الوسطية في فهم الابتلاءات الإلهية

تكبير الخط تصغير الخط

اختفت عن النقاش في الساحة الثقافية والمجتمعية السعودية تلك النقاط التي كانت تثير اشتجار النُخب السعودية، وذلك بعد حلول وباء كورونا ، فلم نعد نرى الحديث عن الاختلاط والتبرج والموسيقى ومدى خصوصية المجتمع السعودي والتغريب ، وغير ذلك من القضايا التي كانت موضع نقاش عنيف واصطفاف وتجاذب شديد الأهمية وشديد الإزعاج أيضا.
لكنني أشعر أننا استبدلنا قضية أخرى بتلك القضايا ، وهي في نظري أكثر خطورة من كل تلك المسائل وأصبحت هي موضوع الاصطفاف والتجاذب وموضع استشكال عند عديدين من مُختلِف طبقات الناس .
وأعني بها قضية الحكمة الإلهية من إنزال مثل هذه الكوارث من الأوبئة في مجتمع مثل مجتمعنا السعودي ، هل هي عقوبة إلهية جراء ما يقع فيه الناس من معاص لأوامر الله عز وجل مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَما أَصابَكُم مِن مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَت أَيديكُم وَيَعفو عَن كَثيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠] لذلك على المجتمع بكافة طبقاته أن يُقْلِع عما يقع منه من منكرات ويلجأ إلى الله تعالى ويتوب إليه توبة يصطحب فيها العزم على عدم العودة إلى ما يغضب الله تعالى لأن التوبة بنص كتاب الله تعالى سبب مباشر للمتاع الحسن في هذه الدنيا كما أخبر عز وجل:،﴿وَأَنِ استَغفِروا رَبَّكُم ثُمَّ توبوا إِلَيهِ يُمَتِّعكُم مَتاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذي فَضلٍ فَضلَهُ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنّي أَخافُ عَلَيكُم عَذابَ يَومٍ كَبيرٍ﴾ [هود: ٣] وهذه الرؤية المنطلقة من القرآن لا تتعارض مع بذل الأسباب المادية من العزل والاستشفاء بسائر الأدوية المتاحة ، فما التطبب إلا سبب خلقه الله تعالى ولن ينفع أو يضر إلا بمشيئته سبحانه.
ويقول آخرون : بل هو ابتلاء لهذا المجتمع الطيب المؤمن العامل المتصدق الطائع لله تعالى كما يُبتلى المؤمنون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَلِيُبلِيَ المُؤمِنينَ مِنهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليمٌ﴾ [الأنفال: ١٧] وقوله تعالى : ﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ ۝ وَلَقَد فَتَنَّا الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبينَ﴾ [العنكبوت: ٢-٣] فما حدث إنما هو فتنة لأهل هذا البلد الطيب بسبب إيمانهم كما فُتِنَت مجتمعات مؤمنة بسبب إيمانها ، فالطواعين والكوارث أصابت خير الأجيال قَبْلَنا ولم يكن ذلك عن عقوبة لمعصية أو استحلال ذنب فقد أصاب الطاعون والمجاعة في وقت واحد الصحابة سنة ١٨ للهجرة ، وبقية الصحابة والتابعين في العراق والشام سنة ثمانية وأربعين للهجرة وسنة ثمانية وستين للهجرة ، ولا يمكن أن يقال إن هؤلاء أصيبوا بذنوبهم وهم خير القرون كما جاء في الحديث الصحيح :”خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”
ويقول الفريق الثالث :ليس الأمر من هذا كله ، وإنما هي ظاهرة طبيعية ليس لها علاقة بأعمال الناس ، فقد وقعت الأمراض والكوارث طوال التاريخ وحتى اليوم على مختَلِف الشعوب ولم تكن تُفَرِّق بين مؤمن وكافر وبين مُتَّبِع وعاص ؛ ويمكن أن نجد في القرآن شاهداً لذلك من مثل قوله تعالى : ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبديلًا﴾ [الأحزاب: ٦٢]
ثم يدخل هؤلاء وهؤلاء في جدل يصل بالقليل منهم إلى أن يضربوا آيات الله ببعضها ، فكلما أتى أحدهم بآية أتى الآخر بالتي تقابلها في الدلالة ، ويحصل من ذلك من العبث بالقرآن والتشكيك فيه ما يملأ صدر المؤمن أسفا.
والأصل أن المؤمن مطالب بأن لا يتألى على الله تعالى ويدَّعي أن هذا الوباء أو هذه الجائحة من غضب الله تعالى ، وعليه أيضاً أن لا يتألى عليه سبحانه
فيُزكي نفسه ويقول: إن هذا الوباء جاءنا لأجل إيماننا .
فغضب الله ورضاه عز في عُلاه صفتان له سبحانه من عالَم الغيب الذي حجبه عنَّا ونحن مكلفون شرعاً باتباع ما يرضيه واجتناب ما يُسخطه ، ونرجو عاقبة رضاه في الدنيا والآخرة ونخشى عاقبة غضبه في الدنيا والآخرة ؛ لكننا لا نقول عن خيرٍ أصابنا منه إنه علامة رضاه وإنما نظل نرجوه وندعوه ونتوسل إليه أن يكون ذلك كذلك ونستمسك بما مَعَنَا مما يرضيه استبقاءً لنعمه؛ ولا نقول عن سوءٍ مَسَّنا منه إنه عقاب وإنما نظل على وجل وخشية من ذلك ،ونُقلع عما نقترفه مما يُسخطه دفعاً لنقمته .
وقد وصف سبحانه بعض خلقه بقوله: ﴿فَأَمَّا الإِنسانُ إِذا مَا ابتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقولُ رَبّي أَكرَمَنِ ۝ وَأَمّا إِذا مَا ابتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقولُ رَبّي أَهانَنِ﴾ [الفجر: ١٥-١٦] فسمى الحكيمُ العليمَ إكرامَ الإنسانٍ وتنعٍيمه ابتلاءً كما سمى تضييق الرزق عليه ابتلاءً ، وذَمَّ من يجزم بأن ما يصيبه من الله تعالى من الإكرام إكراما ، كما ذم من يجزم بأن ما أصابه من تضييق الرزق هوانا ، سواء بسواء ، وذلك لأن العبد ليس مأموراً باستكشاف الغيب وشغل نفسه به ، بل مأمور في جميع الأحوال بالطاعة والخشية .
ثُمَّ إن من عجائب المؤمنين ومحاسنهم أنهم يستطيعون الجمع بين الرجاء والخوف في آن واحد كما قال تعالى في وصفهم : ﴿أُولئِكَ الَّذينَ يَدعونَ يَبتَغونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسيلَةَ أَيُّهُم أَقرَبُ وَيَرجونَ رَحمَتَهُ وَيَخافونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحذورًا﴾ [الإسراء: ٥٧]
تأمل في الآية كيف وصفت المؤمنين بالجمع بين الرجاء والخوف .
فإذا نزل بالمؤمن فرداً أو جماعة بلاء ، فإنه يرجو أن يكون ذلك رفع درجات له ، ويخاف أيضاً أن يكون عقوبة على تقصير وهذا هو التأويل العملي لمثل قوله تعالى: ﴿أَوَلَمّا أَصابَتكُم مُصيبَةٌ قَد أَصَبتُم مِثلَيها قُلتُم أَنّى هذا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [آل عمران: ١٦٥]
كما يخشى أن يكون امتحاناً وفتنة كما قال تعالى:﴿كُلُّ نَفس ذائِقَةُ المَوتِ وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينا تُرجَعونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥]
فقد أخبر سبحانه في الآيتين المتقدمتين أن المصائب تأتي جراء الذنوب ، كما أخبر أنها تأتي فتنة للصالحين ، بل ليست الفتنة بالشر وحسب ؛ وإنما هي كذلك بإسباغ النعم وتعميم الخير.
فالمؤمن وحده قادر على أن يستشعر ذلك كله في آن واحد، ولا يُحِس بأي اضطراب أو تناقض ، أما من ضعف إيمانه فيُشكل عليه هذا الأمر ولا يستطيع الجمع بين هذه الأمور ، ويحس بالاضطراب بينها .
ولشيوع ضعف الإيمان أجارنا الله وإياكم اختلف الكثيرون إلى فريقين :
– فريقٍ غلَّب جانب الخوف وأصبح لا يتحدث إلا في المنكرات وكونها هي السبب فيما حدث في بلادنا من الوباء.
-وفريق غلَّب جانب الرجاء حتى أنكروا كل تقصير وكل مخالفة وأصبحوا يتحدثون عنا وكأننا مجتمع ملائكي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ؛ ومنهم من تطرف أكثر وأصبح يبرر للأخطاء ويزعم شرعيتها .
وليس الحق مع أحد من هذين الطرفين ؛ بل الحق هو الوسط ، وهو مع من يقول :
إن الخلق كلهم عباد الله وأن الله تعالى ينزل البلاء والمصائب على الناس فيجعلها عقاباً لبعضهم ورفعة لبعضهم واستدراجاً لبعضهم وتخويفاً لبعضهم ، ولذلك يقابل المؤمنُ هذا البلاء وكُلَّ بلاءٍ راجياً لله فيتقرب إليه بحمده ويشكره ، خائفاً من الله فيتقرب له بالإقلاع عن معصيته والتزيد من طاعته ؛ حَذِرَاً من استدراج الله فلا يطغى ولا يبغي في مقابلة ما يُنعم به الله عليه من مال وأمن وقوة .
هكذا يكون المؤمن فلا تستشكل عليه النصوص ولا يحتاج لأن يضرب بعضها ببعض فكلها محل عنايته وعمله ، وعقله وعاطفته وجوارحه قادرة على أن تستوعب جميعها وتعمل بها كلها لا وكس ولا شطط.
والحمد لله رب العالمين

