آخر الأخبار
توينبي وذوبان الأمم
آرنولد توينبي لا يعده الغرب والبريطانيون على الخصوص مؤرخاً وحسب بل يرونه مُنَظِّراً استراتيجياً وخبيراً يُعْتَمَدُ قوله في استشراف المستقبل وتُبْنَى على أفكاره السياسات المستقبلية لدول الغرب لاسيما في علاقاتهم مع الآخرين .
ويبدُو لي أن هذا الرجل مع أنه تُوُفِّي عام ١٩٧٥ هو مؤسس فكرة العولمة التي ظهرت في السياسة الأمريكية بعد عام ١٩٨٠ وذلك أن نظريته المعروفة بالتحدي والاستجابة كان لها أهمية كبرى في تغيير المنهج الثقافي للدولة المُستعمِرة بريطانيا مع شعوب البلاد التي تقع تحت سيطرتها ، وقد ورثت الولايات المتحدة هذا المنهج إثرَ حلولها محل سائر الدول المُسْتَعْمِرَة بعد إنقاذها لهن في الحربين العالميتين وفرضها عليهن عبر الأمم المتحدة الانسحاب التدريجي من جميع البلاد المُسْتَعْمَرة .
تتلخص هذه النظرية في أن الشعوب التي تتعرض لتحدٍ من حضارات مُغَايرة : إما أن ترجِع إلى ماضيها لتستقوي به وتحاول العودة إليه من جديد ، وإما أن تتصالح مع واقع الهزيمة الحضارية ، وهذه الحالة هي المناسبة للأمم الغالبة لكن لا يمكن الاستفادة منها مالم تنجح هذه الأمم في عزل الشعوب المغلوبة عن ماضيها وإذابتها في الحضارة الغالبة ، كما يرى أن الحضارات لا تعود لديها القدرة على القيام والنهوض حينما تفقد قِيَمَهَا الخاصة بها وقُوَتَها الأخلاقية والروحية .
وقد كانت بريطانيا غير ميالة إلى إذابة الشعوب المستعمرَة في ثقافتها بادئ عصورها الاستعمارية وكانت شديدة الولع بقمع الشعوب كما فعلت في الهند والهند الصينية ، لكنها مؤخراً بدأت تعمل على جذب الشعوب المستعمَرة للتبعية الأخلاقية والقِيَمِية للغرب ، بل حاولت تأصيل هذا الاستغراب دينياً ، بمعنى محاولة جعل التوافق مع القِيَم الغربية مسألة دينية أي ينادي بها الدين الإسلامي وليست مجرد إعجاب بالغرب يقوده مفكرون مستغربون ، واشتغل البريطانيون من أجل ذلك على محاولة التأثير على الفتوى الدينية بحيث لا تكون عائقاً دون إعجاب المجتمعات المسلمة بحضارة الغرب .
ولهذا يُصَرِّح مستشار وزير المستعمرات البريطانية هملتون جب في كتابة إلى أين يتجه الإسلام بأنهم -أي البريطانيين- يعملون على إيجاد نوعية من العلماء قادرين على إصدار فتاوى تتوافق مع القِيَم الغربية ، وأنهم نجحوا في ذلك في أكثر البلاد الإسلامية ، وأنهم حتى الآن ، أي عام ١٩٣٠ لم يستطيعوا إيجاد هذا النوع من العلماء في جزيرة العرب ، أي المملكة العربية السعودية .
وأعتقد أن محمد أسد ، الفيلسوف النمساوي المسلم من عائلة يهودية ، أعتقد أنه كان مُدركاً بشكل جيد لأبعاد نظرية توينبي وربما قبل أن يكتبها توينبي نفسه ، وذلك حينما أصر على أهمية محافظة المسلمين على أخلاقهم وعاداتهم الإسلامية لاستبقاء أو استعادة حضارتهم ، والعجيب أن محمد أسد حق على المحافظة حتى على الأمور التي قد نعتبرها سهلة جداً وغير مؤثرة كالملابس ، بل كالأول بالأيدي وعدم الأكل بالملعقة .
إن محمد أسد كان حريصاً جداً على أن يضع المسلمون من عاداتهم وتقاليدهم حاجزاً ضخماً أمام التأثر بالحضارة الغربية لأنه يرى أن هذه الأمور التي قد نتساهل فيها ستحول دون ذوبان الأمة المسلمة في الحضارة الغربية الغالبة ، ويرى محمد أسد أن ابتعاد المسلمين عن الهيئات المشتركة فيما بينهم من أندونيسيا حتى المحيط الأطلسي من اللباس والأكل والشرب وعادات الكلام يُبعِدُهُم عن تَمَثُل الشخصية القدوة لهم وهي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر الذي سيؤثر حتماً على شعورهم بالوحدة والتآلف والتراحم والتحاب .
