الخميس - 19 جمادى الأول 1446 هـ , 21 نوفمبر 2024 م
آخر الأخبار
وعاظ السلاطين والحضارة الإسلامية
تكبير الخط تصغير الخط
أحياناً يستطيع المبطلون تشويه المصطلحات الجميلة عمداً أو جهلاً لتُتَّخذ من بعدهم سلاحاً تُشَوَّه به كثير من المبادئ أوالحضارات أوالأشخاص ، كما هو الحال مع مصطلح”وعاظ السلاطين” فالمدلول اللغوي لهذا التركيب يقع على فئة من الناس بلغوا من العلم والخير والشجاعة والحكمة أن يأخذوا على عاتقهم مسؤولية تذكير الحكام بما عليهم تجاه ربهم وتجاه ما ولاهم الله عليه ومن ولاهم الله عليهم عبر أسلوب الموعظة الحسنة التي تلتزم عدم المجاهرة المفضية إلى التحريض ، وهي إحدى مهام الأنبياء والصالحين كما ورد ذلك في كتاب الله تعالى﴿أُولئِكَ الَّذينَ يَعلَمُ اللَّهُ ما في قُلوبِهِم فَأَعرِض عَنهُم وَعِظهُم وَقُل لَهُم في أَنفُسِهِم قَولًا بَليغًا﴾ [النساء: ٦٣]وقال سبحانه﴿ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ﴾ [النحل: ١٢٥].
فالوعظ درجة رفيعة في مراتب الدعوة لا يتمكن منها إلا من بلغ شأواً عظيماً من الصدق والإخلاص والعلم والتمكن في أساليب اللغة وطُرُق الوصول إلى القلوب ، وتكون مكانة صاحبها أرفع حينما يستطيع توجيه همته وتأثيره إلى من يغلب على قلوبهم الانشغال وضعف الرضوخ للمؤثرات الوجدانية ،كالحكام الذين تبتعد بهم السلطة ومقتضياتها من قوة الشكيمة ووعورة الأكناف وشِدَّةِ الجانب عن رحابة الصدر بالناصحين والمذكرين ؛ لكن وعاظ السلاطين يبلغون من الهمة والمهارة ما يصلون به إلى أكناف هؤلاء ويصلحون منهم ما تفسده مقتضيات القيادة ومراسيمها.
وجاء الكاتب العراقي علي الوردي ليضع هذا المصطلح اسماً لكتاب جال فيه في التاريخ الإسلامي جولة مأزومة منهزمة تنتهي بالقارئ إلى أن مأساة التاريخ الإسلامي وسر تخلفه هم أولئك الوعاظ الذين دأبوا على القول بأن الإصلاح يبدأ من القاعدة الشعبية عبر نبذ الفساد الإخلاقي والضعف الإيماني للأفراد والمجتمعات ليصلوا إلى إراحة الطغاة من أي مسؤولية عمَّا يحدث للأمة من ظلم ونهب للثروات وتخلف في جميع جوانب الحياة ، بل يعمد هؤلاء العلماء -حسب الوردي-إلى إقامة علاقة ودية بينهم وبين الحكام يعيشون على موائدهم ويلتمسون لهم الأعذار في انحرافاتهم بينما يصبون جام غضبهم على الضعفاء والمساكين؛ واستخدم المؤلف للبرهنة على نظرياته المبعثرة هذه حكايات لا يثبت أكثرها بل هي من أحاديث القُصَّاص التي لا تجوز روايتها فضلاً عن أن يُبنى على أساسها حكمٌ علميٌ ونظرية اجتماعية.
النتيجة من هذا الكتاب رواج هذا المصطلح كنبز للعلماء السائرين على المنهج الصحيح للإصلاح ، حتى بين المثقفين والدعاة من أهل السنة الذين كان علي الوردي يتنقص في كتابه رموزهم من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أهل العلم والصلاح والإصلاح.
ومن ثَمَّ إبقاء الفراغ في سبيل الإصلاح واسعاً لا يسده عملياً إلا نظرية المعتزلة في وجوب الخروج بالسيف على الحكام.
وحين نراجع التاريخ مراجعةً صحيحة مستندين إلى معلومات موثوقة ليست كحال أحاديث القصاص التي استخدمها الوردي ، حين نفعل ذلك نجد أن العلماء الثائرين في التاريخ الإسلامي هم سبب انحراف الأمة وتخلفها وضعفها ، وأن أولئك الذين وصفهم بعلماء السلاطين من دعاة العناية بالإصلاح العلمي والفردي والمجتمعي ، ومخالطة السلاطين لوعظهم وتصحيح مسارهم وتخفيف غلوائهم ، هؤلاء هم الذين صاحب وجودُهم وجودَ الخير والتقدم في الأمة .
فالذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه هم ثمرة فكر ثوري يرى أن الإعلان عن أخطاء الحكام وتعبئة القلوب عليهم هي المنهج الإصلاحي الأفضل ، وتم على يدهم الإجهاز على أعظم حقبة حكم راشد في التاريخ ، حاول علي رضي الله استئنافها لكنه قتل على يد أصحاب هذا الفكر الذي كان نواة نظرية المعتزلة في الخروج بالسيف.
وعبدالرحمن بن الأشعث ومن خرج معه من التابعين كانوا سبباً في تعطل الفتح الإسلامي في الشمال التركي باتجاه موسكو .
وفي المقابل وفي العصر نفسه نجد أنس بن مالك رضي الله عنه والحسن البصري دعاة الاستقرار والانشغال بالفتح و الإصلاح الشعبي والفردي ، ولو تم قبول رأيهم من قِبل الثائرين لربما تم فتح القسطنطينية وموسكو في ذلك الوقت من التاريخ.
