عن التطبيع أتحدث

تكبير الخط تصغير الخط

عن التطبيع أتحدث
التطبيع الذي نتحدث عنه في هذا المقال: هو إنشاء دولة من الدول الإسلامية علاقاتٍ كاملةً أو جزئية مع الكيان الصهيوني، مبنيةً على الاعتراف الكامل بأحقية هذا الكيان بالوجود على هيئة دولة ذات حقوق تاريخية ودينية صحيحة في أي جزء من أرض فلسطين أو ما جاورها.
فأي علاقة رسمية كَبُرت أم صغرت مع هذا الكيان، فهي ما يُصطلَح عليه بـ: الـتطبيع، وهو المرفوض شعبيًّا في عالمنا العربي ومرفوض شعبيًّا وسياسيًّا في بلادنا المملكة العربية السعودية.
وكان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر وهو يقنع الرئيس أنور السادات بتوقيع معاهدة كامب ديفد تعهد له بأن تعمل إدارته على إقناع عددٍ من الدول العربية المهمة في المنطقة، ومنها السعودية كي تحذو حذو مصر.
وفعلًا بدا أن هناك ضغوطًا أمريكية على السعودية قطعها الملك فهد في عام ١٤٠١هـ بإعلان المبادرة السعودية للسلام والتي تتضمن ثمانية مبادئ ليس من بينها الاعتراف بإسرائيل؛ لذلك أعلن مناحيم بيجن رئيس الكيان الغاصب آنذاك أن المبادرة السعودية إنما هي إعلان لتدمير إسرائيل على مراحل؛ ولم تمض بضعة أشهر حتى أعلنت السعودية إلغاء المبادرة وظهر جليًّا أنها كانت تكتيكًا لإحراج الخارجية الصهيونية والأمريكية أمام الرأي العام العالمي.
وفي عام ١٤٢١هـ أعلن الملك عبدالله رحمه الله مبادرته للسلام والتي تم تبنيها عربيًّا في مؤتمر بيروت عام ١٤٢٢هـ، ولا يتضمن نصها عبارة الاعتراف بإسرائيل؛ بل كانت العبارة كالتالي: “وذلك مقابل قيام الدول العربية بإنشاء علاقات طبيعية في إطار سلام شامل مع إسرائيل”.
وقد تضمنت هذه المبادرة شروطًا كان من المستبعد جدًّا أن يقبل بها الصهاينة كاعتبار القدس الشرقية عاصمة لفلسطين وحق اللاجئين في العودة؛ لذلك رفضها رئيس الكيان آنذاك بنيامين نتنياهو بشدة؛ واتضح جليًّا أنها كانت مناورة دبلماسية ترتب عليها إحراج الصهاينة عالميًّا، بل كان لانتشار المبادرة وتسويق الإعلام العربي والدبلماسيين العرب لها في أوربا خاصة، وتلبيتها لما كان الصهاينة يُرَوِّجون أنها مطالبهم، كل ذلك كان له أثر كبير في تردي سمعة الصهاينة في أوربا حيث ظهر جليًّا أنهم يرفضون ما كانوا يزعمون أنها هي فقط مطالبهم.
لذلك قال إيهود باراك وهو وزير دفاع الصهاينة: إن السعودية هزمت إسرائيل دبلماسيًّا، واضطر الصهاينة للخروج من هذا المأزق إلى الوعد بأنهم سوف يقدمون مبادرة من جانبهم مقابل المبادرة العربية وهو مالم يفعلوه حتى الآن.
