المرأة والتنمية على هامش ملتقى الفكر العربي

تكبير الخط تصغير الخط

في ملتقى الفكر العربي السابع عشر والذي يُعقد فيمدينة الظهران شدني أن أحد محاوره جاء للبحثعن مفهوم جديد للتنمية ؛ فأردت أن يكون مقاليهذه المرة مشاركةً من بعيد في هذا المحور .

فلتنمية في الاقتصاد الرأسمالي تعريف، ولها فيالواقع الدولي حالٌ مشاهد ، فالتعريف يُسألُ عنهأهل الاختصاص ، وأما الواقع فالجميع يُمكنه أنيَحْكِيَ منه الجانبَ الذي يُشاَهده ، يكبر هذاالجانب ويصغر ويعمق ويتسطح وفق موقع كلمتحدث ومكانته العلمية والعملية ، وأنا من هذاالجميع ،لذلك سأتحدث عن التنمية من حيثواقعها  المشاهد في العالم وليس عن تعريفهاالعلمي .

ومن هنا هي تعني: زيادة الاستهلاك والتشجيععليه وتنويع المستهلَكَات وتشجيع التسابق إليهاوتضخيمها ؛ ولذلك لابد من غزارة الإنتاج وتنوعهبدرجة غير متناهية لتلبي الحاجات سريعة التجددللمستهلِك تارةً ولتفتح مجالات جديدة للاستهلاكتارة أخرى ؛ويشمل الاستهلاك والانتاج قطاعالعمران والمواصلات والاتصال والتسليح والغذاءواللباس والأثاث والدواء  والإعلام وغيرها كثير،الكل منها يتسع ويتنوع ليُصبح العالم كله فيسباق غير معلوم النهاية في ميدان الإنتاجوالاستهلاك .

وبالتالي نجد مشهد التنمية يشتمل على تضخمغير متناهٍ  فالسِّلع تزيد أثمانها يوماً بعد يوموالعملات تضعف قوتها الشرائية باستمرارأوتضعف قيمتها الذاتية إضافةً إلى ضعف قوتهاالشرائية ، والمحصلة غلاء مستمر في الأسعار لايوجد أمل في توقف تصاعده.

وفي مشهد التنمية العالمية أيضا بطالة متناميةحتى إن أكثر الدول صناعة وأعمالاً لم تستطعالقضاء على تناميها إلا بحلول مؤقتة وبعضها غيرأخلاقي.

وكذلك التنامي في معدلات الفقر العالمية ، فكلالدول التي تنتهج الحلول الرأسمالية ومنها الدولالصناعية والتجارية الكبرى تزيد فيها سنويا وربماشهرياً معدلات الفقراء وتقل الطبقة المتوسطةويزداد الأثرياء ثراءً ، والأمر أشد سوءًا في الدولالفقيرة التي تقلد الدول الكبرى وتحاول حلمشكلاتها برسملة اقتصادها.

ولا أنسى الدين العام الذي لا تسلم منه حتى الدولالأكثر تقدما كالولايات المتحدة ودول أوربا التي قدتفوق نسبة الدين إلى ناتجها الوطني مائة فيالمائة تحاول تقليصها عن طريق الضرائب علىحصيلة أملاك الناس وجهدهم حتى إن الضريبةعلى الدخل قد تقارب نصف راتب بعض الفئات منالموظفين.

هذا هو مجمل مشهد التنمية في العالم والذيتُكَوِّن المرأة إحدى إشكالياته الكبرى حيث يُنظرإليها على أنها نصف القوة العاملة كالرجل تماماًوبذلك فإن بقاءها في بيتها يجعلُها تُحْسب فيعِداد البطالة ،وانتظامُها في عمل خارج بيتهايجعلها تُسْهِم في تفاقم مشكلة البطالة لدى الرجالولا تؤدي إلى حل بطالة النساء وفق المفهومالرأسمالي للبطالة  ، كما يؤدي عملها إلى فراغالبيت من المرأة ، ولا أعني فراغه منها كزوجة وأمومربية فقط ؛بل فراغ البيت منها كَمُنْتِج وكصانعثقافة استهلاك .

فإن لزوم النساء المنازل لا يعني بطالتهن كمايقتضيه النظام الرأسمالي ؛ بل يعني العودة إلىالاقتصاد الطبيعي الذي تُشَكِّل المرأة فيه المنتِجالأول للغذاء واللباس وكثير من الأثاث وأدواتالزينة؛ وكفاية المجتمع منها عن طريق التبادلالأُسْري بدلاً عن التبادل الدولي إذ يستغنيالمجتمع عن كثير من منتجات المصانع في الغذاءواللباس بمنتجات تصنعها الأسر لبعضها .