وحينما تولت الولايات المتحدة بعد الحربين العالميتين زمام الأمور استمرت على تشجيع سياسة التغيير الثقافي ليس للمسلمين وحدهم ، بل للأوربيين أيضا ، فبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة أصبح تقليد الأوربيين للأمريكيين في كل شئ هو موضة أوربا بأسرها.
ونحن وإن كنّا نشعر اليوم بأن الفروق القِيَمِيَة ضيئلة جداً أو مُنْعدمة بين الأوربيين والأمريكان ، فإن الأوربيين كانوا يشعرون بأن الفارق كبير بينهم وبين الأمريكيين وكانوا يأسفون جداً لتعلق أبناء دولهم بالقيم الأمريكية .
وجرياً على ما ذكره آرنولد توينبي في موسوعته دراسة للتاريخ من أن الانهيار القِيمي والاخلاقي والديني يقود الى الجمود، والى العجز عن الابتكار والتجديد والابداع، والعجز عن مواجهة التحديات ، وأن هذا العجز حين يحدث تشهد الامة او الحضارة شرخاً في الروح يقود الى موت القدرة الروحية والاخلاقية على الابداع والتجديد ومجابهة التحديات.
جرياً على هذه النظرية حرصت الولايات المتحدة ، أو لِنَقُل من وراء الولايات المتحدة من المؤسسات الماسونية التي يهمها هزيمة العالم بأسره ومعه أمريكا ، أقول : حرصت على إحداث هذا الانهيار القِيَمي والأخلاقي الذي تكلم عنه توينبي لتحول بين الامم التي تمتلك في ثقافتها وتُرَاثها قِيَمَاً وأخلاقاً غير متناسبة مع الغرب وبين أن تُعاوِد محاولة النهضة من جديد.
وقد تم استخدام الأمم المتحدة من البداية لتحقيق هذا المشروع العالمي لإسقاط القيم المحلية في كل بلاد الدنيا ، بل استُخدِم في ذلك كثير من الطاقات الإعلامية والسياسية والاجتماعية والتي حققت نتائج باهرة في العالم الإسلامي الذي لم يأتِ عليه عام ١٩٧٥ إلا وهو متغير بشكل كبير واخترقت العادات الأوربية جميع أروقته ابتداء من اللباس حتى صورة المجتمع الإسلامي العامة وعلاقاته الأسرية ، حتى إنه يُمكننا أن نقول إن المجتمعات الإسلامية قد طمر عليها مياه البحر المتوسط ولم ينج منها إلا دول قليلة لعل من أبرزها ، بل أقول جازما إنها من أبرزها : المملكة العربية السعودية ، والعجيب أن صعوبة اعتناق أهل الجزيرة لهذه القيم الدخيلة الغربية كان أمراً متوقعا عند منظري الغرب ، ومن ضمنهم فيلسوف إشاعة العولمة وهو فرانسيس فوكوياما.
والأعجب من ذلك أن العالَم الإسلامي الذي يُغْزى في قِيَمِه وأخلاقه لم يشعر حتى اليوم أن ما يجري من تحركات سياسية وأممية مؤسسية باتجاه التغيير الاخلاقي إنما هو من أجل قتله عبر قتل قِيَمِه ، وأن عليه الآن واجباً وضع خطة للمدافعة المجتمعية التي تحول بينه وبين الانسلاخ من هويته .
محمد بن إبراهيم السعيدي
اشكرك جزيل الشكر على هذا المقال فالعربي يفتقدهويته المسلمة والعربية إلا من رحم الله فأصبح من واقعنا التشبه بالغرب سواء قصدنا ذلك باعتماد لبإسنا أولم نقصد في تصديرهم لنا للموضآت الشبابية والنسائية …….وكان لزاما علينا أن نرى استشراف قائد هذه الامه الملك سلمان منذ أن كان أميرا للرياض بأن يمنع اي مواطن غير ملتزم بالحبس السعودي من الدخول للدوائر الحكومية إلى أن صدر هذا القرار للدبلوماسين السعوديين بأن يكون الزي السعودي رسميا بالمناسبات الرسمية وليس كسائر جميع الدول التى تخلت عن جميع عاداتهم وثقافتهم أمام دول الاستخراب العالمية
جزاكم الله خيراً . رائع جدا