وبالرغم من أن المبادرة العربية كانت قرارًا جماعيًّا من المفترض على جميع الدول العربية التي لم تُطَبِّع رسميًّا الوقوف عنده وعدم الانفراد عنه، إلا أن عددًا من الدول العربية والخليجية؛ كمريتانيا وقطر تورطت في علاقات ثنائية مع الصهاينة وصلت إلى مستوى التبادل التجاري، وفيما يخص قطرًا كانت الزيارات على أعلى المستويات من الطرفين سريةً حتى قام الإعلام الصهيوني بفضحها، وانكشف مستوى العمل المسرحي الذي يُظْهر العداوة بين الطرفين بشكل يُخَيِّل للمتابع أن قطرًا حاملة لواء الصمود في القضية والمزعج الأكبر للصهاينة، وهي الطريقة نفسها التي لازالت تصبغ علاقات الصهاينة وإيران والصهاينة والأسد.
ومع وضوح موقف السعودية إلا أن اختلاق أخبار عن مفاوضات سرية بينها وبين الصهاينة ظل يتكرر بشكل مثير من قِبَلِ وسائل إعلام عربية وأجنبية، ونفته السعودية عدة مرات، ولم تستطع أي وسيلة إعلامية إثبات هذه المزاعم بصور أو وثائق مسربة تمثل أشخاصًا في موقع المسؤولية؛ وبالرغم من نشر ويكيلكس بعض مراسلات الخارجية السعودية أثناء الخلل في برنامج الحماية الإلكترونية للخارجية السعودية قبل ثلاثة أعوام، إلا أن ما تم تسريبه ليس فيه أي شيء تخجل السعودية من نشره.
والحقيقة: أن الحديث الكبير عن علاقات سعودية صهيونية يراد منه تطبيع هذا الخبر ولو لم يكن صحيحًا في الواقع، وذلك للإساءة لسمعة المملكة التي ترعى الحرمين الشريفين، وهو ضمن حزمة كبيرة من التشويهات الضخمة التي تستهدف المملكة بغرض إسقاط مكانتها المعنوية في نفوس المسلمين، وأيضًا: بغرض تقوية مزاعم التنظيمات المتطرفة دينيًّا لإيقاد النار داخل البلاد.
وغاية ثالثة لمثل هذه الإشاعات: إيجاد تبريرات للدول الساعية إلى التطبيع؛ كحكومة قطر أمام شعبها وجماهيرها المنخدعين بها، هذا بالإضافة إلى أنهم يظنون أن ترويج هذا الخبر يساهم في كسر الحواجز المعنوية بين السعودية وبين القيام به فعليًّا.
وبملاحظة التعريف السابق للتطبيع يتبين: أنه لا يدخل فيه ما يكون عند الاضطرار وغلبة المصلحة من وجود هدنة أو موادعة أو صلح لا يتضمن اعترافًا بشرعية هذا الكيان ومزاعمه من الحقوق التاريخية والدينية، وهذا ما أفتى به الشيخ عبدالعزيز بن باز، وفعله صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله تعالى – أكثر من مرة مع الصليبيين وهم يحتلون فلسطين، ومات رحمه الله وهو في هدنة معهم تشمل البيع والشراء بينهم وبين المسلمين كما ذكر تفاصيله القاضي ابن شداد في كتابه “النوادر السلطانية”، لكن ذلك كما قدمت لا بد أن يكون لضرورة ماسة؛ كدفع ضرر محقق عن المسلمين، وهذه الضرورة كما يبدو لنا ليست موجودة اليوم لدى الدول المُطَبِّعة فعلًا أو التي تسارع نحو التطبيع؛ فالواقع المُعَاش وإن لم يكن سلامًا مكتوبًا على الأوراق فإن الصهاينة يعيشونه حقيقةً بما لا تتمتع به أكثر دول الطوق؛ وأعني: لبنان وسوريا ومصر، حيث تعيش سيناء المجاورة لفلسطين المحتلة حالة من التوتر بسبب جماعات العنف المسلح، والذين مما لا يستبعد أن يكون الإمداد بالسلاح يأتيهم عن طريق الشريط الحدودي الطويل بين سيناء وصحراء النقب التي يسيطر عليها الصهاينة، مع أن مصر هي أول دولة طبعت معهم تطبيعًا كاملًا.