نعم إن جانباً كبيراً من نجاح الرأسمالية وفقالمعايير الرأسمالية للنجاح كان بسبب اعتبار المرأةنصف القوة العاملة وخروجها بالكلية من البيتلأداء ما تفرضه عليها القِيَم الرأسمالية من واجبات، وفشل الرأسمالية فيما بعد كان أيضا بسبببقائها على هذه المفاهيم بل وزيادة تعمقها فيها .

أُوَضِّح ذلك وأَبْسُطُهُ بشيء من التكرار فأقول:حينكانت المرأة في بيتها قبل ثلاثة قرون من الزمان فيالمجتمعات المتمدنة والقروية لم يكن الناس فيحاجة إلى مصانع للغذاء واللباس والأثاث ، فقدكان النساء في بيوتهن يقمن بكل ذلك إما لصالحأُسَرهن ، وإما لمقايضة منتجاتهن بمنتجات الأسرالأخرى ، وما يزيد من حاجة السوق عن طاقاتهنالإنتاجية يقوم به الحِرفِيُون من الرجال ؛ فكانالغذاء واللباس والأثاث الذي تصنعه المرأة متوافقاًمع مطالب المجتمع وإمكاناته المادية وإمكاناتالأرض التي يعيش عليها ، سواءً أكانت هذهالمطالب ضروريةً أم حاجيةً أم تحسينية وحتىالمنتجات  التحسينية كأغذية المُرَفَّهِين لم تكن عرضةللتجديد المستمر والتكثير المتلاحق لأن المقصودمنها إنما هو سد الاحتياج التحسيني وحسب لدىطبقة من المجتمع وصلت رفاهيتها حد المطالبةبالتحسينات ؛ ولهذا كان استهلاك المواد الأولية أوالخام لهذه المنتجات لا يؤثر على البيئة مطلقاً ولايُضعف الموارد ولا يُلجئ إلى الاستيراد أو الاعتداءعلى موارد الشعوب الأخرى إلا في حالات تاريخيةمعينة كالقحط والوباء ، أما في حالات استقرارالموارد فإن الاستيراد يكون محدوداً وأثره مقتصرعلى طبقات محددة من المجتمع أو على أصحابمهن معينة ولم يكن ضرورة أو حاجة مُلِحة .

ومن هنا نتأكد أن من يصنع تلك الأشياء[الغذاءواللباس والأثاث والزينة]هو من كان يصنع العاداتوالطبائع المتعلقة بها ولعلنا لا نكون مبالغين إن قلناإن جُلَّ العادات والطبائع مرتبطةً ارتباطاً يقرب أويبعد بهذه الأمور الأربع ، وبهذا نؤكد أن المرأة قبلالعصر الحديث كانت هي صانعة العاداتوالطبائع في أكثر المجتمعات في العالم ؛ وكانتأيضا هي صاحبة الفضل في الاستقرار السلوكيلدى أمم العالم ولدى أمتنا نحن العرب والمسلمين ،حيث كان الناس يعيشون استقراراً أُسَمِّيه هناالاستقرار السلوكي حين كانت طبائعهم وعاداتهمبطيئة التغير في الجملة كما أنها قليلة التباينبحيث كنت ترى العادات متقاربة ليس في الإقليمالواحد بل في الأقاليم المتباعدة .

وهذا الاستقرار في السلوك والطبائع كان يثمرلقرون طويلة جداً أستقراراً ولو نسبياً في الأسعار، وأعني أسعار السلع وأسعار الأثمان ، فإننا حيننُراجع بعض كُتُبَ التاريخ وكتبَ الرحلات التياعتنت بذكر الأسعار لا نجد فروقاً شاسعة فيهابين القرون والأقاليم المتباعدة ، إلا في فتراتاستثنائية حين يقول المؤرخون :وفي هذه السنة عمالغلاء ، وهي ظواهر ليست أصلية وإنما تحدثبأثر حروب أو أوبئة أو أيٍ مما يمكن أن يكون منالكوارث ؛ لكن الغالب هو تقارب الأسعار  وعدموجود ما يُعرف اليوم بالتضخم الذي لم يستطع  اقتصاديو العالم أن يخبرونا متى وكيف وأينسيتوقف أو متى سينفجر.

