نحن وترمب وتلك السنن

تكبير الخط تصغير الخط

معلوم جيداً أن كل دولة عريقة في العمل السياسي لها رؤى آفاقية (استراتيجية) من النادر تغييرُها، وغالباً ما تنتج هذه الرؤى عن ظروف النشآة، والتي تتمثل في منطلقات قادة التأسيس، وطبيعة المجتمع الذي عاصر قيام الدولة، والواقع العالمي الذي أظل عصر النشآة، وما يصاحب ذلك كله من أفكار وأعراف وأديان، ولهذا نجد باستقراءِ تواريخ كثير من الدول الكبار: أن التَّغَيُّر في شيءٍ من هذه الرؤى الآفاقية لدى دولة ما، تصاحبه بداية لحالة الانحدار في طريق الاضمحلال.

فالدولة المروانية مثلا نشأت على عصبية نزارية واعتقاد سُنِّي وفكر جهادي طامح إلى توسيع الرقعة الإسلامية والبسط السياسي في العالم القديم كله، وتكونت للدولة رؤيَتُها المستقبلية من اجتماع عناصر كهذه؛ وفي عهد هشام بن عبدالملك (105ـ 125) بدأ تراجع الدولة عن المشروع الجهادي، وفي عهد يزيد بن الوليد (126) مالت الدولة عن العصبية النزارية، لدعم التوجه الانقلابي الغريب على بِنيَة الدولة؛ وفي عهد مروان بن محمد انتقلت الدولة إلى العقيدة الجهمية وبذلك فقدت أهم العناصر المكونة لرؤيتها الآفاقية مما جعل سقوطها أيسر جداً مما كان يتوقع مناوئوها.
والدولة العباسية نشأت على عصبية فارسية ودعوة شيعية (بالمعنى التاريخي للتشيع) وعقيدة سُنية؛ وهي القاسم المشترك بينها وبين الدولة الأموية؛ لكنها تخلت في عهد المأمون (198ـ 218) عن العقيدة السنية، وتخلت في عهد المعتصم (218ـ227)عن العصبية الفارسية؛ وفي عهد المتوكل (232ـ247) ومنْ بَعده خفَّ وهج الدعوة الشيعية في خطاب الدولة السياسي نتيجة لانصراف معنى التشيع إلى مدلول يتناقض والرؤية السنية التي حاول المتوكل العودة إليها؛ ولذلك يُعَد ما بعد عهده النهاية الحقيقية لدولة بني العباس؛ أما القرون التي تلت هذه الحقبة فكانت دولتهم فيها أقرب ما تكون إلى اسم دون مسمى.
وقامت الدولة العثمانية على مشروع جهادي ونظام شرعي، ورابطة دينية؛ لكن مشروعها الجهادي بدأ في التقلص في عهد السلطان سليم الثاني (974 – 982) ثم بدأ نظامها الشرعي في التقلص في عهد السلطان عبدالمجيد (1255ـ 1277) الذي رضخت فيه الدولة العثمانية للضغوط الأوروبية في اقتباس الدساتير الأوروبية في صناعة دستور للدولة تحت مسمى الإصلاحات فكان عهده هو النهاية الحقيقية لسلطنة آل عثمان؛ وقد أدرك السلطان عبدالحميد الثاني (1293ـ 1327) هذه الحقيقة فقام في بداية عهده بإلغاء الدستور ونادى بالجامعة الإسلامية، إلا أن هذه اليقظة جاءت متأخرة جداً فآُجْبِر السلطان على إعادة الدستور عام 1326 ثم خُلِع بعدها بعام وسقطت الدولة نهائياً بعد هذا التاريخ بأقل من خمسة عشر عاماً.
وضرب المثل بالدول الإسلامية الثلاث، لأنها أقرب إلى ذهن القارئ العربي، وإلا فالأمر سُنَّة كونية وطبيعة من طبائع الدول والأمم، لا تختلف باختلاف دين الدولة أو جنسها أو نظامها؛ ولذلك نستطيع بكل هدوء أن نناقش ما يحدث اليوم من تغيرات في الولايات المتحدة، وكذا الطرح الترمبي من خلال هذه السُنة أيضاً.
فالدولة الأميركية قامت في عهد الآباء المؤسسين على فكرة وطنية علمانية وفلسفة نفعية (براغماتية) وروح مسيحية؛ لذلك فهي لا تهتم بقومية الساكنين أو لغاتهم أو أديانهم وتتبنى الحرية كإله وليس كفكرة أو فلسفة قابلة للنقاش؛ وتقيس الأخلاق والقِيَم والمبادئ بمقياس المصلحة في مشروعها الاقتصادي والسياسي والعسكري؛ مع محاولة لاستبقاء الروح المسيحية في مزاحمة كل هذه العناصر التي تناقضها.
فالرؤساء الأميركيون الأربعة والأربعون الذين تولوا إدارة الدولة منذ نشأتها حتى تولي الرئيس دونالد ترمب لا يخرجون أبداً عن هذه الرؤية الآفاقية التي كونتها ظروف النشأة؛ وكل تَغَيُّر في السياسات الأميركية لم يخرج يوما عن هذه الحدود طيلة تاريخ الولايات المتحده؛ حتى انتقال أميركا من سياسة المحلية الخالصة إلى العناية بالعالم الخارجي بعد الحربين الكونيتين؛ وكانت انتقالة قوية في السياسة الأميركية؛ إلا أنها عند التأمل لم تخرج بها عن رؤيتها الآفاقية؛ بل دعمتها بشكل منقطع النظير حتى وكأن الحرب العالمية الثانية قد صُنِعَت خصيصاً لتقود أميركا العالم.