الشاهد من ذلك: أن الصهاينة – حاليًّا – غير محتاجين لأي معاهدة بحكم ظروف الواقع.
أما الدول العربية فإنها تعيش في ظل ركام كبير من المشكلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية تحول بينها وبين التفكير في الدخول في حروب مع دولة العدو، بل إن أي حرب في الظرف الراهن مع الكيان الصهيوني سوف تشكل من المنظور المادي – وليس الغيبي – عبئًا ليس في مقدور هذه الدول في حالتها الراهنة تحمله.
إذًا، فحتى عقد صلح بالمفهوم الشرعي وإن كان أصله الجواز فإن الظرف الملائم له بالنسبة للسعودية غير موجود حاليًّا.
ومن رؤية خاصة: أتصور أن كثيراً من الصهاينة لاسيما المحنكين منهم سوف يكونون أول الرافضين لأي معاهدة سلام مع السعودية، والسبب في ذلك: أن الدعاية الصهيونية لا يمكنها الاستمرار في النجاح لو أصبحت صديقة لكل جيرانها العرب؛ إذ إن دعاية الصهاينة قائمة على ادِّعاء المظلومية والخوف، فهم كما يصورون أنفسهم يعيشون في وسط حاقد عليهم يتحين الفرصة لقتلهم فهم لذلك المعنى الإنساني –بزعمهم- يريدون تعاطف شعوب العالم والدعم الدولي، ويَستَجْدون اليهود في كل مكان كي يهاجروا إليهم.
فإذا أصبحت جميع الدول مسالمة فسوف يؤدِي ذلك إلى القضاء التام على فكرة مظلومية اليهود التي يعيش بها الفكر الصهيوني.
لذلك؛ فإن مسرحيات العداء التي يمثلها الصهاينة مع دولة؛ كطهران، أو ميليشيا؛ كحزب الشيطان، أو المقاومة الضعيفة والمتقطعة التي تقوم بها بعض الفصائل الفلسطينية؛ وكذلك التصريحات النارية الكاذبة التي يدلي بها أدعياء الجهاد من داعش والقاعدة، كلها تستثمرها الصهيونية في دعايتها، مع أنها لا أثر لها على الأرض.
أنتهي من ذلك إلى أن التطبيع الكامل والدائم ليس مطلبًا للصهاينة كما يظن البعض بقدر ما هو مطلب لبعض الدول العاجزة؛ لتتخذ من علاقاتها بالكيان الصهيوني بطاقة عبور تستغني بها عن محيطها لتحظى بحماية الأقوياء. زعموا!!

محمد السعيدي

التعليقات

4 ردود على “عن التطبيع أتحدث”

  1. يقول ابراهيم عبدالرؤف امجدبن حسين:

    المرحلة الاولى تم الغاء المقاطعة العربية والاسلامية للشركات ..
    المرحلة الثانية وهي قادمة ( التطبيع مع اسرائيل )
    رئيس السلطة الفلسطينية يقول في لقاء مسرب اسرائيل وجدت لتبقى .. !!

  2. يقول د احمد محمد بناني:

    مقالة قوية وموثقة ونظرة ثاقبة اثابكم الله عليها ونفع بكم الاسلام والمسلمين

  3. يقول محمد الشهري:

    اتمنى أن يكون هناك نفي رسمي لهذه الافتراءات حتى تنتهي هذه المهزله

  4. يقول مصطفى عبدالعزيز:

    جزاك الله خيرا .. يادكتور على هذه الايضاحاتأن..
    “ان التطبيع الكامل والدائم ليس مطلبًا للصهاينة كما يظن البعض بقدر ما هو مطلب لبعض الدول العاجزة؛ لتتخذ من علاقاتها بالكيان الصهيوني بطاقة عبور تستغني بها عن محيطها لتحظى بحماية الأقوياء. زعموا!!”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.