د محمد السعيدي

التعليقات

4 ردود على “الوسطية في فهم الابتلاءات الإلهية”

  1. يقول أبو عثمان:

    زادك الله علمًا ونفع بك

  2. يقول فلاح المطيري:

    جزاك الله خيرا د محمد فقد أجدت وافدت ابا ابراهيم واسمح لي بمشاركة المقالة في التويتر والواتس وكل وسائل التواصل لعموم الفائدة للجميع نفع الله بك

  3. يقول أحمد محمد إسلم:

    المصائب والكوارث والأوبئة سببها الذنوب والإعراض عن الله والتمادي في الغي والهوى ؛ قال جل من قائل “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ” صدق الله العظيم
    وقال عليه الصلاة والسلام ” إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ”
    ولله حكم أخرى في البلاء لرفع درجت أهل الإيمان والتقوى
    وكل ما يحل اليوم لنا – نحن المسلمين – في كل بلاد الإسلام هو – وبلا شك – بسبب ذنوبنا وإعراضنا عن أوامر الله و؛ واتباع الكفار شبرا بشبر وذراعا بذراع .
    فيجب علينا المبادرة بالتوبة والرجوع إلى الله؛ ومن لم يبادر فإنه لا يضر إلا نفسه ؛ والله غني عن طاعة المضيع ولا تضره معصية العاصي ؛ تستغفر الله ونتوب إليه

  4. يقول محمد ابوعبدالعزيز:

    جزاك الله خير شيخنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.