانتشار السلفي والوعي الديني .
إلا أن هذه الحقبة الجميلة والتي قد يصح التأريخ لنهايتها بأوائل هذا القرن الهجري ، شهدت بداية دق الأسافين في داخلها ، وهو ما ولَّد مؤخراً ما يُمْكِن تسميته بالتشظي السلفي الذي تشهده الساحة في بلادنا وتتأثر بها بقية البلدان التي شهدت انتشاراً سلفياً في ذلك العقد الزاهي من تاريخنا.
تلك الأسافين الخطيرة يُمكن حصرها في ثلاثة لكن من دقَّها لايمكن حصرهم ، كما لا يُمكن القول بسوء مقاصدهم ، لكن العمل السيئ يُحكَم عليه بكُنْهِهِ ونتيجته لا بنية من قام به .
ولعل من أكثرهم أثراً في ذلك الشيخ محمد سرور زين العابدين أحسن الله له الخاتمة .
فالإسفين الأول:كان بين العلماء والشباب ، حيث بدأت حملةُ وصف العلماء لدى الشباب بالجهل بالواقع وأنهم لا يعرفون سوى مسائل الفقه العتيقة ، أما الواقع الدولي السياسي والثقافي ومتطلبات العصر الحديث ، فهم بعيدون عن فهمه بل تصورِه ، لذلك لا يمكن قبول أحكامهم عليه ، هكذا وُصِف العلماء للشباب، ولم تكن تلك إِلَّا أُولَى الرسائل التي أدت إلى عزل الشباب عن العلماء وعدم ثقتهم بهم، وقد أدت هذه الرسالة إلى صرف وجهة الشباب في فهم الواقع وطريقة التعامل معه إلى الدُعاة الجُدد أصحاب الرؤية المُتَعَجِّلة الحالمة الثائرة ، وهذا ما حصل فعلاً ، بل فتحت هذه الرسالة الباب على مصراعيه لأن يُطلِق الشباب من تلقاء أنفسهم أحكاماً أكثر خطورة ، كاتهام العلماء بالمداهنة ووصفهم بوعاظ السلاطين ، ومن المفارقات أن هذا الوصف كان يُرَدده الماركسيون والقوميون والعلمانيون منذ أشَاعَه المفكر العراقي العلماني الشيعي علي الوردي عام ١٣٧٤في كتابه وعاظ السلاطين ، لكنه لم يكن يُشَكِّل خطورة على علاقة العلماء بالشباب ، حتى تسرب إلى المتدينين بعد كسر هيبة أهل العلم بوصمهم بالجهل بالواقع .
الإسفين الثاني : تم دقه بين الدولة والشباب، إذ نشط هذا التيار الذي قدَّمتُ أن أبرز من حرَّكه هو الشيخ سرور، في التشكيك في منجزات الدولة والتزهيد فيها ، ونِسبتها إلى العمالة للغرب وعدم القيام بحق الدين، الأمر الذي أوجد بيئة خصبة للغضب بين الشباب والنفرة من الثناء على منجزات الدولة أو الإقرار بما لها من حقوق في الأعناق .
الإسفين الثالث: تم دقه بين الشباب وبين كُتُب العقيدة القديمة حيث بدأ التزهيد فيها ووصفها بأنها تُعَالج مشكلات قديمة بأساليب تتناسب مع تلك العصور البعيدة عن عصرنا ، وقد صرح بذلك الشيخ سرور في كتابه منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ، وتم تناقل هذه النظرية وتطويرها على ألسنة بعض الدعاة المتأثرين به ، إذ كان يتم التوسل بهذه النظرية إلى اطِّراح أحاديث طاعة أولي الأمر أو تأويلها بما يُناسب العصر بزعمهم .
هذه الأسافين الثلاثة مجتمعة أدَّت إلى تورط عدد من الشباب المتأثرين بنتائجها بالانضمام إلى حركة جهيمان قبل أن تقضي هذه الحركة على نفسها باختيارها الحرم المكي مكاناً لانطلاق ثورتها.
لكن أثر هذه الأسافين بلغ أوجه في العشر الأولى من هذا القرن وأوائل العشر الثانية ، حيث ملآ الساحةَ بعض أعلام الدعاة المتأثرين بهذه الأسافين الثلاثة وكان لخطابهم الجماهيري والنقد السلبي الحاد أثرُه في جمع الأتباع والمحبين ، والحق أنهم لم يكونوا يمثلون أكثرية عددية لكن صورتهم التجمعية كانت تعطي انطباعات بأغلبيتهم ، وأصبحت مُعَانَدة الدولة واستهجان مواقف العلماء والاستخفاف بها سمةَ ظاهرة في أخلاقياتهم.
بل وصل الأمر لأن يكون ذكرُ أحاديثِ طاعةِ ولاة الأمر أو أقوال علماء الأمة الأوائل في حكم الطاعة مدعاة للسخرية ، حتى إن الاحتقان وصل إلى حد أننا لم نَعُد نسمع من يعلي صوته بذكر أحاديث الطاعة وأحكامها إلا من كبار العلماء وعلى رأسهم ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله والفوزان واللحيدان حفظهما الله ومن مشى على نهجهم .