وكان رجاء بن حيوة رحمه الله سبباً في استصلاح سليمان بن عبد الملك وعمومِ الخير في زمنه ، كما كان سبباً في خلافة عمر بن عبد العزيز .
وكان قرب محمد بن شهاب الزهري والأوزاعي من هشام بن عبد الملك أحد أسباب كل ماحصل في عصره من تقدم اقتصادي وثقافي وصناعي وزراعي وقضائي .
نعم لقد كانت الأكثرية الكاثرة من العلماء قد شغلوا أنفسهم بحفظ العلم وإصلاح الناس مع الحفاظ على مكانهم من البعد عن السلاطين والتورع عن مجالستهم ، وكانت هذه الثقافة هي الغالبة على علماء الإسلام طيلة تاريخه، وهذا يُكَذِّب ما يقوله الوردي من كون العلماء يقتاتون على موائد الحكام ، وهذه الثقافة-أي بعد العلماء عن الحكام- وإن كانت جعلت العلماء أكثر مصداقية عند الجماهير إلا أنها كانت سلبية الأثر فيما يتعلق بصلاح الحكام ، وذلك أنها أبعدت كبار العلماء ومخلصيهم وحكماءهم عن فرصة وعظ السلاطين التي تعين على صلاحهم وتخفف من أخطائهم ، بل جعلت رحاب الأمراء مفتوحة لأدعياء العلم أو سفهاء الناس والوصوليين الهادفين إلى الاقتيات الخاص والمنفعة العاجلة .
نعم لم يكن هؤلاء العلماء مع حرصهم على الابتعاد عن الحكام يدعون إلى ثورة أو خروج ، وكانوا يرون الإصلاح المجتمعي عقدياً وأخلاقياً هو السبيل الصحيح للتغيير إلى الأفضل ، وبعدهم عن الفكر الثوري هذا جعلهم علماء سلاطين عند علي الوردي ومن اصطبغ بصبغته المعتزلية من مثقفي أهل السنة المعاصرين.
والحقيقة أن هؤلاء العلماء رغم فضلهم بالمحافظة على استقرار الدول الإسلامية المتعاقبة وشدتهم في تحريم الخروج ، إلا أن عزلتهم عن الملوك ربما كانت سبباً من أسباب الانحرافات التي أدت في النهاية إلى فساد تلك الدول .
فسفيان الثوري لاشك أنه في مجال العلم أجل وأعظم شأناً من أبي يوسف رحمهما الله ، لكن أبا يوسف بصحبته لهرون الرشيد كان أنفع للمسلمين في حينه من سفيان الذي طلبه الخليفة المنصور والمهدي للقضاء وللحسبة ففر منهم ، وكان إذا زاره الولاة أعرض عنهم ، وإذا سأله أحدُهم عن حاجته قال ألَّا تأتيني ؛ فهذه السجايا فيه رحمه الله وفي أكثر علماء الإسلام.
وبالرغم من ضعف صلة الإمامين:طاووس ومالك بالولاة والخلفاء إلا أنها كانت ذات أثر في نصحهم وفيما قدموه للدولة ، وربما أن الانحراف العقدي الذي شهدته دولة بني أمية في عهد مروان بن محمد ، والدولة العباسية في عهد المأمون كان لابتعاد العلماء عن الحكام أثر فيه .
والحسين بن علي الطوسي أحيا الله به قوة المسلمين وعلومهم وكان ذلك بسبب خلطته بأمراء السلاجقة حتى صار وزيراً لألب أرسلان وتسمى بنظام الملك وبلغت الدولة في عهده من الصين حتى البحر المتوسط.
والإمام أبو بكر بن هبيرة كانت صلته بالخلفاء في القرن السادس الهجري ذات أثر في إصلاح كافة شؤون الدولة حتى أصبح هو الوزير الأول للخليفة المقتفي.
ومن المتضح تاريخياً أن صلة ابن تيمية رحمه الله بالحكام كانت هي المؤثر الأكبر في سلامة دمشق من استيلاء المغول ، وكذا في قوة الدولة على أعدائها .
والأمثلة على وعاظ السلاطين هؤلاء وما قدموه للأمة كثيرة لا يتسع لها مقال .
أما دعاة الثورة والخروج فشأنهم منذ أول دولة الإسلام حتى اليوم واحد ،فكل تمزق وكل تأخر وانحطاط كان جراء ثوراتهم ما نجح منها وما فشل.
والمخجل حقاً أن العلماء من فرقة المعتزلة سوى أئمة اليمن الزيديين ، لم يخرج منهم أحد في التاريخ على حد علمي ، مع أنهم هم حملة راية التنظير للخروج والثورة على الحكام ، وفي هذا درس بليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
د.محمد بن إبراهيم السعيدي
جزاك الله خيرا.
هذا الكتاب الى سنوات قريبة كان له من يروجه بشكل كبير في مواقع القراءة وكل من ينتقده يهاجم.
المصطلح مع الأسف الآن هو مصطلح إعلامي دارج وهومحل لمز للعلماء ، حيث يلمز اللبراليون العلماء بالوعاظ تحقيرا وتقليلا من شأنهم. لقد شوه المصطلح فصار سلبي الدلالة.
جزاك الله خيرا.
جزاك الله خيرا واسعدك
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خير د. محمد على جهدك المبارك لبيان الحق ونصر أمة الاسلام والنصح لله ورسوله وولاة امرنا وللمسلمين.