وقس على ذلك غالب ما يُتَصوَّر أنها تحولات في السياسات الأميركية تجد: إما أنها تعمل لخدمة تلك الرؤية ولا تخرج عنها، أو أنه يتم تسويقها للرأي العام الأميركي على أنها كذلك؛ كتدخل أميركا المباشر في فيتنام (انتهى بخسارتها الكبيرة عام 1393)، وكذا تدخلها المباشر في حرب تحرير الكويت؛ ومشروع إعادة تقسيم الشرق الأوسط، والذي تأجل أكثر من مرة، ويبدو بحول الله أنه سيتأجل أكثر بسبب قوله تعالى ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾ (البقرة:251)، ومشروع الانتقال من الهيمنة على الحكومات إلى الهيمنة على العقول والأفكار (مشروع العولمة).
هناك قضية واحدة تتبناها الولايات المتحدة بقوة، ويمكن القول إنها وكُلُّ ما ينبني عليها من سياسات لا يخدم الرؤية الأميركية؛ وأعني بها دعم الكيان الصهيوني، الذي في تقديري كان المحرك الرئيس للأخطاء التي ارتكبتها أميركا في منطقتنا العربية وخصوصا المحاذية أو القريبة من فلسطين، كحصار العراق بعد الانتهاء من تحرير الكويت، ومِن ثَمَّ احتلال العراق وتسليمه لإيران؛ وكذا دعم ما تم ترويجه باسم الربيع العربي كجزء من مشروع الفوضى الخلاقة؛ والتغيير المفاجئ للعلاقات المبنية على المصالح المتبادلة مع السعودية واستبدالها بعلاقات مع إيران تتوجه مصالحها فقط للكيان الصهيوني.
هذا التضخم في السياسات الخاطئة والذي ابتدأ منذ عهد الرئيس بوش الابن كان مقبولاً جداً لدى الإعلام الأميركي الذي يسيطر عليه رأس المال اليهودي والفكر الصهيوني؛ وكان استمرارها وتناميها سيؤدي في مآلاته إلى الانحراف التدريجي عن الرؤية الأميركية الآفاقية؛ ولن تكون خاتمته في النهاية لصالح بقاء الولايات المتحدة دولة متحدة ولا دولة أولى في العالم.
ولذلك أَعتَقِد أن عصر ترمب ربما يكون عصر تصحيح بعض أخطاء مَن قَبْله فيما يتعلق بقضايانا؛ وعصر إجراءات متهورة فيما يتعلق بعلاقاتهم مع أوروبا والصين؛ ولذلك نجد أن الجهات المتضررة من هذا، تصحيحاته أو تهوراته، حاربت ترمب قبل أن يصل إلى السلطة وبعد أن وصل؛ وستستمر في محاربته حتى يركع لها أو تركع له.
فهذه الهَبَّة من الإعلام والجمعيات والكنائس داخل أميركا وخارجها في الدفاع عن المسلمين يجب أن تكون مستغربة مِنْ قِبَلِنا، وأن لا ننخدع بها أو ننساق لها؛ فلو كانت هيلاري كلينتون هي الفائزة وصَدَرَت عنها القرارات والتصريحات التي صدرت عن ترمب لم نجد هذا الحس المرهف تجاه المسلمين لدى الإعلام والمنظمات والقضاة الأميركان.
لذلك أتصور أن من الخطأ أن تزج المنظمات والجمعيات والإعلام الإسلامي بنفسها في حرب إعلامية أهلية أميركية أميركية تُستخدم فيها مظلومية المسلمين كسلاح إعلامي لأحد الطرفين.
ترمب كما يظهر هو الأنسب إلى حد جيد لمصالحنا في الخليج وفي الأقطار العربية المجاورة؛ ولا يعني هذا أنه محب لنا وكاره لإيران والكيان الصهيوني؛ بل ربما كان العكس في ميزان العواطف المجردة؛ لكنه كما يبدو من أقواله وأقوال مساعديه رجل أعمال قبل أن يكون سياسياً، لذلك كانت حساباته أكثر استقلالاً من غيره ومعيارها “قدِّم أكثر تنل أكثر” لذلك تجلت له أخطاء من سبقه باعتبارها تعطي أكثر لمن لا يستطيع تقديم شيء يذكر.
نعم قد يقول ترمب ما لا يفعل كما قال بوش وأوباما في بداية عهديهما ما ناقضته أفعالهما؛ وكما شتم ريجان إيران على المنصة ودعمها تحت الطاولة؛ وهذا يعني أن علينا ألا نغازل ترمب كما غازلنا أوباما؛ وألا نقف مع الإعلام الأميركي ضده في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، بل هي حرب خصمه فيها هو خصمنا التقليدي أي الإعلام الأميركي؛ الذي نُخطئ كثيراً حينما نتصور أنه متألم لحال عالقين في المطارات الأميركية، وهو لم يتألم قط لحال قتلى الطائرات الأميركية؛ أو حال سجناء دون محاكمة في جوانتانامو منذ عشرين عاماً.
وفي النهاية أُذَكِّر بقوله تعالى ﴿الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ (الحج:40 ـ 42)

د محمد السعيدي

التعليقات

رد واحد على “نحن وترمب وتلك السنن”

  1. مقال رائع يا دكتور ؛ فالتحليل عميق ومنطقي ، والإشارة إلى عدم الانخداع بالهبة الإعلامية المدافعة عن حقوق المسلمين لفتة ذكية!
    لكن ألا تخشى يا دكتور أن يكون هذا التحول في السياسة الأمريكية والعودة إلى علاقة جيدة مع السنة (السعودية والخليج) -جزء من مؤامرة دبرت بليل للقضاء على ما استعصى القضاء عليه في الفترة السابقة ولكن بأدوات جديدة وخطاب جديد ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.