هذا التطرّف في الموقف أنتج ظهور خطاب مُسَاوِي في القوة ومُعَاكس في الاتجاه ، على يد بعض أساتذةِ الجامعة الإسلامية والشيخ محمد أمان جامي رحمه الله والذي اشتهر هذا الخطاب باسمه ، وقد تم طرح أحاديث الطاعة وأحكامها بقوةٍ صاحَبَها شدةٌ في الأحكام على رواد التوجه السابق ، بعيدة جِداً عن فقه الاحتواء والتأليف الذي كان ينتهجه الشيخان:ابن باز وابن عثيمين ومِن خارج المملكة الشيخ ناصر الدين الألباني رحمهم الله، ومُغرِقة أيضا في موجة التبديع ونسبة كل المخالفين دون تفصيل إلى الابتداع والأخونة ،وحَمَلَ شيئاً من الجور في تأويل الأقوال وصرفها إلى ما يقدح في المخالفين مهما كانت درجة خلافهم.
ورغم ذلك فقد حصل من قوة هذا الطرح فائدة مهمة جداً وهي تقوية جانب العلماء وعودة التوجه السلفي الأصيل الذي يتقدمه الشيخان ابن باز وابن عثيمين إلى الواجهة والقيادة والتأثير ، والجُرْأة على الجهر بالرأي وتحمل سطوة الجماهير .
وقد تمت معالجة أزمة المتأثرين بالأسافين الثلاثة المتقدم تفصيلها أمنياً بعد أزمة الخليج ، لكنها لم تُعَالَج فكرياً أو إصلاحياً بالشكل الكافي للقضاء عليها كُلياً، ومما تسبب في تأخر علاجها استغلال بقايا الماركسيين والقوميين والعلمانيين ، الذين شكلوا جُزءً ممن أصبحوا يطلقون على أنفسهم وصف الليبراليين ، استغل هؤلاء هذا الظرف لتقديم أنفسهم كوطنيين وحملوا على كواهلهم عبء التشكيك في مجموع الأنشطة الدينية.
والحقيقة أن استماع الدولة لهم كان ضعيفاً جداً حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتم اتهام المؤسسات الدينية الخيرية والدعوية السعودية بها ، فكان للتيار الليبرالي السعودي ظهير من الضغط الخارجي استغله الليبراليون وساعدهم عدد من المتحولين من الصف الإسلامي المتشدد أو المتطرف إلى الصف الليبرالي ، في الضغط من الداخل للتقدم بالمشاريع المفضية للتغريب وعولمة المجتمع حيث علاقتهم الوطيدة بالإعلام المحلي أو المملوك لسعوديين وينطلق من الخارج.
من هُنَا جاءت الشحناء بين الدُعاة والليبراليين في كل المشاريع التي يُفَسِّرُها الدُّعاة تغريباً أو ذريعة للتغريب، ويُفسِّرهاالليبراليون تقدماً ومجاراة للواقع.
وظهر أن الغالب على هيئة كبار العلماء وقوفُها في الحكم على ذرائع التغريب موقفاً يدعم موقف الدعاة في التحرك ضدها ، فانسحبت محاولات الإسقاط التي تزعمها الليبراليون إلى عدد من أعضاء هيئة كبار العلماء أيضا ولم تقتصر على الدعاة ، لكن محاولات الإسقاط المجتمعي فشلت بالكلية بل أدت إلى نتائج عاكست ما كان يرومه التيار الليبرالي.
لذا بدأ الليبراليون في التوكؤ في مشروع إسقاط مناهضي عولمة المجتمع وتغريبه على فئتين جديدتين ظهرتا في المجتمع الثقافي السعودي نتيجة لأشياء كثيرة ليس هنا محل بيانها.
الفئة الأولى : من يُسَمَّون خطأ بالتنويريين أو الليبروإسلاميين ، والغالب عليهم أنهم إسلاميون سابقون وافقوا الليبراليين في حلولهم للمشكلات العقدية والأخلاقية والسياسية لكنهم بقوا يحملون الشعور والهم الإسلامي فقط ، وهذه الفئة استفاد منها الليبراليون في أسلمة التغريب ، أي ادِّعاء كون المشاريع التغريبيّة أو التي يتم التذرع بها للتغريب مشاريع إسلامية بل إنها هي التفسير الصحيح للإسلام .
الفئة الثانية : بعض المتأثرين بخطاب الشيخ محمد أمان الجامي أو تلاميذهم الذين ظلوا غارقين في فنجان الإخوان والسرورية ولم يعد لهم هم أو مشروع إلا تقسيم الناس إلى إخواني وسروري وهو من يخالفهم وإلى سلفي ويعنون به أنفسهم وحسب ، وهؤلاء اتكأ عليهم الليبراليون في مشروع إسقاط المناوئين للتغريب ، وذلك بتصويرهم إرهابيين وداعشيين وأعداء للدولة وأصحاب بدعة إلى غير ذلك ..
وربما استعانوا بماضي بعض هؤلاء الدعاة حيث كانوا واقعين يوما ما في ثقوب الأسافين الثلاثة التي تقدم بسطها ، وربما استعانوا بأخطاء لبعض الدعاة أو توجهات في تقييم بعض الأحزاب كحزب العدالة التركي أو الحرية والعدالة المصري ، المهم عندهم أن تكون هذه الأخطاء هي الحاكمة على الشخص ولا ينظرون إليها كأخطاء وحسب ، وربما انتحلوا لمن يخالفهم أخطاء يقتنونها من تأويل كلامه أو التشكيك في نيته.
انتهت هذه القراءة للاصطفاف في بلادنا بقدر ما يمكن من الإختصاروالذي أرجوه أن يكون فيها ما يفيد لإيجاد حلول لهذا الاصطفاف والعودة لنخبنا العلمية والفكرية إلى الوئام والسير في طريق واحد لنصرة الدين والوطن.
د محمد السعيدي