الجديد في القرون المتأخرة :أن المرأة خرجت منمكان الإنتاج الذي تملكه وتسيطر عليه وكانت منخلاله تتحكم في انضباط العادات والطبائعالبشرية وتتحكم في استقرار السوق ، لتعمل فيمصنع أو في مؤسسة تتقاضى منها أجراً هو فيالظاهر مقابل عمل ، والحقيقة التي تجلت معمرور  السنين أن النساء تخلين مقابل هذا الراتبعن سلطتهن الطبعية على الاقتصاد والثقافاتفضلاً عمَّا لا يخفى من إضعاف عملهن خارجالبيت من سلطتهن في تربية الأسرة وتوجيهها .

فالمصانع أصبحت تضخ من المنتجات ما هو أكبرمن حاجة السوق بكثير لذلك طفقت تجتهد بكلالوسائل ليستهلك الناس أكبر من حاجاتهم حتىيستوعبوا إنتاجها ، ثم أخذت المصانع تتنافسفيما بينها في تنويع المنتجات وتغييرها بشكلمتسارع لينتج عن ذلك تنويع العادات الاستهلاكيةوتغييرها بسرعة مذهلة جعلت المال الذي يتقاضاهالرجل والمرأة معاً لا يسد احتياجاتهما التي تتطوركل يوم بحيث يصبح ما كان كمالياً تحسينيابالأمس ضرورياً اليوم وتأتي سلعة كمالية جديدةليتطور أمرها كما تطور أمر سابقتها لتصبحضرورية غداً ، وهكذا يعيش الناس والمصانع فيسباق محموم بين الإنتاج والاستهلاك وصل إلىمصانع الأدوية  والشركات الطبية التي أخذت هيأيضا تبتكر من المقويات والمضادات الحيوية مايحملها أحياناً إلى ابتكار الأمراض وصناعتها .

وهذا الإنتاج العريض أدى إلى العدوان علىالموارد فأصبحت الغابات كمثال واضح في خطرلأن استهلاك  الناس المنتجاتِ الخشبية أصبحضخما ومتجدداً ولم يعد قاصراً على الأبوابوالكراسي ؛ فلم يعد ما يُحدد الاستهلاك هو حاجةالمجتمع التي كانت المرأة تضبطها طيلة قرون ؛ بلأصبحت رغبات المصانع وأجهزة الدعاية والإعلانهي التي تملي على المجتمعات ثقافتهاالاستهلاكية  وعاداتها وطبائعها .

وأدت الغزارة في الإنتاج والاستهلاك إلى زيادةكلفة السلعة ومِن ثَمَّ زيادة ثمنها .

وشملت غزارة الإنتاج التسابق على إنتاج التقنيةالتي تُغني عن الأيدي العاملة فأدى ذلك إلى وفرةاليد العاملة وبطالتها ورخصها ، وأصبحت المرأةالتي خرجت للتنمية بالمفهوم الرأسمالي عبئاً كبيراًعلى التنمية وعلى نفسها .

حقيقةً إن الحماس الكبير لإخراج المرأة من البيتوالمبالغة في تهييء فرص وظيفية لها استجابةلمفهوم البطالة الرأسمالي لن يفيد المرأة ولن يفيدالمجتمع ، وأولى منه البحث عن وسيلة لإعادة المرأةلدينا إلى مركز إنتاجها الصحيح قبل أن تكونعودتها أصعب من عودة الهواء إلى البالون.

التعليقات

رد واحد على “المرأة والتنمية على هامش ملتقى الفكر العربي”

  1. يقول طارق عبدالقادر بوقري:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
    مقال رائع من حيث استشعار عوامل متعددة مؤثرة في مفهوم التنمية .. وقد أوضح فيه كاتب المقال سعادة د/ محمد السعيدي دور المرأة العاملة في التأثير على مسار عجلة التنمية بشكل سلبي منذ دخولها إلى سوق العمل وبعدها عن الدور الرئيسي في المنزل وإدارة شؤون الأسرة …
    إضافة إلى تطرق الكاتب الى عملية تحول فكر ومبدأ الاستهلاك لدى عامة الناس والتأثير عليهم في عمليات تحديد المنتجات الكمالية من الرئيسية وذلك من خلال تسخير وسائل الدعاية والإعلان في هذا الشأن .. ويسمح لي سعادته في إضافة عنصر آخر مؤثر وهو توفير فرص التمويل البنكي للجميع للحصول على هذه المنتجات وتكبد المستهلك لمشاق متعددة طوال فترة سداده ناهيكم عن عدم مشروعية الدخول في أعمال ربوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.