التعليقات

6 ردود على “من واقع الاصطفاف في بلادنا”

  1. بارك الله فيك ياشيخ وبعلمك لقد أجدت الوصف والتشخيص ولكن الأمور تحتاج لعلاج سريع جداً وجذري لان النتائج العكسية بدأنا نحصد ثمارها من التطرّف واستهداف أشخاص من أركان الدولة عن طريق اقرب الناس لهم والحوادث الدالة على ذلك كثير ، والله المستعان

  2. يقول Mohammad Fathi:

    بوركتم ونفع الله بكم.. و أطال عمركم في طاعته

  3. لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لاحياة لمن تنادي
    امرتهم أمري بمنعرج اللواء ولم يستبينوا الرشدإلا ضحى الغدي
    كلام جمعت فيه كل مايدور في أوساط عقلاء المجتمع اليوم خلاف بين نخب ينظر لها الناس ويستغربون هذا التطاحن المقيت بينهم أسأل الله العظيم أن يجزيك خير الجزاء على هذا الكلام العلمي الرصين

  4. يقول خالد الزهراني:

    قراءة عميقة متجردة لم تجانب الصواب في جميع ما اشتملت عليه من تشخيص لما عليه واقعنا المعاصر في بلادنا المباركة
    وليست هذه القراءة بغريبة على مثل هذه القامة المباركة التي عرفت بتمسكها بمنهج السلف الصالح والنصح لكل مسلم
    وفقك الله وبارك في جهودك وجعل هذا في ميزان حسناتك

  5. وفقك الله ياشيخنا كلامك صحيح ونعلم أن هناك تفاصيل اكتر اختصرتها وهذا زبدة المهم الآن في
    وقتنا الحالي ولكن ما الحل أما يجب عليهم أن يرجعوا إلى الله تعالى قبل ما تزداد الفتن و الشقاق في الأمة الإسلامية وعدم السعي إلى الحظوظ للنفس ونكون ممن فرطوا في أمن وأمان بلادهم بجهلهم ودمتم

  6. يقول غير معروف:

    جزاك الله خيراً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.